الخميس ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

المســــرح و الجمهــــور

يمكن أن نتنازل في المسرح عن كل المكونات التقنية والعناصر السينوغرافية والإكسسوارات ومناظر الديكور والماكياج والأقنعة والإضاءة، لكن لايمكن لنا بتاتا الاستغناء عن ركنين أساسيين وهما: الممثل والجمهور، فلا مسرح بدونهما ولا وجود لفرجة درامية في غياب المرسل الركحي والمتلقي الشاهد ، ولا مسرح بممثل دون جمهور والعكس صحيح أيضا.

أ‌- المسرح اليونانـــي:

بدأت علاقة المسرح بالجمهور مع المسرح الإغريقي عندما كان المسرج طقسا احتفاليا يشارك فيه كل المواطنين اليونانيين من أجل تقديم قرابين الولاء والمحبة والطاعة لإله ديونيسوس إله الخمر. وما نظرية التطهير الأرسطية التي تستهدف التأثير على نفسية المتلقي سوى دليل قاطع على جدلية الفرجة والمتقبل. فالمسرح كما ينظر له أرسطو بإيقاعه التراجيدي لابد أن يؤدي وظيفة التطهير عن طريق إثارة الخوف والشفقة في المشاهد المحتفل لكي يتمثل القيم الفاضلة في التراجيديا ويتجنب الشر وما يتعلق به من قيم منحطة. وغالبا ماكان التواصل بين الممثل والمتلقي يتم بين الراوي le Chœur والجمهور الذي كان يجلس إما في مدرجات المسرح ( ثياترون) المفتوح أويتحلق حول الخشبة حيث الجوقة ( الأوركسترا) ومصطبة الممثلين. وكان فضاء المسرح يتخذ عدة أشكال هندسية ومن أبرزها نصف الدائرة ويمثله مسرح ديونيزوس.

وقد سجلت كتب تاريخ الفن مدى الإقبال الكبير على المسرح اليوناني إذ كان يحضره كل المواطنين الأحرار سواء أكانوا أغنياء أم فقراء. وكان الناس يستيقظون مبكرين مع الفجر لمشاهدة الفرجة التي كانت تبدأ مع الصباح حاملين معهم سلال الطعام والشراب قصد تتبع كل المسرحيات المعروضة التي قد تمتد حتى غروب الشمس، والتي كانت تعبر عن همومهم الذاتية وقضاياهم الواقعية ومشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويكفي أن نشير أن مسرح ديونيزوس كان يسع لما بين 15و17 ألف متفرج ولاسيما في عهد بريكليس الذي أنشأ الدولة- المدينة على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومساواة المواطنين اليونانيين أمام القانون والعدالة. وهذا يؤكد مدى ازدهار المسرح اليوناني في العهد الكلاسيكي أيما ازدهار، والدليل على ذلك تسلح الممثلين بالسخرية والهجاء في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية بكل جرأة وشجاعة كما يتجلى ذلك في مسرحية" الضفادع "لأرستوفانوس.

ب‌- المسرح الروماني:

وبعد أن كان المسرح اليوناني له وظيفة تربوية وأخلاقية ووطنية، فقد أصبح المسرح في عهد الرومان لايؤدي سوى وظيفة الترفيه والتسلية وإثارة الجمهور بفخامة الديكور وعظمة المعمار المادي والسنوغرافيا الفخمة مع إبهار الجمهور المتفرج بتقنيات عالية في تشغيل الفرجة كاستخدام الطيور والحيوانات وتنفيذ مشاهد حريق حقيقية وإضرام النار في الديكور؛ مما كان لهذا المسرح تأثير سيء على الجمهور وذوقه.

ج- المسرح في العصور الوسطى:

اضمحل المسرح في العصور الوسطى وأصيب بوقفة قلبية مع هيمنة الكنيسة على شؤون الحياة ودواليب الثقافة ،لأنها حرمت ممارسة المسرح واستهجنت كل من يمارس التمثيل. وعلى الرغم من ذلك، فقد ارتبط المسرح بماهو ديني وأخروي ، وتم تغييب أسس الدراما اليونانية والرومانية والانسلاخ عنهما لربط كل ماهو تشخيصي ولعبي بالكنيسة والقداس المسيحي.
وفي المقابل، كانت هناك بعض النصوص الكوميدية الهزلية التي تناقش بعض المواضيع في إطار رؤية أخلاقية دينية. ويعني هذا أن المسرح في العصور الوسطى كان له تأثير ديني وأخلاقي وروحي على الجمهور ليس إلا.

د- المسرح في عصر النهضة:

توجه المسرح إبان عصر النهضة إلى الجمهور المثقف العالم أو النخبة الأرستقراطية المثقفة ، وكان عدد أفرادها محدودا وخاصة في إيطاليا التي عرفت ببناء المسارح الضخمة بعمارتها الباروكية الرائعة وزخارفها الموحية بالجمال والفن الجذاب. وقد شكل المسرح الإيطالي فضاء ركحيا دراميا قائما على هندسة الجدران الأربعة، وأصبح ذلك المنظور الهندسي فضاء للمسرح الغربي إلى يومنا هذا وسمي بالعلبة الإيطالية.
ومن جهة أخرى كان الجمهور الشعبي متعطشا إلى مسرح من نوع آخر قريب من الفئات الشعبية وهو مسرح الكوميديا المرتجلة أو الكوميديا دي لارتي .

وقد كان للكتاب الإسبانيين الدراميين كفيليكس لوبي دي فيـﮕا (62-1635)، وبيدرو كالديرون دي لاباركا ) (1571-1648) ، وتيرسو دي مولينا (1571-1648) تأثير كبير على الجمهور الإسباني وخاصة إبان العصر الذهبي الذي انتعش فيه الأدب الإسباني على جميع الأصعدة.

هذا،و تتأسس دراما القلنسوة والسيف لدى لوبي دي فـيـﮕا على صراع الحب والشرف والعمل على تحقيق التوتر والإثارة والتهذيب الأخلاقي بفضل قصصه الرومانسية ذات الطابع الفروسي ، وهذا ينطبق كذلك على مسرح تيرسو دي مولينا وبيدروكالدرون.

وعمدت مسرحيات شكسبير إبان المسرح الإليزابيثي إلى التأثير على جمهور التراجيديا الإنجليزي بفعل قوة كتابة شكسبير الأدبية والفنية وإقبال الجمهور على مسرحه الذي حقق شهرة كبيرة وروعة جمالية مازالت تترك وقعها الفني الرائع على القراء والمعجبين بقاعات المسرح والفرجة الدرامية الإنجليزية.

وقد سار المسرح الفرنسي سيرا حثيثا في تمثل الأهداف الدينية والتربوية مع ممارسة النقد الكوميدي والسخرية على غرار الكوميديا المرتجلة الإيطالية مع احترام قواعد المسرح الأرسطي. وقد انتقل المسرح من المدينة إلى الأرياف مع رائد المسرح الفرنسي موليير الذي بدأ التجوال بمسرحه المتنقل في الضواحي والأرياف لمدة اثني عشرة سنة. وكان للمسرحي الساخر موليير تأثيركبير على الجمهور الفرنسي بمسرحياته الكوميدية التي تثير الضحك والمتعة والتسلية مع تقديم الفائدة الواقعية والجمالية. وبهذا يكون موليير قد أسس المسرح المتنقل أو المسرح المتجول دون أن ننسى ماتركه المسرحيان الفرنسيان الآخران كورناي وراسين من أثر ووقع جمالي على جمهور المسرح الكلاسيكي الفرنسي.

هـ- المسرح التجريبي:

مع القرنين الثامن عشر والقرن التاسع عشر، سينحو المسرح الأوربي منحى تجريبيا بالثورة على قواعد المسرح الأرسطي، ورفض فكرة المحاكاة، ونبذ الوحدات الثلاث، وتجاوز نظرية اندماج الممثل في دوره ، كما يظهر ذلك واضحا في انبثاق المدارس الأدبية والفنية والدرامية كالواقعية والرومانسية والطبيعية والرمزية والدادائية والسريالية والمسرح الوجودي ومسرح اللامعقول والمسرح الشعري ومسرح الخبز والدمى ... تلك المدارس التي بدأت تشكك في مصداقية المسرح الأرسطي بدءا بمسرح شكسبير الذي حقق انزياحا فنيا على معايير المسرح اليوناني وما كتبه ديدرو حول مفارقة حول فن الممثل(1830) الذي طعن في صحة مفهوم الاندماج.

هذا، وتشكل مسرحية "هرناني i" لڤكتور هيـﮕو تخييبا لأفق انتظار الجمهور والقراء على حد سواء؛ لأنها كسرت الوحدات الأرسطية الثلاث. كما جنحت المسرحيات الألمانية مع ليسينغ إلى الجمع بين الأنواع والأجناس وعدم الفصل بينها .
وإذا كان المسرح الكلاسيكي قد عود جمهوره على ذوق معين ووقع جمالي خاضع لمجموعة من قواعد المحاكاة والاندماج ومراعاة الوحدات الثلاث ومراعاة تطلعات وأعراف جمهوره، إلا أن المسرح التجريبي خلخل هذا الوقع الجمالي وخلق مسافة جمالية بين المبدع الدرامي والمتلقي وخيب أفق انتظاره مع التيار الرومانسي والمسرح الشكسبيري اللذين ثارا على كل قواعد المسرح الكلاسيكي.

وإذا انتقلنا إلى المسرح الطليعي، فإنه سيؤسس ذوقا جديدا على مستوى التلقي والتقبل المسرحي ، ولاسيما مع مسرح اللامعقول الذي أعلن تمرده الكامل عن كل مقاييس منطق الجمال الأرسطي ومقومات الفن الدرامي الكلاسيكي المعروف في بلدان أوربا وخاصة مع صموئيل بيكيت وأداموف ويونيسكو وأرابال. فقد أدهش هذا المسرح التجريدي الطلائعي الجمهور بثورته العارمة على قواعد المسرح الإغريقي وارتكانه إلى اللامبالاة والتجريد والعبث وإشاعة الفراغ وفلسفة الملل والصمت وتغريب الواقع. وبذلك تغير ذوق الجمهور جذريا مع هذا المسرح الذي انزاح عن المسرح الأرسطي فنيا وجماليا . وترتب عن هذا الذوق الجديد أن تبني الجمهور الأوربي بعد الحرب العالمية الثانية أعرافا جديدة في التأقلم مع هذا المسرح الطليعي.

وإذا كان الجمهور قد أعطى أهمية كبرى للمؤلف وبعد ذلك للممثل النجم مع المدرسة الرومانسية، فإنه في فترة المسرح التجريبي ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر سيعطي الجمهور الأهمية للمخرج الذي سيتكلف بتنظيم العملية السينوغرافية وتأطير ممثلي فرقته وتكوينهم تكوينا حسنا.

وستتبلور نظرية التفاعل بين الممثل والمتلقي مع المخرج بريخت الذي أعطى أهمية كبرى للمتلقي عبر تكسير الجدار الرابع وتعويض مفهوم الاندماج بمفهوم التغريب والتباعد مع إشراك الجمهور في المسرحية عن طريق إثارتهم عقليا وحجاجيا ، وحثهم على مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية متبنيا في ذلك المادية الجدلية وتوجيه الخطاب السياسي المباشر إلى الجمهور. وقد تأثر بريخت في ذلك ببسكاتور وبيتر فايس.

وقد عمل المخرج الفرنسي أندريه أنطوان على تكسير الجدار الرابع لخلق ستار شفاف يسهل التواصل الحميمي بين الممثل والجمهور. أما ستانسلافسكي وميرهولد وﮒروتسكي فقد عملوا على تكوين الممثل بطريقة حرفية صارمة وتدريبه على الأداء الصوتي والحركي واللعبي من أجل إقناع المتفرج والتأثير عليه بتمتيعه وإفادته على حد سواء.

وعمد المخرجون الطليعيون كـﮕريـﮕ وآدولف آبيا وأرتود وبيتر شومان وبيتر بروك إلى استحضار الجمهور في عروضهم الإخراجية، نظرا لاهتمامهم بتجويد أعمالهم وإتقانها وتأهيل الممثلين لينفتحوا على المسرح الشامل قصد المساهمة في خلق ذوق مسرحي جمالي جديد وتأسيس عرف جديد في القراءة الدرامية والسينوغرافية قصد الرفع من مستوى المتقبل والمتذوق للمسرح الطليعي الذي ثار على المسرح الغربي مسترفدا المسرح الشرقي. كما عمد هذا المسرح إلى استكشاف مسرح أنتروبولوجي موغل في البدائية يستعمل العنف والقسوة في ردع نوازع الشر والانفعالات الغريزية السيئة لدى متلقي الفرجة الدرامية وخاصة مع أنطونين أرتو.

و- المسرح العربي والجمهور:

إذا انتقلنا إلى المسرح العربي لرصد علاقته بالمتلقي على مستوى التواصل، فإنه قد اهتم كثيرا بالجمهور منذ مسرح أبي خليل القباني الذي كان جمهوره من عامة الناس حيث اتخذ المقهى فضاء للفرجة الدرامية والتلقي المسرحي. وقد استهدف سعد الله ونوس كذلك التأثير على جمهور عروضه متبنيا في رؤيته الإخراجية مسرح التسييس الذي كان يرتكز بدوره على مجموعة من الوسائط الفنية والجمالية كالمادية الجدلية والمسرح البريختي والتغريب، وكانت كل هذه الوسائل من أجل تنوير الجمهور وتوعيتهم ودفعهم إلى التغيير. ويقول سعد الله ونوس في هذا الصدد:" إن المتفرج يستطيع أن يقوم بدور إيجابي كبير في توجيه المسرح، وعلينا أن نعلمه كيف يقوم بهذا الدور، وأن نشجعه على الاضطلاع به بشكل فعال، حتى يتحقق لنا فعلا توجيه المسرح، وتقويم أساسه...

ولكي يقوم المتفرج بهذا الدور ينبغي أن يتغير هو نفسه، وأن يمارس دوره كمتفرج بطريقة جديدة ومختلفة عما نعرفه حتى الآن في متفرجينا...".
وإذا كان المسرح العربي الكلاسيكي أو المسرح التجاري المصري قد استهدف دغدغة عواطف المتفرج وترفيهه فنيا بكوميدياته الساخرة وتسليته بهزلياته الكاريكاتورية وملاهيه الانتقادية وعروضه الدرامية الشعبية، فإن المسرح الجاد وخاصة المسرح الاحتفالي قد جعل المتفرج محور اهتماماته واعتبره عنصرا فعالا وشخصا محتفلا يشارك في ارتجال العرض وبنائه من جديد والمساهمة فيه بتدخلاته وإبداء آرائه والدخول في حلبة التمسرح عبر تكسير الخط الفاصل والجدار الواهم للمشاركة بعرضه المنطوق ولغته الجسدية وتمثيله اللعبي.

أما فيما يخص المسرج الجامعي، فإنه مسرح تجريبي ثقافي لا يخاطب سوى فئة من الطلبة والأساتذة الجامعيين المثقفين الذين يعتبرون المسرح تشكيلا فنيا جماليا وخطابا بصريا يستلزم ملء نقط فراغه وتأويله والبحث عن خصائص المسافة الجمالية وشعرية الانزياح الدرامي وأسرار بلاغة انتهاك الوقع الجمالي . بينما المتلقي في مسرح الطفل أو المسرح المدرسي فهو من نوع آخر قد يكون طفلا أو تلميذا، لذلك نجد التلقي عنده مبنيا على التصفيق والضحك والصفير و الصمت و الخوف والتأمل والإحساس بالرعب أثناء معايشة الدور سواء أكان دور تطهير أم دور تغريب.

خاتمــــــة:

وخلاصة القول: لقد ارتبط المسرح بالجمهور منذ ظهور المسرح لأول مرة في تاريخ البشرية، وقد تطور هذا الارتباط عبر تطور المسرح الغربي والعربي والشرقي في إطار بنيتين متناقضتين وهما: البنية الأرسطية وبنية التجريب . وسينتقل الذوق المسرحي تبعا لهاتين البنيتين من ذوق كلاسيكي يتكيف مع المسرح الأرسطي ومعاييره المقننة بمبدإ المحاكاة إلى ذوق طليعي مبني على الانزياح وخلخلة السائد والإعداد لتأسيس ذوق آخر أكثر حداثة وتثويرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى