الأربعاء ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

أولاد حارتنا .. لها حكاية وليس لها نهاية!

رفض صاحبها نشرها في مصر طيلة حياته

صدرت في القاهرة طبعات جديدة فاخرة لكل الأعمال الروائية التي كتبها الروائي العربي العبقري نجيب محفوظ، ومن بين هذه الأعمال رواية أولاد حارتنا التي رفض صاحبها الموافقة علي نشرها في القاهرة طيلة حياته، علي الرغم من أن هذه الرواية الفاتنة ظلت تطبع باستمرار في بيروت، ليتلقفها القراء في القاهرة وفي سواها من العواصم والمدن العربية.

لماذا رفض نجيب محفوظ الموافقة علي نشر أولاد حارتنا في القاهرة؟!.. السر في هذا راجع إلى أن هذه الرواية بالذات لها حكاية، لكنها تختلف عن سواها من الحكايات التي لها بداية ولها أيضا نهاية،فأولاد حارتنا لها حكاية تتوالي دون أن تبدو لها نهاية!

تبدأ أحداث حكاية رواية أولاد حارتنا حين فرغ نجيب محفوظ من كتابتها في شهر ابريل سنة 1958 ثم بدأت جريدة الأهرام العريقة في ظل رئاسة الأستاذ محمد حسنين هيكل لتحريرها في نشرها علي هيئة حلقات يومية، ولم يثر نشر الحلقات الأولي منها أية ضجة،إلي أن نشرت جريدة الجمهورية خبرا صغيرا، مفاده أن الرواية المسلسلة التي تنشرها الأهرام فيها تعريض بالأنبياء!

ماذا جري بعد نشر هذا الخبر الصغير؟.. أترك الإجابة لنجيب محفوظ نفسه حيث قال للكاتب الكبير رجاء النقاش: .. بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف في إرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة ومشيخة الأزهر، بل إلي رئاسة الجمهورية، يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمي إلي المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي.. وخُدع رجال الأزهر في هذه الأزمة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية وفهمها ،بل ان بعضهم لم يقرأ رواية أدبية من قبل، ومن هنا فسروا رواية أولاد حارتنا تفسيرا دينيا، ورأوا ان شخصية أدهم في الرواية ترمز إلي آدم، وشخصية جبل هي موسي، وشخصية رفاعة هي شخصية المسيح، أما شخصية قاسم فهي شخصية محمد عليه الصلاة والسلام.. وهكذا.. وقد دافع عن الرواية الأستاذ محمد حسنين هيكل ولولاه لكان توقف نشرها في الأهرام فورا..

ويقول نجيب محفوظ انه بعد انتهاء نشر الرواية كاملة، قابله الدكتور حسن صبري الخولي- الممثل الشخصي للزعيم جمال عبدالناصر، وقال له إنه لايستطيع ان يسمح بنشر الرواية في مصر ككتاب ،لأنه في حالة صدوره سيثير مشكلة كبيرة مع الأزهر، ولكن من الممكن أن تنشر الرواية خارج مصر، وقد التزم نجيب محفوظ بهذا طيلة حياته، وهكذا أخذت دار الآداب البيروتية التي يديرها الكاتب الروائي الدكتور سهيل ادريس في نشرها، وظلت طبعاتها تتوالي ،لدرجة أنها طبعت اكثر من عشر مرات علي أقل تقدير.

ظلت أولاد حارتنا تنطلق من بيروت إلى مكتبات القاهرة، ومن أشهرها مكتبة مدبولي ولم يكن الحاج مدبولي يبيع أية نسخة منها لمن يستريب فيه، حتي لا يقع هو شخصيا في مشكلة أو مشكلات.. وأتذكر هنا حدثاً شخصيا وقع لي، ففي احدي اجازاتي السنوية، كنت اتفحص مجموعة من الروايات التي يعرضها أحد الباعة في أحد شوارع حي المهندسين بالقاهرة، وكان هذا بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، ولاحظت ان رواية أولاد حارتنا ليست ضمن هذه الروايات، فسألت البائع عنها بهدوء، فإذا به يرد بتشنج: أنا ما ببعش رواية كلها كفر !.. سألته بنفس الهدوء: هل قرأت هذه الرواية؟.. قال: مش عايز أقراها!.. ولم يستطع ان يرد، وبدا محرجا أمامي حين سألته في النهاية: كيف تحكم علي شيء دون أن تكون لك معرفة به؟!.. كنت أتمني ان تقرأ الرواية، وبعدها تستطيع ان تحكم عليها وأن تقول ما تشاء!

بعيدا عن هذا البائع الذي لم يقرأ أولاد حارتنا ورغم هذا حكم عليها بأنها رواية كلها كفر أقول ان الذين قرأوها وكتبوا عنها قد خضعوا لتأثير عاملين حاسمين، لا ثالث لهما، فإما الاعجاب بغير حدود، وأما التشنج الصادر من عقل محدود!

للكاتب اللبناني جورج طرابيشي الذي بدأ حياته الفكرية ماركسيا وانتهي عبثيا كتاب كامل بعنوان الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية وقد حلل فيه رؤيته لقصة زعبلاوي ورواية الطريق ورواية أولاد حارتنا ويري جورج طرابيشي في تحليله أن زعبلاوي و سيد الرحيمي و الجبلاوي في هذه الأعمال تصور جوهر القوة العظمي التي تتحكم في مسار الكون..

وللكاتب الكبير رجاء النقاش عشرات المقالات، فضلا عن العديد من كتبه النقدية التي خصصها بشكل جزئي أو كامل لدراسة أدب نجيب محفوظ، وهو يري أن أولاد حارتنا تبحث في مصير الانسان علي الارض، وفي الايمان الفطري الكامن في قلب الانسان، وهو الايمان الذي تخلي عنه العلم الحديث، متمثلا في شخصية عرفة الذي قتله الطاغية في خاتمة الرواية، لكي يتمكن وحده من تسخير العلم في الهيمنة المطلقة علي كل المستضعفين والغاء ارادتهم وتحويلهم الي مجرد أدوات ودمي يحركها بأصابع يديه، وكأنه يتلهي بها وبمصائرها.

وهناك آخرون - غير جورج طرابيشي ورجاء النقاش - ناقشوا أولاد حارتنا وفسروها - كما قلت - من خلال اعجابهم غير المحدود بها، واعترف بأني واحد من هؤلاء، أما الذين فسروا الرواية عن جهل بها أو من خلال عقولهم المنغلقة، فهؤلاء لا يتعاملون مع نجيب محفوظ وحده بهذه الطريقة الغبية، بل يتعاملون مع كل ما هو متغير من الاعمال الادبية والفنية، علي اساس ان هذه الاعمال ليست سوي بدعة وليست سوي كفر صريح، والعجيب أن هؤلاء يعطون لأنفسهم الحق في أن يحكموا علي أشياء ليسوا مؤهلين للحكم عليها، بل انهم لا يستطيعون استيعابها بسبب طبيعة عقولهم المتحجرة!

ها هي أولاد حارتنا في القاهرة من خلال دار الشروق التي اصدرت كل أعمال نجيب محفوظ في طبعات جديدة فاخرة، ولم تعد بيروت وحدها هي التي تتولي طباعة أولاد حارتنا من خلال دار الآداب وتظل هذه الزاوية الفاتنة خاضعة لمختلف التفسيرات، كما تظل نهايتها مفتوحة، لأنها - كما قلت - رواية لها بداية، دون أن تكون لها نهاية!

رفض صاحبها نشرها في مصر طيلة حياته

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى