الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
سيرة روائية مكتوبة بنفس قصصي
بقلم بوشعيب الساوري

الجمرة الصدئة لعمر وَالقاضي

تتميز الرواية بقدرتها على التفاعل الخلاق مع الأجناس الأدبية الأخرى، سواء القريبة أو البعيدة منها، وهو مؤشر دال على مرونة الفن الروائي، وقدرته على استيعاب الفنون الأخرى، والاستفادة منها. وهي خصوصية قد تنطبق كذلك على جنس السيرة الروائية القريب من الرواية.

تطرح قراءة العمل السردي الأخير لعمر وَالقاضي، الجمرة الصدئة [1]، عدة استفهامات حول تجنيسها، حتى وإن كان الميثاق يؤكد أنها سيرة روائية، فيضعنا في حيرة من أمرنا، بين القصة القصيرة، إذ نسجل حضورا قويا لخصوصيات الكتابة القصصية على مستوى كتابة وبناء هذا العمل، وبين السيرة الروائية التي يصرح بها الميثاق.

قبل أن نخوض في إبراز هذه الحيرة الأجناسية، ولضبط المشكل الذي يطرحه أمامنا هذا النص، لابد من وضع تمييز بين السيرة الروائية والقصة القصيرة.

السيرة الروائية هي شكل من أشكال الكتابة الروائية الذي يجمع بين ما هو سيري وما هو روائي، فالعنصر الأول أساسه تجربة فعلية، والثاني قوامه التخييل، يتداخل فيها المؤلف مع السارد ويتماهيان. إذ يعمل الروائي، مع هامش من الحرية، على استعادة تجربة ماضية في قالب روائي تخييلي، ومع ذلك تظل تجربة ذاتية لأن الباعث على السرد والكتابة هو طبيعة التجربة، المفجعة، الخائبة، الشاذة، المثيرة، فيبقى العنصر الذاتي أساسيا فيها، بوصفها المرجعية الأساسية في النص، ويضفي الروائي عليها جانبا من التأطير السردي الذي يسمح به الجنس الروائي. مع هيمنة لشخصية السارد وحضوره القوي في النص الذي يتماهى مع المؤلف، والمثال القوى على ذلك هو العمل المتميز لمحمد شكري الخبز الحافي.

يؤكد جورج ماي على غياب الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتية والرواية [2]. ويمكن القول إن كل الأعمال الروائية هي سير روائية لأصحابها أو لشخصيات قريبة أو بعيدة منهم. لكن الروائيين لا يصرحون بذلك، ولا يكشفون عن مصادر تجاربهم الروائية، وذلك نظرا لاستحالة كتابة نص روائي من فراغ، لأنه حتى لو كان النص الروائي خيالا محضا، فإننا نجد فيه آثار الواقع، إما انعكاسا له أو قراءة له، أو رؤية فانتازية له ولممكناته، فيبقى الواقع عنصرا محفزا على الكتابة والتخييل الذي يكون في النهاية عبارة عن تمثلات للواقع، إذ يرى البعض في التصريح حدا من الإمكانات الإبداعية.

هكذا نقول إن السيرة الروائية هي تجربة ذاتية مصاغة روائيا عبر إمكانات التخييل الروائي، فيعيد الروائي صياغة التجربة لا كما وقعت ولكن كما ينظر إليها الآن، حذف، زيادة، تقديم، تأخير، حتى تلائم خصوصيات السرد الروائي.

أما القصة القصيرة فهي بعيدة كل البعد عن الجنس الروائي لأنها تعوض التعميم الروائي بالتخصيص، ولا تتناول حياة بأكملها، أو شخصية في كل مراحل حياتها والإلمام بكل ما يحيط بها من حوادث وظروف وملابسات كما في الرواية، وإنما تكتفي بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد أو زاوية واحدة من زواياه، ورصد لحظة واحدة من لحظاته، وتصويرها تصويرًا مكثفًا خاطفًا بعيدا عن التفاصيل، قوامه التكثيف والإيحاء والتلميح بدل التصريح.

في أغلب الأحوال تركز القصة القصيرة على شخصية واحدة وهذا ما قد يجعلها تقترب من السيرة، إلا أن ذلك يتم على مستوى موقف واحد في لحظة واحدة، بعيدا عن التفاصيل وتتبع مسار حياة الشخصية الذي يميز عادة السيرة والرواية.

عموما يبقى التكثيف هو العنصر المهيمن والمائز للقصة القصيرة، وذلك على مستوى كل العناصر البنائية التي تتأسس عليها من سرد وحدث وزمن ومكان ووصف.

ويمكن أن نرصد دواعي الحيرة الأجناسية في الجمرة الصدئة كما يلي:

1- أصل الكتابة فيها ليس انفعالا جزئيا، وإنما هو نابع من الذاكرة، هي لحظات منتقاة فتقترب من القصة القصيرة، ولكنها مستعادة من الذاكرة، مما يجعلها تقترب من السيرة الروائية.

2- الحدث ليس هناك حضور كبير للتفاصيل، وإنما هناك تركيز على بعض الأحداث الشاذة والمثيرة التي بقيت عالقة بذاكرة السارد، حوّلها عمر والقاضي (حدث رحيل الأسرة إلى المدينة، حدث صراع مديري المدرسة، حدث تكسير الزجاج بالمخيم، حدث السرقة وقت الظهيرة...). فنحن أمام نص لا يغرق في التفاصيل.

3- الزمن، هناك تركيز على لحظات زمنية مثيرة، ظلت عالقة بالذاكرة، قاومت النسيان تمتد من زمن الاحتلال الإسباني للشمال المغربي إلى ما بعد الاستقلال، وذلك باقتصاد كبير في اللغة، مع تكثيف شذيذ يلمّح بدل أن يصرح، ذلك التكثيف الذي يفتحنا على مجموعة من الإيحاءات، وهذا ما يقربها من القصة القصيرة. فتح نوافذ على مجالات الحياة التي تدخل في منطقة المهمش والمقصي.الجمرة الصدئة أعطت الكلمة للمقصيين:... وأرخت لمن لا تاريخ لهم. إنها نبش في الذاكرة الفردية والجماعية ومحاولة الالتفات إلى أبطال ذلك الزمان. استعادة عبر الذاكرة لأهم لحظات الطفولة والطيش ببراءتها وعفويتها. واستعادة للماضي الذي لا ينتبه إليه التاريخ الرسمي. وقد تأتى هذا للكاتب نظرا لكونه يجمع بين كتابة القصة والرواية.

يعمل السارد على تكثيف حياته وذلك بانتقاء لحظات من حياته. فيضعنا أمام لحظات مكثفة، بعيدة عن التفاصيل، إذ يغيب الربط بين مقاطع وفصول هذه السيرة الروائية، ليصير كل فصل قائم بذاته، والذي يجمعها هو السارد [3].

4- في الوصف ليس هناك إلمام بالتفاصيل تفاصيل الشخصيات والأماكن، وإنما هناك انتفاء واقتضاب يتوافق ووحدة التأثير والانطباع الذي يميز عادة الأسلوب الفصصي. مع حضور كبير للوصف المجازي الاستعاري الكاريكاتوري بخصوص الشخصيات أثناء الوصف الجسدي للشخصيات، الطول القصر، البدانة. يقول السارد واصفا عمته: "كانت شبه ميتة، كل ما يربطها بالحياة أنها كانت تتكلم وتتحرك!" (ص.17.) ويقول واصفا الصراع بين مديري المدرسة:"حدث سوء تفاهم بين المديرين. مشهد ديكين منفوشين بينهما مسافة، ينقصهما حكم في الوسط، ليعلن في الأخير من المنتصر." (ص.35.) والوصف غالبا ما يرتبط بالتقاط عيوب بعض الشخصيات وتقديمها في وضع ساخر باعث على الضحك والهزء.

وتميز هذه السمة كذلك وصف الأشياء، يقول واصفا الشاحنة التي نقلتهم إلى المدينة:"لكن الشاحنة المهترئة مثل شمطاء تنتظر الموت." (ص.67.) ويقول واصفا المدينة: "أين أقضي هذه الليلة أو ما تبقى من الليل؟ في مدينة جاثمة على البحر. تنام مبكرا. تموت ليلا وتبعث صباحا." (ص.88.)

5- اللغة، بخلاف أعماله الروائية السابقة التي تلتها مجموعة قصصية [4]، تنتقل اللغة لدى عمر والقاضي، في هذه السيرة الروائية من الخطابية والإفصاح والفضح إلى الإيحاء والتلميح. كما نلمس تخليه عن أسلوب التداعي أو تيار الوعي الذي ميز ثلاثيته الروائية. فاللغة الموظفة تتميز بطابع تكثيفي إيحائي، وذات نبرة شعرية بعيدة عن التقريرية والتصريح والتفاصيل. يقول:"الجد يغمغم ولا يبين. ومن بعده أبي مكتئبا صامتا. منكس الرأس. لم يصافح أحدا. ذهب توا على غرفته وكانت أمي قد سبقته." (ص.12.)

كما نسجل حضورا قويا للغة الصامتة؛ أدوات التعجب، الاستفهام، نقط الحذف، وذلك راجع إلى كون الكاتب قاصا والقصة القصيرة تراهن كثيرا على التلميح والإيحاء واللغة الصامتة، وذلك الصمت يرجع إلى رغبة الكاتب في إشراك القارئ وجعله يسهم في إنتاج المعنى داخل النص.

6- الشخصية، لا يقدم لنا الشخصية في تطورها وإنما يركز على بعض اللحظات التي ظلت موشومة في ذاكرتها. وفي أحيان أخرى لا تظل الشخصية الأساسية(السارد) هي مركز الحكي بل تتيح الفرصة لشخصيات أخرى كما هي الحال في حكاية المرأة وشرطي الحدود بين مليلية والناظور، فيتحول السارد إلى دور الشاهد والملاحظ والملتقط للمثير والشاذ في الذاكرة الجماعية.

7- مما يجعل هذا النص قريبا من السيرة الذاتية الحضور القوي لوعي الحاضر، عبر التعاليق التي تؤكد بعد المسافة"كنا نعتقد أن القرية هي كل العالم." (22) "كنت بعيدا عن فهم ما حدث." (27) "لست أدري لماذا كنا نفضل الليل على النهار؟" (51) وكذا إرادة البوح والفضح. يقول مثلا: "كنا نسرق والشمس في كبد السماء!" (ص.50.) ويقوم بخلق خطاب مختلف عن تاريخ المؤلف، وذلك بمنظور الروائي الآن كيف ينظر إلى تاريخه الخاص فلا بد أن يقوم بحذف، أو إضافة اوتحريف وتحوير. لأن السيرة هي تجربة مستعادة عبر السرد انطلاقا من إمكانات الذاكرة مصحوبة بتمثلاتنا وتصوراتنا عن ماضينا.

وعموما ليست هناك هيمنة للذاكرة وإرادة البوح والاحتجاج والإفراج عن مخزون الذاكرة، بل هناك اعتناء بالجوانب الفنية، التي يوليها عمر والقاضي أهمية كبرى، والتي تصدم القارئ الذي تعود ذلك الزخم من البوح وتدفقه. وإنما تكتفي بلقطات مقتطفة من الذاكرة يتم التعبير عنها بلغة سردية مكثفة تعتمد التلميح بدل التصريح، فتولي الجانب الفني، من سرد ووصف وتكثيف لغوي استعاري، أهمية كبرى أكثر من أي عنصر آخر. وبعبارة موجزة يضعنا عمر والقاضي أمام سيرة روائية مكتوبة بتقنيات القصة القصيرة.


[1عمر والقاضي، الجمرة الصدئة، سيرة روائية، 2007.

[2جورج ماي، السيرة الذاتية، ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة، منشورات بيت الحكمة تونس، 1992، ص.219.

[3وذلك راجع إلى طابعها القصصي، إذ هناك تأثير واضح لتقنيات القصة القصيرة، وأكثر من ذلك هو أن بعض فصول السيرة سبق أن نشرت باعتبارها قصصا مثل "البندول"، و"إغناثيو".

[4ونقصد، رواياته؛ البرزخ (1996) والطائر في العنق (1998) ورائحة الزمن الميت (2000) ومجموعته القصصية سوء الظن (2004).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى