الاثنين ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

بغداد.. لابد أن تستعاد ...

رغم الضحايا والحرائق والرماد

مع بداية مرحلة الدراسة الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة، أوائل الستينيات من القرن العشرين، كنت اتمنى ان ازور العراق، وكنت احلم ان تكون بغداد أولي المدن العربية التي اتجول في شوارعها وأزاحم العابرين والمارة فيها، وأسهر في مطاعمها ومقاهيها.. هذا الحلم كان يراودني ليلاً ويشغلني نهارا، أستطيع الان ان احدد سببين لانبثاق هذا الحلم. أولهما سبب خاص، فقد كنت اتمني ان التقي مع الشاعر الذي بهرني وسحرني - بدر شاكر السياب، خاصة اني كنت اعتز اعتزازا شديداً بالنسخة التي حصلت عليها من ديوانه الشهير أنشودة المطر والذي نشرته دار مجلة شعر في بيروت سنة 1960 .. السبب الثاني سبب عام فقد كنت أود معايشة بغداد بصورة حميمة، لأنها المدينة الشامخة التي شهدت مراحل ازدهار الحضارة العربية - الإسلامية خلال العصر العباسي، كما شهدت مرحلة أو مراحل من حيوات الشعراء العرب الكبار الذين كنت وما زلت احبهم، وعلي رأسهم المتنبي العبقري، وفضلا عن هذا فإن بغداد المدينة التي كان الناس من مختلف الأعراق والعقائد والأجناس يتآلفون فيها خلال ازدهارها، ويتنافرون ويتخاصمون خلال فترات ضعفها وانحدارها.

لم يتحقق الحلم بصورة مباشرة، ففي يوم 6 أبريل سنة 1979 كانت الدوحة أولى المدن العربية التي ازورها لامجرد زيارة، وانما للعمل في الراية التي صدر عددها الأول يوم 10 مايو سنة 1979 ، ومن مطار الدوحة انطلقت في سبتمبر سنة 1980 الي مطار صدام الدولي الذي قيل لي وقتها انه قد بني علي نفس معمار بناء مطار شارل ديجول الدولي في باريس. لم يكن انطلاقي الأول الي بغداد تلبية لدعوة أدبية او ثقافية، وانما لإجراء تغطية صحفية لانتخابات الحكم الذاتي في شمال العراق، ولابد هنا ان اشير علي الفور إلي ان أكراد العراق، كانوا يتمتعون بحقوق كبيرة، لا يتمتع بها الأكراد الذين يعيشون في الدول المجاورة للعراق. وعلي أي حال، فإني انبهرت منذ الوهلة الأولي ببغداد، ثم انطلقتْ بنا - انا وسواي من الصحفيين العرب والأجانب - سيارات وباصات فخمة الي مدن عديدة في الشمال.. الى كركوك والموصل وأربيل.. وقرية صلاح الدين السياحية.. وقرية سري شهر وسواها، حيث شربت اللبن الممزوج بالملح والقهوة العراقية السوداء وأكلت اجمل انواع التمر العراقي.. وشهدت - مع سواي - مراكز الاقتراع والصناديق الانتخابية وتوافد الأكراد للتصويت، وكان مقررا بعد ذلك ان اعود من بغداد الي الدوحة يوم 21 سبتمبر سنة 1980 ، لكن هذا اليوم البعيد فاجأني بما لم اكن اتوقع، ففيه بدأت الحرب العراقية - الإيرانية التي امتدت طيلة ثماني سنوات، وهكذا أُغلق مطار صدام الدولي، وظللت في العراق طيلة شهر بأكمله، مقيما في فندق ميليا المنصور ومنه أتحرك للقاء شعراء أو أدباء كبار، بل للمبيت في بيوتهم احيانا.. حيث نمت ليلة في بيت الشاعر الكبير بلند الحيدري، وليلة اخري في بيت جبرا إبراهيم جبرا، وليلة ثالثة في بيت أستاذي الشاعر الدكتور كمال نشأت والذي كان قد حصل علي الجنسية العراقية وقتها، وكان يقوم بالتدريس في جامعة المستنصرية، ومن بين تلاميذه وقتها الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق.. وعلي امتداد هذا الشهر أحسست كأني قد أصبحت مواطنا عراقيا يتجول في بغداد.. ما بين أحيائها السكنية الفخمة مثل حي المنصور وأحيائها الشعبية الفقيرة والمتواضعة، وكانت صور الرئيس القائد صدام حسين تملأ شوارع الأحياء الفخمة والمتواضعة علي حد سواء، أما الشوارع ذاتها فإنها ظلت تذكرني بشوارع المدينة التي ولدت فيها والتي شهدت هي الأخري فترات ازدهار وانحدار علي امتداد التاريخ - القاهرة، ومما كان يؤكد هذا المعني في روحي وجود ألوف من المصريين ممن يعملون في بغداد مع إخوانهم العراقيين، ومنهم من كانوا يعرضون بضائعهم علي أقفاص خشبية في الميادين العامة، تماما كما يفعل سواهم في ميدان العتبة وسواه في القاهرة.

كان الانطلاق من الدوحة إلي بغداد في رحلة الذهاب متسما بالراحة، بل بالرفاهية، أما رحلة العودة فإنها كانت مرهقة بكل معني الكلمة، خاصة ان ما معي من نقود كان قد أوشك أن ينفد تماما! ووقتها انطلقت بأحد الباصات من بغداد إلي عمان في الأردن مع المتزاحمين المصريين الذين قرروا العودة إلي مصر بسبب الحرب وخوفهم من آثارها، بينما ظل الذين يتحلون بشهامة أولاد البلد في أماكن عملهم المختلفة في بغداد وسواها من مدن العراق، ومن العاصمة الأردنية ظللت أنتظر عدة أيام إلي أن أتيح لي أن أعود إلي الدوحة.

بعد هذه الزيارة الأولي للعراق ولبغداد والتي لم تكن تلبية لدعوة أدبية أو ثقافية، أتيح لي أن أزور بغداد وسواها من مدن العراق - من البصرة جنوبا إلى زاخو شمالا - بصورة منتظمة.. مرة كل سنة.. من خلال مهرجان المربد، وفي كل زيارة كان حبي لبغداد ولأهلها يتجدد ويتأكد.

بغداد.. المدينة التي بهرتني وسحرتني.. لم تعد بغداد التي عرفتها.. منذ أربع سنوات والاحتلال الأمريكي الجائر والغاشم يحاول أن يكتم أنفاسها العربية الأصيلة، كما يحاول المتواطئون معه ممن عادوا إلي العراق علي ظهر الدبابات الأمريكية أن يقتلوا روح العروبة وأن يمزقوا روح التآخي بين الطوائف والمذاهب التي كانت متعايشة ومتآلفة.

أعترف الآن بأن الحزن يتعمق في قلبي منذ يوم الأربعاء الأسود 9 أبريل سنة 2003 وأني أذرف الدموع ما بين حين وآخر، كلما رأيت - من خلال القنوات الفضائية العربية أو الأجنبية - مشهدا من مشاهد التدمير الذي تتعرض له المدينة التي مازال حبها يتجدد ويتأكد برغم كل المآسي والكوارث.

حزني الذي يتعمق لا يعني مطلقا أني أطل من شرفة اليأس علي بغداد التي لابد أن تستعاد، رغم الضحايا والحرائق والرماد.. بغداد لابد أن تستعاد، فالمدينة التي لا تقاوم الغزاة لا تستحق الحياة، أما بغداد فإنها تستحق أجمل حياة.

رغم الضحايا والحرائق والرماد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى