الأحد ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

مقاومة التهميش في ديوان المدخل إلى علم الإهانة

في ديوانه " المدخل إلى علم الإهانة " – دار تحديات ثقافية بالإسكندرية 2006- يكشف مهدي بندق عن نمط من الفاعلية الثقافية يرتبط بسيادة القوة ، و حضورها في نسيج التاريخ الحضاري بشكوله المختلفة ، ثم تأويل اللحظة الراهنة باستعادة آثار الهيمنة من خلال الهامش لا المهيمن ، مما يعزز من عمليات الإقصاء اللاواعية التي يمارسها كل من المركز و الهامش باتجاه الآخر ، فتنتفي مركزية الفاعلية المطلقة و تتحول إلى أثر للغياب في وعي الهامش ؛ إذ إن تواترهما الحدسي / المختلف و المشكل للتأويل الذاتي / النسبي لهما في التاريخ يخرج دوما عن الصياغات اللغوية الشمولية ، في اتجاه أشكال جديدة لها حضور تفاعلي معقد .

الفاعلية تؤسس الإهانة بخلق هوامش ، لا يمكن تصورها خارج علاقتها بالفاعل / الأب الذي أكسب الهامش مشروعية الوجود في الإهانة ، إنها إذا تأويل لوضع الذات و ليست وصفا لهوية المتكلم ، ولهذا فهي تجمع بين الحتمي و الزائف ؛ لأن الفاعل لا يدرك إلا من خلال غياب صوته ، و من ثم تجليه كأثر في أحاديث الذات المتمردة رغم طغيانه الظاهري و تمثيله الدلالي لمفهوم الحضارة برمته ، هكذا يختلط الفاعل بما يولده غيابه من فراغ و استمرارية معا فتبدو أبويته الثقافية وظيفية ؛ أي قابلة للإقصاء المستمر من قبل الهامش إذ يجردها من الصوت دون أن يتخلص تماما من تأثيرها الحتمي عليه ، فيعلو الصراع بين الألم و التمرد الوضعي .

و لكن الذات الممثلة في حكايات الإهانة تحطم مرآتها بالشك المستمر في إدراكها لوضعها الهامشي ، فتؤكد خروجها من أي إطار يمكنه اختزالها ضمن علاقة ثقافية أو أيديولوجية ، و تفردها المضاد لإمكانية التنبؤ بمعتقدها أو استجابتها .

إننا بصدد خيانة للهامش الذي وقع في شركه الصوت الداخلي نتيجة لتواتره الحضاري و التاريخي ، فنستعيد جدل المسارين : الحتمي و الشكي مرة أخرى دون حسم واضح لأحدهما ، فالوضوح نفسه صار محل شك مستمر في الدراسات الإنسانية و الثقافية المعاصرة .

في نص " صفر في الغلس " يرتد الشاعر عن مركزيته الفيزيقية بقوة تناسب اندفاع الفاعل القاسي باتجاهه " قرح كبدي بأصابعه / و دعاني لأقبل منتشيا / قلت له كيف و لست أرى شيئا / فالضوء رفيقي منعكس للخلف بسرعته القصوى / بينا صرت أنا صفرا في الغلس " الصوت الأعلى الغائب هنا يمتاز بقدرة تدميرية لاواعية تواجهها الذات بالعمى الإبداعي عن المركزية نفسها ؛ فالزمن و المادة و الضوء في علاقة معقدة تسائل معنى الوجود ، و العدم على حد سواء ؛ فضلا عن المحاكاة الزائفة لحالة المفعولية كمركز للمنصوبات لدى النحويين ، فيقول " بينا صرت أنا صفرا في الغلس " فنصب صفرا يشبه المفعولية و يناهضها بالتمرد عليها بخاصية الاختلاف ؛ فتنفك المفعولية / بديل الهامش في بديلها المتفرد / الصفر الذي اقترن بضمير المتكلم فأصبح يشكك في قيمة المحو الثقافي .

تتخذ الذات موقع الضدية المناهض للمسار الحضاري المرتبط بهيمنة منطق الفاعلية " ماذا فعل الفاعل بالمفعولين هناك في النسق السفلي الأعمى / علمهم أن الصمت هو الفضل الأسمى / و أن الأقوال خيانات عظمى / فلماذا وحدي أتقول بالضد من المهد إلى اللحد "
هل منحت الفاعلية ارتفاعا زائفا ضمن قصديتها الخفية ؟ لماذا جاء الصوت الشعري إذا مضادا لحكمة الصمت ؟ هل كان الصمت حاملا لنواة التمرد بما فيه من انقسام و طاقة عنيفة ؟ لقد ارتفعت الأبوية من خلال شفافية المادة و احتمالات تفريغها من مضمونها في حالة (الصمت) تلك التي يؤسس النص – في خفاء –لخيانتها بالضدية الحاملة لطاقتين ؛ هما :

1-الشتات الداخلي بتفجير الهامش من داخله فتنقسم الذات بين طاقتي الألم و التمرد .

2- الصمت كنواة لتفجير الكلام بما يحمله من فاعلية ووعي زائف ، فيصير مضادا لحالة المفعولية الأولى .
و لأن الشاعر مشغول بالفكر و الاختلاف كعنصر فعال في تأويل الوجود ، فكل من الضدية و شرك الهامش يعملان في فسحة ، أو فراغ يخلفه الفاعل في غيابه ، فالغياب يفترض إفراطا في التعددية المناهضة للقيمة المركزية التي ولدتها .

و يستخدم الشاعر دال " الغلس " لا الظلمة ؛ لأن الغلس ملتبس بالضد / بنهايته الخاصة ضمن حدود الظلمة الفارغة ؛ لا مفر إذا من التبديل الطبيعي و الخروج من حتمية النموذج الثقافي بكشف زيفه ، فبينما تندفع الذات بقوة غير واعية في علاقات الهيمنة الخطابية ، لتؤكدها ، نجدها تبادر بقتل أي توقع لاستمرار هذه العلاقات أو قدرتها على إنتاج تنبؤ بصيرورة الذات بوصفها هامشا زائفا . لقد أقام النص حوارا اختلافيا بين تكرار الإيقاع كعنصر دلالي لحتمية الموت أو التدمير الحضاري للأنا ، و الطاقة المصاحبة للشتات و السخرية الذاتية التي يواجه النص بها ارتفاع المنطق الأبوي ؛ فالأنا تتمزق بقوة أسطورية تشبه صورة ديونيسيوس Dionysus الإغريقية فتتوزع بين الضد و الالتباس بصور الموتى الهامشيين و القاتل البدائي للطوطم / الأب بإقصائه عن المشهد ، لتكسر تكرار إنتاج المهمشين في حقب التاريخ المختلفة .

و في نص ( بطاقة أخرى لطرفة بن العبد ) يتجاوز الصوت طبيعته من خلال عمليات القراءة و التأويل بوصفا نشاطا إبداعيا ، فيحمل أثر طرفة بن العبد مجردا من ثقافته الصحراوية ، فيبحر الصوت و إيقاعاته في الكتابة التي ترتكز على الاحتمالات و الاستبدال المستمر لهوية المتكلم ، لكن هل حمل صوت طرفة يقينا معرفيا بالأساس ؟ إنه يصف أطلال خولة ب " تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد " إنه الأثر مرة أخرى ، و الشك في استمرار الحضور الإنساني في العالم ، فالوشم يحيل الموضوع إلى وهم يماثل ما يصف به الشاعر نفسه من عمى إبداعي تحريفي للمركز الذي أفقده الفاعلية و التحرر ، فتجاوزهما من خلال إحياء أثر طرفة ليمعن في إخفاء ذاته ضمن الحضور المؤقت للأثر ، و الممتد أيضا في اللاوعي بشكل لا نهائي يصاحب تداعيات الكتابة ، فهي تستدعي الرمز التاريخي لتحيا حياة مراوغة لا يمكن للفاعل المهيمن أن يقبض عليها أو أن يحددها :

" و فلسفتي تبحر في ظلمات ليس تحد / يلاقيها الأعمى الحر / و يتجنبها الأعمى العبد "

تحيا صورة الشاعر ووجهه التمثيلي / طرفة خارج نطاق التبادلية الشمولية المصاحبة للشكل المعاصر من الاستهلاك ، فهو يتصل بالفراغ أو الفقد ليكتسب طاقته المضادة لحتمية المعنى الوظيفي / النفعي للوجود ، و ما يطلق عليه تورين العقل الأدائي الذي تورط فيه الإنسان المعاصر كاستجابة لرأسمالية الاستهلاك ؛ فمفهوم الضد لدى الشاعر يماثل طاقة الانقسام النووي مع صورة طرفة الممثلة لصوته في اتجاه مضاد للنزعة الكلية totality التي تخضعه لقسوة التبادلية و تحدد سلوكه قبل أن يعي بوجوده .

" فمن ترى يبادل اليقين بالبنزين في بورصة الأشياء؟ "

لم يعد وعي الشاعر – فيما أرى – بضديته بناء للغيرية و الاختلاف داخل الأطر الوجودية المحددة ببنية تشمل علاقات متعارضة ، و لكنه احتفال مؤجل بالوجود في تعدديته المتضمنة في الكتابة التي تمنحه العمى عن هويته المستلبة و تكسبه حياة الصوت الآخر مجردا من بعده الزمكاني ، مما يمنحه طاقة أقوى يتشكل منها الوهم الضدي لثبات البنية الحضارية .

و تبلغ طاقة المحو ذروتها في نص " المدخل إلى علم الإهانة " حين يتخذ التدمير هيئة طقسية للتجاوز و الخروج وفق قوة نيتشوية جديدة لا يمكن الحصول عليها إلا برفع الممحاوات كتعبير عن زيف الحضور الراهن للبطل / المهمش ، كأنه يعلن أنه لم يولد :

" الحمد للتناقض / لأننا – نحن المذلينا ..

به بلغنا رتبة الصفر / في لجة ليست بنا تدري لكنها تحملنا ..

مسددين للفضا ممحاتنا التي لم تعرف الأقلام مثلها من قبل "

كيف يتضخم المحو ضمن مدلول المحو نفسه ؟ كيف يشكل الهوية الممثلة في " نحن " . إن المحو تقديس لا واع للأثر المراوغ الذي لا يفترض أن يكون حاضرا أبدا في منطق كلي للمحو ؛ فالذات تحاكي المفعولية و الفاعلية في آن لتسقط المحو من داخله بتجاوزه المستمر في نطاقه الأول الذي وضع في تعارض كامل مع الوجود ، قد يكون الصفر انفجارا تخيليا للتبديل الذاتي في اتجاه قوة جمالية مضادة للإهانة الأولى . و تتواصل نغمات التجاوز الذاتي في نص ( في رماد المحو ) لتعيد طرح تساؤلات التراجيديا و فلسفات الألم التي تذكرنا بسوفوكليس و بوذا و شوبنهاور و بودلير و غيرهم ، ليحمل دال الموت المتضمن وعيا تأويليا للحياة في صخبها المصاحب للمآسي و الآلام ، أو لا يحمل شيئا فتكثر أشباح العدم المنتج في بديله / الرماد . " لعلها هذي المدينة أو سواها كل شيء / أو هي اللاشيء.. لعلها أو سواها ومضة ومضة قزحية في اللب / لؤلؤة تقشر للجياع / ..هل أصدر الدهر على تلك المدينة و سواها حكمه العبثي غيبا .. فلم المواليد القدامى الجدد ؟" المحو هنا يؤسس لمناهضة مدلوله الأول بانتشار الهامش كطاقة حية متجددة تستبدل مأساة المحو بوصفها فعلا نهائيا زائفا ، إن المحو ينتج الكثرة و تكرار الألم في وقت واحد مما يعزز من انعدام التوافق في النص و الوجود .

و يعلو العنصر الدرامي حاملا لطاقة الاختفاء في نص (إعدام الشاعر عماد الدين النسيمي) عقب التحام جسد الشاعر بالمقدس و المدنس معا ، بين الهيمنة و الإعلاء الشفيف حيث يصير التفكك الجسدي ، و الشتات إيغالا في إنتاج طاقة صوفية تمتد في الصوت البديل للشاعر : يقول " فألقوا علي العصي تهشم عظمي حتى التلف / و تشعل في عورتي النار تأكلني من أمام و من خلف " لقد اختلط السردي بدراما الشتات الذاتي ليعزز من التناثر و تجريد الصوت من جسديته حين يختلط بالأحلام الأبوية للنار ، فيمعن في التجزؤ ، و النووية المناهضة للمحو بالامتداد في الصوت الآني أو الآتي .

و مثلما طرح الديوان دالي التشتت و الاختفاء ، ليقاوم الفاعلية المطلقة للقوة ، فقد حمل شتاتا ثقافيا مثيرا للجدل حول فلسفة القوة ، و الاختلاف الكبير حول درجة حضورها في النصوص و الثقافات و بخاصة عند فوكو و بورديو و بودريار و تيري إيجلتون ، فبورديو يكشف عن تلازم القوة و مشروعية الوجود التي تؤدي لعزل الهامش و عدم أهليته ليصير عزلا ذاتيا في مرحلة لاحقة من داخل الهامش نفسه فيما يعرف بالعنف الرمزي ( راجع / بورديو / العنف الرمزي / ت / نظير جاهل / المركز الثقافي العربي 1994 ص 58 )

و تبدو آثار العزل المتكررة في بدايات قصائد الديوان ثم تخون الوضعية الهامشية بمحو الهوية الأولى و تبديلها بالاختلاف و تحطيم أسوار الخطاب الأيديولوجي بامتداد الأثر المتولد من تاريخ القوة نفسها في اتجاه إعادة التكوين المستمرة للذات التمثيلية الأخرى المشبهة بالمقهورة لتسائل الهامش من خلال محاكاته وفق التوجه المناهض للمركز عند بودريار ، فتنفك المرجعيات الثقافية للمتوالية التاريخية المأساوية مثل شتات الجسد ، وتنكسر حدة التكرار باستدعاء الشتات المصاحب لتراث القوة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى