الثلاثاء ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧

الشِعر كطاقه تصويرية - حسين القاصد نموذجاً

بقلم :عبد اللطيف الحرز

لعل اقرب الكلمات للرصد هي كلمة ذلك النزر القليل من الناقد (=خذ شاكر اللعيبي كنموذج توضيحي ) باننا نحتاج الى مقدار من((الثقة)) بانفسنا , حتى نجد اننا نمتلك مقدار من الشعراء , وان الشعر ليس عملة نادرة الى درجة تهدد بالانقراض,فليس لدينا فقر شعري الى الدرجة التي افتعل ويفتعل غبارها البعض ,فبات هنالك ثمة احساس بانا والشعر وصلنا الى حد الافلاس وشد حجر الصمت واللابالاة على السمع والعيون .

واعتقد ان من اسباب ظاهرة الانصات البارد للشعر في اوساطنا اليوم مرده الى عدة امور اهمها هنا :

1 _ ذلك التضخيم بمادة الشعر حتى كأنه بات من المحالات فلا يبلغ شأوه الا الاوحدون والسوبركاتب ,وهو تضخيم بلغ حد الارهاب الثقافي لكل من حاول ان يخلع نعليه ويطأ وادي الكتابة الادبية في هذا المجال .

2_ كثر الكتابة في مادة الشعر , هذه الكثرة قد تبدو لأول وهلة بلية كبرى ابتلة بها اهل الشرق حيث وفر الانتريت والوسائل الاخيرة للنشر , كوثرة اسماء ونصوص بشكل بات لايقبل الاحصاء ولا اي مشروع للانطلوجيا .
في حين ان ظاهرة كون الشعر المادة الاكثر تسطيرا , هي ظاهرة قديمة وليست مستجدة, فالشِعر لكثرته هو الذي اجاز القول بانه ديوان العرب .

بالتأكيد ان هذه الكثرة تخلق نوع من التبلبل وعسرة الابحار في مياه خليطة واخرى صافية , لكن هذا لايبرر ان نقابل بالجفاء والغلظة كل هذه الاسماء الجديدة وبذات الحدة , على العكس فان يكثر قوالوا الشعر فانه يخلق نوع من التحدي والامتحان للشاعر الحقيقي ,ويساعد الناقد على فرز ماهو قول جميل لكنه مجرد خاطرة عابرة , بخلاف قول آخر يكتنف على موهبة حقيقية وتجربة جادة.

نعم هناك مشكلة سلوكية لاربط لها بالعلم وحرفة الادب , اقصد كثرت الشجارات بين كتبت الشعر وتهوين بعضهم بعضا , ليس بطريقة شعر الذم ,الذي يزخر به التراث القديم ولم يكن يوما امرا يشكل عقبة لشعرية الشعر , وانما هذه الحرب هي على الدوام تنحدر بسلوكيات مخجلة نصا واداءا عملياً.

والشاعر العراقي حسين القاصد نموذج لاسماء جديرة باعادة التأمل فيها , ((التأمل)) لا بذات نصوصهم المباشرة وانما ايضا كمرفأ عن سجالية ملحة : مالذي تبقى من صولات وجولات التجارب السابقة التي كانت تجارب صاخبه بكل ما للكلمة من معنى ؟!

حسين القاصد .. عباس خضر .. دلال اجويد ..وحيد خيون .. وغيرهم كثير يطرحون الشعر خالصا من اي طبول لحرب البيانات الشعرية ..الم تكن تلكم البيانات ,في بعض جوانبها, عبارة عن : حركات انقلابية توازي تعاسة مراحل الانقلاب السياسي وصخبه واداعاءته الى حد التطابق اللفظي بعض الاحيان مع مدعيات الشاعر الجديد؟!

وهو ما كان يعوضنا عن تعاسة الواقع ,وكنا نشجع بعضنا بفكرة اننا نكتب قصائد ستدوم , هكذا عبر عن الامر بصراحة صادق الصائغ عن قوالي الشعر في تلك الحقبة حسب ماكتبه تحت عنوان ((تخطيطات اولية في هيكلية الشعر وممارسته))

ولعل حسين القاصد مثله مثل بقية الحياديين عن ظاهرة البيانات ونرجسيات الاجيال واساطيرها المؤسسة , ادرك ان ما يحقق شعرية الشعر هو الشعر نفسه وليس الكلام حوله والادعاء بما هو خارج عنه .فاذا كان الشعر هو هرم منظومة البيان , فلمَ نقوم بتسويقه عبر كتابة ((بيان)) له؟!

وهنا نجد حسين القاصد (=الذي هو مجرد نموذج لهولاء البقية) يطرح شعره كماهو هو,اي شعر يقدم نفسه تحت لائمة كونه شعرا بدون تطريزات لمقالات وحشد تكويمات لغوية , هي زوائد ورتوش بديعية للفت الانظار وربط بنسق قديم لادب الكاتب , ذلك الادب الذي كان اول ادعاءات الحداثة العربية تركه وهجرانه!!
..............

ولنطالع بعض مميزات القصيدة هنا لدى حسين القاصد :

1_ انها رغم حرصها على الانتماء الوراثي في الشكل كهيكل عام , الا انها قصيدة تتخلص من ذلك الحشد اللغوي الذي عرفت به قصيدة الشعر القديم . ولعل الجنوح الى التبسيط والسهولة اللغوية , يجعله حسين القاصد , معادلا يوازي ما بين الحرص على الشكل القديم خارجياً ,بالنسبة لصانع القصيدة , وما بين البساطة التعبيرية , كاغراء للمتلقي داخلياً ,بان ينصت للشكل القديم بانه هو ليس هو. وهذا بالذات يفصح لنا لِمَ يتقارب حسين القاصد من بعض الادوات البلاغية القديمة بينما يتمسك ببعضها في جميع قصائده تقريباً .

فهنا حسين القاصد لايرهب ان يكتب قصيدة موزونة ومقفات في بلد نافح جم غفير من نخبته ليس الاختلاف مع هيكلية القصيدة القديم وانما ((محاربته ومعاداته)) , وهو امر يصدق على بلدان عديدة اخرى . وكنموذج معاصر, يقول قاسم حداد ص90 من كتابه ((ورشة الامل )) مانصه حول نصيحة استاذه في الادب :

انك تكتب شعراً موزوناً بدون ان تعرف الاوزان , اسمع نصيحتي اذا اردت ان تكتب الشعر لاتشغل نفسك بتعلم الاوزان , لانني اخشى انك ستفقد الشعر اذا شغلت نفسك بغيره

الشعر اذن هو غير الوزن , لكن قاسم يكمل لنا ص93 رؤية استاذه _ والتي هي هنا رؤيته ايضا_ كان على سبورة الفصل نص نثري لموضوع انشاء يملأ الحيز , تناول المحادين [= اسم الاستاذ] ممسحة الطباشير وقام بمسح النص في وسط السبورة ليقسم النص المكتوب الى نصفين متقابلين قائلا : هذا هو الشعر القديم ,صدر وعجز , يمكن لاي شخص يحسن البحور ان يكتب نصاً على هذه الشاكلة , ولكن ليس بالضرورة ان يكون ذلك شعراً , انها قيود يكتب فيها العرب منذ مئات السنين , لابد للشاعر الحديث ان يكسر هذا القالب

وانتَ ترى ان هذا خلط واضح مابين النظم ومابين الشعر , والاوزان التقليدية شرط في الاول وليس في الثاني و لذا (كتوضيح) نقول منظومة ابن مالك في النحو ومنظومة السبزواري في الفلسفه , ولانسميهما قصائد .
وعلى اية حال فان تكتب قصيدة حديثة بواسطة الوزن القديم وتقنع بها الوسط النخبوي , هي بلا شك مهمة شاقة تعد الان نوعا من المغامرة .

2_ بما ان قصيدة حسين القاصد هنا , ولدت في غفلة من ضجيج البيانات وتكتلاتها الحزبية (حيث تحولت القصيدة الى عقيدة وايدولويجا!!) ,فانها بذلك قصيدة لم تورط نفسها لابجدل الحداثة ضد شكل معين , ولا بسجاليات اختيار مقاصد معينة للشعر يقصها ويلسقها البيان التنظيري المقروء من قبل ضباط الانقلاب الشعري ,الذين اختلط في عشواء معاركهم الشعر فعلا ونظرية الشعر تسويقاً .

هذا الحياد سهل على حسين القاصد ان لايجد حراجة بمزاوجة مضامين وتنقلات لم يعرفها الشكل القديم ,وبين النسق التقليدي العام للموروث التعبيري.

3_ هناك حرص على التصويرية ,وهي رؤية اصيلة في نقد الشعر , ترى بان الشعر هو طاقة تصويرية بالاساس , وهذا ماكنا نجده في نصوص سالفة لحملة التجديد , وان كانت نصوصهم اخذت تبتعد عن ذلك شيئا فشئيا بعد زمن ذلك القول , فهذا فاضل العزاوي يقرر حول عدم جدوائية تعريف الشعر في ص 397 مما جمعه عبدالقادر الجنابي في انفرادات الشعر العراقي الجديد :

في الكتابة عن الشعر لا فائدة ترجى من تعريف يكون مطلقا وشاملا مهما كان الاس الذي يقوم عليه , لان هذا التعريف ,مثل اي تعريف آخر , لايمكن ان يصوغ نفسه بعيداً عن الوظيفة التي تُسند الى الفن , وهي وظيفة لاتتغير من مجتمع الى آخر , من حضارة الى اخرى فقط , وانما تظهر عند كل شاعر وفي كل قصيدة بطريقة مختلفة خاصة بها

لكن هذه المطلقية سوف يعود العزاوي ويحددها ص 401 بالقول :

اعتقد ان على الشاعر الحديث ان يتعلم من الرسام كيف يشكل لوحته ومن الروائي كيف يبني عالمه, ولعل ذلك هو الذي نحى بالعزاوي ان يقول في البيان الشعري: يجب على الشاعر عند الغيبوبة ان يحمل معه كاميرة تلفزيونية مسلجة , وعند العودة لابد من عملية مونتاج كاملة

بيد ان هذه الرؤية تعود الى ان تخرب حينما يكمل العزاوي القول :

لامن اجل الوضوح والوصول الى قيمة فنية عالية , وانما من اجل اعداد الشريط لعرضه على شاشة الوعي, بينما يتممها في البيان الشعري بالقول :

فالشاعر الذي يطرق عوالم غير مطروقة قد يتحرر من كل شيء ,حتى من اللغة ,لتصبح القصيدة لوحة او صورة فوتغرافية او مجرد رموز ومعادلات او اي شيء آخر, لكن الفارق بين هولاء وبين الشعراء الشبان هو انه لاينظرون الى اللغة كقيد وانما يراقصونها من اجل الوصول الى ذروة انجاح احتفالية الاحساس بماهو موصل داخل اللغة ذاتها. الامر الذي يفسر وضوح الصورة وسهولة تلقيها مهما كانت مفارقتها (=كأن تكون رائحة ناي او قميص ماء ..الخ) بخلاف تعبيرات الشعراء في المراحل السابقة , حيث انها كانت تحمل صور عسيرة الهضم للذائقة الفنية, وذلك باعتبار ان هولاء شعراء كانوا يستخدمون اللغة بماهو نقيض لها.

بعبارة اخرى ينقلها الجنابي في انفرادات الشعر العراقي الجديد عن تمخضات الشعر سنة 1966 : ..من اجل ان تكتسب القصيدة هذه الطاقة اختارت عن وعي موقفاً جديداً وتحولت الى : اللاقصيده

لذا فموت الشعر هو ان تجعله مجموعة افكار , حيث عندها سيكون النص نصاً متخشبا ,كما هي نصوص عديدة لاسماء كثرى. فصحيح ما يقوله سركون بولص في ((ملاحظات على الشعر والتحولات الثلاث)) من ان الشعر بلا رؤيا لايمكن ان يحل اية قيمة جوهرية من حيث كونه شعراً , وليس لعبة ذهنية او لفظية

بيد ان خلوا الشعر من الشفافية التصويرية يجعله يقع في النثرية الخالصة مهما حاولنا مراضاة اصحابه بكونه شعراً . وبهذا لايمكن الموافقة على ما اجتهد به عبدالقادر الجنابي من تبجيل لشعر صفته انه شعر يتسم بطابع التجريد الوجداني عندما لايبقى للصورة في حضرة الافكار شأن كبير .

الحرص على التصويرية الشعرية لدى حسين القاصد تفسر لنا كل هذا الاهتمام بعنصر ((الوجه)) , فالوجه هو محرض تصويري بشكل دائم , لذا تجد هناك حشد هائل من الوجوه المتعددة لدى الفنان الفوتغرافي احسان الجيزاني ..او الاهتمام بالوجه وجعله بمقياس اكبر من المعتاد لدى الرسام ستار كاووش . ولا يغيب عنا هنا ملاحظة ان الطفل وحده يعرض نفسه بكونه صاحب الوجه الاكبر قياسا بحجم جسمه . هذا الوجه الذي سوف يتصاغر شيئا فشيئا لدى الانسان بمقدار اختفاء ضميره خلف الاقنعة وانفقة الكذب والنفاق والحيل الحياتية , ولعله من هنا جاء قول حسين القاصد في قصيدة استقالة الحلم المكرر :

وطني عيونك كنت وحدك خيمة _ زرقاء مذ كم كنت تحتكر السما

ولنلاحظ هنا في هذا السياق بعض التمظهرات الوجه لدى حسين القاصد :
_ وجهي ووجهك واحدان _ مازلت محتاجاً لثان
متوازيان ,متى ترى _ يتقاطع المتوازيان

الى آخر القصيدة التي لايرتضي الان ان يسميها حسين القاصد ((واحدان)) ,فلا يقلب الاثنين الى تثنية , وهذه التفاتة دقيقة اذ الوجه واحد ,لكنه أوحدي فلا نجمعه مع غيره فيندمج ويتوحد الواحد بلواحد فيكون اثنان , هو معنى لايدركه الاصاحب موهبة وتأمل.
في قصيدة لؤلؤ الامل المنقى : فتق الليل بصبح ثم اعمى
مقلة الخوف
واهداني ابتسامه

قصيدة نصف مرأة ,حيث وجه المرأة الاداة الكبرى في توظيفية القصيدة هنا ,القصيدة التي هي دوما انثى لدى العرب بينما الشاعر هو رجل حتى قالوا في وصف قائل الشعر الجيد بانه ((شاعر فحل )) .
يقول حسين القاصد هنا :

بحاجة لامرأة فاكهة
اذ كل من صادفني
منهن من تدعى امرأة
ماحاجتي لامرأة فارغة العطور
نيئة الكلام

نلاحظ ان عطاء المرأة صورة الفاكهة ,من دون تسوط اداة تشيه ولو مضمرة , لم تنسي الشاعر ان يعضدها باداة تنفخ الروح في هذه الصورة ,كي لاتكون محض مجاز , وعلى هذا الاساس اتت مفردة ((نيئة الكلام)) .

واستمرارا لاكمال الموقف بعدسة الشعر يكمل الشاعر المشهد احتاج الى طعم الكمله
ونزعة النفور والحضور ولعبة التمني
والكذب المنمق المدور المعاني
تنقصني رشاقة الفواصل

انسياب طيف خلط الالوان بدأ بذات المدخل , المدخل كان ((بحاجة)) وهنا ((احتاج)) , المحتاج اليه كان ((امرأة فاكه)) الان المحتاج اليه طعم الكلمة .وهذا يجعل عدسة الشعر تبتعد عما كانت مصوبة نحو وهو المرأة , هكذا يفترض لكن القاصد يستمر بذات اللعة : نص الكلمة , نصف المرأة , نصف الفاكهة .. ثم فلنكمل نحن : نصف الرجل ..نصف اللغة ..نصف الوعي..الخ (= هل يبحث القاصد عن النصف الضائع لقصيدته؟! ).

اي ان الشاعر ما ان يقترب من الكلمة اكثر من المرأة حتى يوصف الكلمة بصفات الثانية , بعدما كان اولا يعطي صفات الفاكهة للاولى (=المرأة) :

كذب _ منمق ومدور العنى

رشاقة الفواصل والتي هي بذاتها مفردة تخلط الطرفين , الكلمة والمرأة , والمرأة والكلمة.

احتاج نصف امرأة فاكهة
ازرعها قصيدة في دفتري
وبعدها
اعمل فلاحاً لها
يمشط الزهور في الحديقه

استخلاص منطقي لايوجد فيه اي قفز , وكأن الكلمات تلتصق بعضها بعضاً في سقي غصون شجرة واحدة , بلا اي حاجة لاطناب او حشد جمل طويلة او معترضة .
والاعتماد على هذا النوع من الخلطة الالونية نجده بذات الصيغة مع استخدام ذت بعض المفردات كذلك في قصيدة ((صوت شعري )) حيث تحدث القاصد عن الشعر :

ينمو وتفاحة التصفيق ترفعه_ الى المذاق ويسمو حين تشطره

وقس على ذلك قوله في قصيدة البحر القديم :

عندما كنت على الاوراق كانت
قطة الاوهام تغفو
في نعيم الذاكرة
كان صوت اسود فوق بياضات الصباح
يحمل الاثقال ..الخ

هنا لاوجود لادوات تشبيه واسناد , وانما هناك التحديد المسبق لعملية الاحياء , فللوهم قطة والاوراق ارض , ولكي يكون الامر تصويريا يتعاكس البياض بين الصبح والاوراق ,اذن لاقطة هناك سوى المحبرة , وهي صورة شفيفة المعنى تدغدغ اللغة وانسيابيتها مع الرقيب .

وهناك نماذج عديدة قلما تجد قصائد القاصد تحيد عنها فكأن الفاكهة\الوجه , هي ثنائية جوهرية في جميع مايكتبه هذا الشاعر , وتميما لامثله عن محورية الوجه لدى القاصد انظر :

قصيدة رائحة الناي من مجموعة اهزوجة الليمون :

والناي يكتنز الوجوه بلغزه_ يوحي فيمنع وصفها اسماءا

صلاة البقاء من مجموعة اهزوجة الليمون ايضا :
ايرضيك عطر الدموع _ فهل باغتتك دمو عذارى

اما في مجموعة حديقة الاجوبة فتجد :

قول القاصد في حديقة الاجوبة وهو احد اروع ما قاله :

وانا اتيت ونصف وجهي في يدي _ ابتز اي مشابه كي اكمله

اقوله : للصوت وجه يرى

او قوله عن الشعر : ينام فوق شحوبي حين افرشه _ له فتغتسل وجه النوم انهره

وكعادة حسين القاصد , فلكي يجعلها صورة حية وليس محض تشبيه , يكمل حديثه عن الشعر بهذه الطريقة مباشرة :
يشمني ينتمي , يبكي , اجامله_ بوردة الدمع ان الدمع اكثره

او وما ارتوينا فكم نهر بأعيننا _يجري ,يجف نرائي ثم نعصره

هنا نجد المفردة تتحول الى كائن حي , بخلاف اعتماد كثرة التشبيه ومحض الاستعارة مثل قصيدة حسين القاصد ((خذني)) والتي هي نقيض ((ضرس السماء)) , فالتصويرية ليست هي محض تشبيه ومجاز واستعارة , وانما هي اعادة تركيب ودقة التفات نحو النموذج ,وليس تقريب شيء لشيء ومناسبته معه ,كما دئب النقد القديم وبلاغته على ذلك.

4_ شعر حسن القاصد هو شعر اخضر , وهي ميزة تضائلت في الشعر الفصيح فلا تجدها الا في الشعر الشعبي او في اللغة الفصحى لكن ليست العربية وانما اللغة الكوردية. وخضرة اللغةهي ميزة مستمدة من الميزة السالفة , فنحن دوما نتجول في حديقة ((حديقة الاجوبة )) ,و اهزوجة الليمون .., وكأن القاصد يعمل بوصية ((ريلكه)) بان على الشاعر ان يقترب من الطبيعة ويقف امامها وكأنه يشاهد مناظرها للمرة الاولى ,لذا تجد في منجز القاصد عملية زراعة حروف مستمرة :

ستزرعني ويقطفني جفاؤك _اذا ما استاء من وجهي فضاؤك

كما تقول قصيدة مسافة الاحلام في مجموعة اهزوجة الليمون:

فزرعت في شاطي الفرات قصيدة _ مفطومة ورسمتني اثداءا

كما في قصيدة رائحة الناي في ذات المجموعه:

حدائقي في شتاءات مؤجلة _ تشكو التلاق خريفاتي بأسمالي

او : وكان فصل ربيع الموت محتفلاً _ بحنطة الشوك في انحاء اوصالي

كما تقول قصيدة ارجوحة الحلوى

بينما في قصيدة الطين ذنب نائم :
زرعوا ملامحهم بغابة صبحهم _ ذبلوا بمزرعة البكاء مواسما

وفي قصيدة موسم التفاح يقول القاصد : موسم التفاح في شفتي مزدحم الحضور

وينقل لنا عن ((حكايات جدتي )) القول :
وبعض فاكهة الامال تجذبنا _ لها ونخشى فكم من الامال اكلوا

وهذا يدل على ان مجموعة ((اهزوجة الليمون )) جزء متمم للمجموعة الاولى ((حدائق الاجوبة)) , الامر الذي يفسر مسألة تكرار بعض النصوص في كلا المجموعتين .

وهذا يعني ان هولاء الشعراء الشبان الجدد يرفضون ان ينطلق الشعر من كون مهجور(=انظر صيغى المدح لذلك عند الجنابي ص18 حينما يصف بعض شعراء الحاقبة السالفه) , وانما هناك شاعر غني يتغنى ويتفاعل مع واقعه ,فليس التمرد هو الهزيمة والنكوص بنصوص تتمحور حول فراغيتها بكونها تحمل اسرارا , حتى غدى الشعر لدى البعض وكأنه تعويذات سحرية او تكويمات لجمل مبتورة ناقصة, او مجموعة صراخات لاتعكس لغة وانما سلوكالا .

5_ تتميز القصيدة لدى حسين القاصد (والمجموعة التي تعمل بذات الرؤية ) بانها قصيدة تنطلق من الوعي واليقظة وتنتهي عندهما ايضا , وهذا بخلاف كل ذلك الحرص من قبل اسماء المراحل السالفة الذين كانوا يقررون القصيدة حالة من الغيبوبة والفقدان والاستلاب النفسي , والانتهاء على ذات الشاكلة , او بتعبير صاحب البيان الشعري فاضل العزاوي :
المفتاح الاول الى الحلم [=الشعر] هو دحر سيطرة العقل الواعي وتخديرههذا التخدير ليس مجازي كما قد يتبادر اول وهلة , وانما هو دعوة مفتوحة صوب المخدرات والحشيشة وغير ذلك , كما يصرح بذلك العزاوي من دون اي ارتياب فداءا لكل ما قد يثري العقل ويذبحه قربانا ًلهذه الحداثة !
.............................

لكن لِمَ المشي على حبل الشعر بهذا الطريقة وترك طريقة مشي حرضت علها اقلام متكتلة جيل فجيل حتى غدى كأن هجران ذلك هو هجران المعنى الشائع للثقافه؟!

في محيط موبوء باورام نرجسية تخلفت عن قفزات في استيراد المفاهيم ,وانقلابات سياسية واقتصادية , تركت المشغل الفني يترنح في تنظيره للبطالة ,بل والتبجيل لها ولصعاليكها , والترنح باستيهامات تأملات ناقصة .. في هذا المحيط نجد لدى حسين القاصد ذلك العزوف عن المشاركة في الحفلة واعراس الفراغ , حيث لاتجد تلك السجية التي تعودناها طيلة العقود السالفة ,حيث يتحرك الكاتب بجوقة مصاحبة يتبادل هو واياهم العزف للاخر والردح الملفت له , وكأن حسين القاصد وهذا البعض الجديد الذي معه , يقدم عودة الى لصق شطري الوجه مرة اخرى مابين الشاعر والشعرية , وليس بين الشعر والشاعرية , حيث انفصل الشاعر عن شعره طيلة احقاب متتالية ,حتى بات المشغل الشعري لون من الوان الانفصام مابين الشاعر وحياته الحزبية وسلوكيته العسكرتارية او تكتلات المقاهي والنوادي (او غير ذلك اي كان) ومابين شعره الذي بات كأن كل وظيفته هو تعويض سلبيات السلوكيات الفعلية للشاعر ويومياته المبوءة بالقبح وكل ماهو نقيض لادعاء بكون الشعر رسالة (=بل اولئك كانوا يطرحون الشعر دوما على انه جزء لايتجزء من البنوه!).

شعر حسين القاصد شعر واضح وشفاف ومعتزل بنفسه عزلة طفل منشغل بالعابه وطريقة ملابسته وقراءته للعالم بادوات البراءة والموهبة الداخلية والاندفاع الفطري , بسجية صدق المبادرة او تلقيها , لذا اتسمت القصيدة هنا بانها سهلة سلسلة جدا لكنها صعبة ايضا .

عليه لم يكن غريبا ان يكون حسين القاصد في منأى متعمد عن الرد على يؤذيه او يتناقض معه , او ان لانجد لديه طبل كونه صاحب ((مشروع)) او ريادة ما , هذا الكلمة التي لااعتقد ان حسين القاصد سوف يقترب منها ما عاش , لكونها كلمة بددت الادب , وكبدت خسائر كثيرة للشعر طيلة عقود سالفه , جواب حسين القاصد مقتضب هنا عن كل ما يمكن ان يخرجه من قفص الشعر الذهبي :

فالجرح اوله النزيف وآخر _ المعنى بكاء وادعاء خامل

وهو نسق ترعرع في وحل تنازعات اجتماعية وسياسيه, كان له الاثر البالغ في تحميل احكام لغير موضعاتها ,حيث يتم الحكم بالاجتماعي على الحرفي , وبالسياسي على الادبي , وبالديني على الفني وهكذا .

وهو مأزق لم اجد من يقدم شجاعة الاعتراف به سوى عبدالخالق كيطان في ((ملاحظات اخرى في الشعر والحياة)) , حيث يقول :

عشنا وتربينا على صياغة نصوص تقع في احدى خانتين : تملق الديكتاتورية او مقاومتها فماذا سنفعل اليوم وقد غابت الديكتاتورية الى الابد ؟!

ونحن وان كنا نرى بان الدكتاتورية هي ظاهرة وليست اشخاصا , وبالتالي فهي غير قابلة للزوال الابدي وانما هي مخلوق يتنقل بمثل الاستنساخ الهندي من الاموات الى الاحياء بشكل متعاقب بصور شتى , لكن هذا لايدفع ان السياسة باتت ورطة الشاعر في بلد خُلق مظطربا منذ اول الخليفة , فكان الشاعر اما يمارس الشعر مترسا سياسيا , واما هارب منها كجندي متخلف عن معسكرات الحروب , فكأنما لاخيار بين الموت بوهم الشهادة في بيانات السياسه, او الموت بوهم الشهادة في معارك بيانات الكتابة .

والمأزق اذ يعتمد على جمع متناقضين في ساحة واحدة , فانه يجبر على اعادة التأمل في تلمس طريق ثالث لايجعل الشاعر والمثقف كياناً متعالي او هارب من الواقع فيكون العمل الثقافوي تبرير ومترس للجبن والخيانة , فيكون المسعى محاولة في ان نربح النص بخسارة الكاتب .

ولا بجعل الشاعر موظف حكومي وببغاء ومهرج اجتماعي او ديني , يدور نصه حيثما دارت المؤسسة السياسية والدينية ,والرغبات الاجتماعية , فيكون المسعى محاولة في ان نربح الكاتب بخسارة النص.

من هنا بدأت ظاهرة العودة الى القصيدة بهموم الواقع ومسائلته, كرؤية ولوحة اشكال معاً ,فلا ضياع للمعنى او محاولة توهيمه او التوهم به ,ولا الانزلاق بتحميل القصيدة مقولات انظمة انساق اخرى لاعلاقة لها بالشعر كأن نقول مثلا ان قصيدة فلان ديمقراطية! , فهذه وغيرها قراءة لماهو شعري بما ليس منه وكفى بذلك ارباكاً ان لم يكن عملا مغلوطاً من الاساس .

العودة هنا الشِعر باعتباره احد الفنون لذا كان مشغله ماهو عام ,اذ لامعنى للقصيدة السياسة _ مثلا _ الا بكونها مباشرة (لابكونها تتحدث عن امور مرتبطة بالسياسه) وماهو مباشر سيكون عادي مناقض للفني .

مثل هذه العودة بركيزة الفن يمكن لها ان تجعل المثقف فاعلا في واقعه من دون اي يعني ذلك هدر البعد الفني في النص (=كما حصل مثلا لامل دنقل مثلا بينما تبقى هناك قيمة فنية عالية في شعر ازرا باوند رغم انه ليس يقدم رؤية ساسية فقط بل هو شعر يمجد حتى الفاشية ) .

يمكن للشعر ان يلامس السياسة والراهن المعاش فليس الفن هو الانفلات والصعلكة والهروب اللغوي , ولا هو بوق لايدولوجيا سابقة مكتملة تنتظر من الشعر الا ان يكون جسر يحشد سواد الناس حول سواد راياتها ولافتاتها , فتنمحي الصورة الفنية ويتم السقوط في المباشرة والنظم السابقة على شعرية الشعر .

..................................

هناك ورطة اخرى حصلت في الوسط الشعري (= او قل في السوط الشعري ) لاتقل عن ورطة المأزق السياسي السالف , الا وهي ورطة الاقتراب الى التراث الصوفي .

فمنذ صعود الحركات الجديدة في الشعر تنامى الارتماء بحضن الانساق الصوفية الى درجة الانبهار او مايحق ان نسميه بـ الانسلاب , وكأن كل ماهو صوفي بات شعري (=يكفي ذلك التنظير العجيب لخزعل الماجدي والذي هو اغرب التنظيرات على الاطلاق) . هذا الاهتمام الذي لايتحمل اودونيس فتح بابه وحده بدون الفات النظر الى ان الادب الغربي احتظن هذا الامر بشغف بعد بلوغه مراحل من التطور التكنلوجي والسلعي وتبدل الوعي بالانسان كفائض قيمة او انه القيمة الوحيدة , وانما لكون التراث الصوفي العرفاني هو كل ماتبقى لدينا يثير اعجاب الغرب , ذلك الاخر الذي هو مقياس الذوق والوعي والحرية ايضا ! .

فاذا ما اضفنا ذلك الحصر النفسي الذي عاش ولازال يعاني منه الانسان في الشرق بسبب القمع الاجتماعي والديني والسياسي ( بل كثير من الاحيان تتحول حتى الثقافة الى نوع من الارهاب والقمع كما هو حال طرح القصيدة الموزونة اوالتي بغير وزن فكل طرف يرهب الاخر بانه خارج الادب) , سنعرف ان الشاعر وجد في هذه النصوص شبة جنة خلاص, ليس من السياسة والدين والواقع , وانما ايضا سهل عليه الافلات من تقديم اي تعريف يحدد ماهو عليه المشهد الجديد للشعر او مابات يسمي نفسه بذلك .

وحسين القاصد يمثل هنا نموذج لشعراء عافوا الاقتراب لهذا التراث , واثبتوا ,الى درجة النكاية , بامكانية تحقيق القول الشعري بدون هذا الارتماء .

وبهذا فليس من الصحيح ابدا ما قاله جملة من الناقد حول شعر حسين القاصد من ((ان هناك لمسة صوفية واضحة)) , لايوجد اي مسحة صوفية ليست ((واضحة)) وانما غير موجودة على الاطلاق .

بذلك كله استطيع القول بانه اذا صح قول احسان عباس في كتابه ((اتجاهات الشعر العربي المعاصر)) من الحركات الشعرية الجديدة حولت الشعر الى ماهية اخرى ذلك ان بتأر من السريانية قد جدت اشياء كثيرة في النظر الى الشعر ومهمته , اذ لم يعد الشعر صورة من صور الادب بل اصبح شيئا مستقلا فانه يمكن ان نقول ان حسين القاصد ومجموعة شابة شبيهة له , باتت تدرك ضرورة العودة بالشعر الى الادب , وعند ذاك يتاح لنا القول بان هنالك ثمة قيمة ادبية , وليس فلسفية او فكرية كما تريد بعض الامصال الحداثوية ازراقه بعضلة الثقافة العربية والشرقية .

الشعر في هذه التجربة , شعر حافي من معارك تكتلات شخصانية تتمترس باللغة والتنظير نصرة لمآربها غير المرتبطة بالادب والشعر , .. هنا الشعر نقي عن صراخ نرجسي كان ينافح صراخ الجرنال دوما(من دون ان يعني هذا ان القاصد والاخرين تخلصوا من هذه النرجسية والانوية على العكس فهناك مايدل على وجود تشظياتها خصوصا لدى القاصد, لكن مايخفف الامر ان الشوط بعده في اوله اولا , وان هولاء يبتعدون عن الضجيج وتدافع الاكتاف) .. واذ يكون الشعر امامنا حاف هنا , فانه يتاح لنا ,لا اقل ,ان نقول ان ما نرتديه هنا من قميص لغوي ,هو:
الشِعر ذاته او بداية العودة بان يكون كذلك .

بقلم :عبد اللطيف الحرز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى