الاثنين ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
صورة من رواية "نعناع الجناين" لخيري شلبي:
بقلم محــمد أنـقار

أهزوجة الرضا

يمتد نثر خيري شلبي بإيقاع يتأرجح بين الانسياب والتدفق. وهو قد يشبه في ذلك بعض الأنهار. لماذا لم أقرن ذلك النثر بالنيل؟ الجواب بكل بساطة يكمن في أني لم أر النيل قط إلا في السينما أو التلفاز. لذلك يصعب علي معرفة إيقاع جريان هذا النهر العظيم حتى أستثمره في وصف طبيعة النثر الروائي لخيري شلبي الذي خبرته جيدا فوجدته يتمتع بخصائص تصويرية قويةو لغة روائية جريئة إن لم أقل شجاعة. ومامن شك في أن هذا الكاتب المصري يمارس التصوير بواسطة اللغة المكتوبة بوعي متعمد. أول ليس هو صاحب البرنامج التلفزي الشهير المعروف ب "بورتريه"؟. ثم أو ليس هو الكاتب الذي يتريث في سرده ليصف طويلا موضعا أو يرسم بالكلمات صورة شخصية؟

يقدم خيري شلبي في روايته الأخيرة "نعناع الجناين" (رويات الهلال، القاهرة، ع 694، أكتوبر 2006) مجموعة من اللوحات المرقمة والمعنونة يبلغ عددها واحدة وثلاثين. ولقد أسميتها لوحات لأن طوابعها التصويرية لا يمكن أن تخفى عن أي قارئ منتبه. في كل لوحة شخصية أو حدث. وليس من الضروري أن تحضر شخصية بعينها أو حدث بعينه في كل اللوحات باستثناء شخصية الراوي بالطبع. لذا لا يمكن اعتبار هذه الرواية رواية الحدث الواحد الممتد أو رواية الشخصية الواحدة التي تُعقد لها البطولة المطلقة. كأنها رواية القصص القصيرة. بيد أن شخصية عمي أبو السعود تبدأ بها الرواية وبها تنتهي. وحينما يحضر في بعض اللوحات بقوة يغيب عن غيرها غيابا تاما، أو يكتفي السارد بالإشارة إليه في لوحات ثالثة كأنه الشبح. ومع ذلك ليس عمي أبو السعود بطلا مطلقا.

في رواية "نعناع الجناين" يعيدنا خيري شلبي من جديد إلى عوالم القرية. وإذا دققت النظر في صوره اللغوية ألفيته يجهد من أجل الإمساك باللحظات الدافئة والحميمة في تلك العوالم. يركز على جزئيات الأمكنة والملابس والأحاسيس، ويصبو من خلال كل ذلك إلى تقديم صور مفعمة بالدفء والحميمية. لا يهمه الحدث في حد ذاته بل تصوير انعكاساته على النفس القروية. لذلك لا يمكن اعتبار "نعناع الجناين" رواية الحدث الواحد، بل هي رواية التفاصيل المكانية والنفسية في موضع مخصوص من القرية المصرية.

تبدأ رواية "نعناع الجناين" بالحديث عن بدلة عمي أبو السعود وتنتهي به. وبين الحديثين تقديم لعديد من الأماكن والشخصيات وبعض الموضوعات. أما راوي كل ذلك شاب جامعي لفتته منذ الصغر شخصية عمه أبو السعود فانجذب نحوها بقوة وعمد إلى التشخيص الدقيق لبعض سماته النفسية والفيزيولوجية. وبين حديثي البدلة يقدم الراوي شخصيات جده حسن أبو السعود، وجدته معزوزة، وأبيه عبد العال، وأعمامه زكريا، وجبريل، وموسى، وخالته توحيدة القوية وقصة زوجها المقتول زلقة أبو زربة، والحاجة زهرة خالة عائلة العقالوة، وست عمرة حماة عمي أبو السعود المتغطرسة على أسرته وسليم الغرغاني تراتيرو زوج ست عمره، وحماد الخريجي منظف المراحيض، والشيخ عرفات عمر الأعمى السليط والمنادي في الساحات، والشيخ مختار الشربتلي صاحب البضاعة الطازجة دوما، والمعلم غازي داوود صاحب أفخم دكان في شارع "داير الناحية"، وخالتي تفيدة المرأة الطيبة صاحبة صندوق المجوهرات الرفيع الذي أهدته لها أميرة تركية هي أختها في الرضاع. ويمثل ضياع هذا الصندوق واحدا من الأحداث الكبيرة في هذه الرواية. ولقد أفضى البحث عن سارق الصندوق إلى اكتشاف سلسلة من اللصوص يصفهم الراوي بطرائق لا تخلو من السخرية إلى أن يتبنى في خاتمة الرواية سمت الأسلوب الوقور في أثناء تصويره للخالة تفيدة وهي تتخلى عن الصندوق بشهامة عظيمة باعتباره مصدر كثير من الشر. تقول في صفحة 189: « طالما الصندوق عندنا فالشيطان في دارنا». وفضلا عن الصندوق ثمة أيضا موضوعات إنشاء كُتاب القرية (ص10)، وسقوط هيبة الألقاب بعد الثورة (ص40)، وشهرة العم موسى في مجال تلقيح بقرات القرية ( ص 52)، إضافة إلى موضوعات الصراع بين أفراد عائلة العقالوة، ثم بينهم وبين بعض شخصيات القرية. بيد أن الحدث الذي أثار انتباهي بحدة وجعلني أحقق معه مشاركة وجدانية عميقة كان صورة بدلة عمي أبو السعود. فهذا الرجل أول أفندي وأول من لبس بدلة في عموم الناحية يوم أن تخرج معلما. ولقد اغتبطت العائلة بذلك واعتبرته واحدا من أمجادها الكبيرة إلى جانب الفحولة الجنسية لثيرانها. بيد أن الراوي سيستثمر هذا الحدث الفريد ويقدمه بأسلوب تراجيكوميدي من أجل تصوير جانب من جوانب الزمن الغادر. ذلك أنه على الرغم من أن عمي أبو السعود سيفلح في تحقيق مكاسب معنوية عظيمة في مجالات التربية والتعليم ( التدريس/ الكُتاب/ التفتيش/ المساهمة في إنشاء مدرسة/ ناظر مدرسة..) غير أنه لن يستطيع مع ذلك سوى الحصول على بدلتين طوال حياته، يلبسهما بالتناوب، ويكلف الراوي الصغير بحملهما إلى المكوجي من أجل الكي والتنظيف. أما البدلة الثالثة فلن يصل إليها حتى وإن جاء محصول العائلة من القطن وافرا.

يصف الراوي البدلتين فيقول:

«تلكما هما البدلتان اللتان ضجتا من حرارة جسده ولسع المكواة طوال سنوات وسنوات، يتم غسلهما مرة كل عامين بمعرفة محمد حسين المكوجي العتيق الذي تعلم أصول الصنعة في دسوق ثم عاد ليمارسها في بلدته فكان – كما يقول المأثور الشعبي – مثل ليمونة في بلد قرفانة. يقوم بتسريح الجاكيت بالإبرة الطويلة وخيط السراجة الواهن،في غرز واسعة، وذلك لتثبيت حشو الصدر والكتفين والبطانة، ثم يطرحها فوق تمثال خشبي لجسد فوق حامل معدني موضوع في قلب طشت الغسيل، يغمرها بالماء النظيف يرغى فوقها الصابون النابلسي بغزارة كثيفة؛ بالفرشاة الخشنة الناشفة يروح يكحت الرغوة هابطا بها بحرفنة ومعلمة، تنزل كتل الصابون كطين الشوارع بعد هطول المطر، مرة ومرتين وربما أربعة وخمسة إلى أن تنزل المياه نقية صافية. أما البنطلون فيطرحه فوق طاولة مدببة يلبسها في رجل البنطلون، والطشت من تحتها يتلقى سيولة الوسخ المتدفقة. على يمينه – فوق الكرسي – جردل أو حلة ملآنة بالماء يغترف منها بالكوز النحاس ذي الخصر الرفيع واليد المخروطة.

توضع الجاكيت بحاملها في حوش داره تحت وهج الشمس؛ البنطلون يطوي متدليا بالمشبك في حبل ممدود بعرض الحوش. بعد ساعات تجف تماما.» (ص36-37).

والراوي إذ يصف عمليتي الكي والغسل يضمّن الأسطر نغمة ساخرة تمتزج بحس مأساوي وتنكشف من خلال القراءة المتأنية. حتى التشبيه نفسه لا يخلو من أثار تلك النغمة. بيد أن ثمة حقيقة أخرى لا أظن أنها ستغيب خلال مثل تلك القراءة. وتتجلى تلك الحقيقة في شخصية المكوجي نفسه الذي يتفانى في مهمته بصدق كأن البدلة بدلته، أو كأنه يعارك في واقع الأمر الزمن نفسه وليس البدلة. أي إن حب البدلة من لدن صاحبها عمي أبو السعود يضاهيه حب المهنة لدى المكوجي. وكأن خيري شلبي يود أن يقول لنا من خلال كل ذلك إن الحب والصدق القديمين قد وليا وحلت محلهما اليوم قطع الغيار والآلات الصينية والبريق الكاذب.

في خاتمة الروية سيجتمع كل أفراد العائلة الكبيرة من أجل اقتسام أموال محصول القطن. وخلال ذلك سترد الصورة التي تمثل بيت القصيد في كل الرواية حسب قراءتي. موضوع الصورة اللوحة الأخيرة ذات الرقم 31، المعنونة ب "أهزوجة الرضا". وهو عنوان سحرني أكثر من عنوان الراوية ذاتها. هو مستمد من قيمة معنوية دقيقة، أو على الأصح من إحساس إنساني مرهف قد لا يكاد يجد له موضعا في زمننا المعاصر المفعم بطلب الماديات. تقول الصورة المستخلصة من لحظات الاقتسام العائلي:

"نظرتي وقعت على عمي أبو السعود، الذي اكتسى وجهه بملاءة شفافة من الحرج والكسوف كأنهم ضبطوه في موقف مشين، ترتعش الابتسامة المكسوفة على شفتيه كالمذنب يتلجلج بحثا عن ذريعة.

ظننت لأول وهلة أن أحدا قد أهانه على نحو ما، استعدت ما كان يقوله منذ هنيهة حينما عصر جبهته بين السبابة والإبهام ثم قال بنبرة أليمة:

"تعرفوا يا أولاد متى فصلت آخر بدلة في حياتي؟.. كانت من حوالي عشرين سنة"

فلم يأبه به أحد، كأنهم لم يسمعوه، فانفردت ملاءة الكسوف المربدة وغطت وجهه التعيس المقهور النبيل في آن.

كنت القريب منه طول عمري وأعرف أن آخر بلدة فصلها كانت في الواقع منذ ربع قرن مضى من الزمان، ولمست مدى زهقه من البدلتين الكالحتين العجوزتين.

في ظني أنه لو دخل الآن في الموضوع مباشرة وقال لهم بكل وضوح إنه قرر تفصيل بدلة جديدة لنفسه هذا العام بمناسبة ترقيته إلى مفتش بوزارة التربية والتعليم أو حتى بغير مناسبة، لوجد من الجميع ترحيبا وتشجيعا بل وتحريضا.. إنما..لا.. فالغريب أنه متأكد من هذا، لكنه متأكد في نفس الوقت أن تحريضه على تفصيل بدلة جديدة لنفسه سيكلف العائلة ما لا تطيق، إنه لواثق أن التشجيع والتحريض ليس نابعا من قناعتهم بأحقيته في تفصيل بدلة جديدة بعد طول حرمان من هذا الحق، إنما هو تشجيع على خلق ذريعة، فكل واحد سيلوح بأحقيته في تفصيل جلباب من الصوف، وسيقدم المبررات المقنعة.

خيبة الأمل في عين عمي كانت ومضة خاطفة إلا أنها كانت كشعلة من لهب لسعت الوجوه من بعيد لبعيد ثم انداحت عبر أوراق الشجر إلى الأفق الأبعد..» (ص 192-193).

هل هي متعة الانكسار التي يحلو للشيوخ أن يتلذذوا بها في حضرة من هم أصغر منهم سنا؟. أم هي اعتراف ضمني بالزمن القاهر الذي يجعلك تتوهم أنك على وشك الظفر بغنيمتك لكنك لا تستطيع الوصول إليها؟ أظن أن السطرين الأخيرين من الصورة يترجمان الإحساس الإنساني الذي انتاب عمي أبو السعود فشع في عينيه ثم تلقى الراوي ومضة الإشعاع ليبثها في شساعة الطبيعة ذاتها. إن خيبة عمي أبو السعود ثقيلة. ولقد أدرك بعمقه الإنساني أن همَّ جميع المحيطين به مطامح مادية ذاتية غير متعدية. وحيث إنه وعى جيدا أن الآخرين لن يستطيعوا مقاسمته ثقل الخيبة فقد راح ينظر إلى الطبيعة آملا أن يحقق معها مشاركة وجدانية فشل في تحقيقها مع البشر. إنها أهزوجة الرضا بالنصيب والقناعة والصبر، وهي ملمح من ملامح الإنسان في بحثه الدؤوب عن الشريك والندّ والصاحب في دنيا الصخب. وبالطبع إن الأمر يتعلق بعبق من نعنع الجناين، لكنه عبق للأسف الشديد لا يخلو من طعم الخيبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى