الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
الشعراء يهجرون الشعر إلى الرواية
بقلم عادل الأسطة

أسعد الأسعد وعري الذاكرة

يعود أسعد الأسعد، بعد انقطاع دام ثمانية أعوام، إلى المشهد الأدبي، بعمل روائي عنوانه "عري الذاكرة". وعرف الكاتب، ابتداء، شاعرا ومحررا أدبيا في مجلة "البيادر" وصاحب دار نشر هي الكاتب، وصاحب جريدة هي البلاد.

وقد صدرت له المجموعات الشعرية التالية "الميلاد في الغربة" (1975)، وكلمات عن البقاء والرحيل" (1979)، و "أنت.. أنا... القدس والمطر" (1980)، و"أعطني من حلمك جمرة" (1995). وأصدر عملا روائيا هو "ليل البنفسج" (1989)، قبل أن يصدر أخيرا"عري الذاكرة" (2003) التي يمكن اعتبارها الجزء الثاني لليل البنفسج، مع أن المؤلف لم يكتب هذا في أي مكان من الرواية. ولا يحتاج القارئ إلى كبير جهد حتى يثبت هذا، فشخوص الرواية هم امتداد لشخوص العمل الروائي الأول، عدا أن الزمن الروائي، هنا، يعد امتداداً للزمن الروائي، هناك. وإذا كان الزمن في "ليل البنفسج" توقف عند العام 1970، فإنه في عري الذاكرة" يبتدئ من هذا العام ويستمر إلى ما بعد حرب 1973 بقليل.
وإذا كان الكاتب أهدى الجزء الأول إلى أمه، التي قد يكون هناك مثلها، ولكن- والكاتب على ثقة- ليس هناك من هي أفضل منها، وبالتالي فإن الرواية بعض عرفان بالجميل وشهادة حب أبدية، فإنه يهدي روايته الثانية إلى والده الحبيب الذي رحل قبل خمس سنوات، وأخذ الكاتب، الآن، يفهم أباه. ولعل القارئ، وهو يقرأ عن علاقة زيد، بطل الرواية، بأبيه وأمه يعود إلى الإهداء ثانية. فصورة الأم وصورة الأب في الروايتين تبدوان صورتين إيجابيتين، والعلاقة بين زيد وأمه وأبيه لا تختلف في شكلها الإيجابي عما يبوح به المؤلف في الإهداء.

ربما يثير المرء، وهو يقرأ روايتي أسعد الأسعد، قبل أن يناقشهما مضمونا وشكلا وأهمية،سؤال الشاعر الروائي في أدبنا، فالظاهرة اللافتة هي أن عددا لا بأس به من الشعراء أخذ، منذ فترة، يكتب الرواية. وربما تمتد هذه الفترة إلى ما قبل العام 1948. في تلك الفترة كتب الشاعر محمد العدناني، روايته " في السرير" (1946)، وهي أشبه بسيرة ذاتية جزئية، وكتب الشاعر برهان الدين العبوشي المسرح، فأنجز غير نص، ومن النصوص "وطن الشهيد" (1947). وبعد عام 1948 كتب شعراء آخرون نصوصا روائية مثل يوسف الخطيب "عناصر هدامة" (1964)، وهارون هاشم رشيد "سنوات العذاب" (1970). وتوالت النصوص الروائية لشعراء مثل علي الخليلي وغسان زقطان وزكريا محمد، وقبلهم سميح القاسم. ولكن هؤلاء كلهم، باستثناء إبراهيم نصر الله، لم ينجزوا نصوصاً روائية لتجعل منهم روائيين قدر ما هم شعراء.

والناظر في مسيرة أسعد الأسعد يلحظ أنه أنجز في سنواته الأخيرة نصين روائيين، في حين أنه لم يصدر سوى مجموعة شعرية واحدة. واللافت أنه منذ سنوات طويلة لم يعد حاضرا في المشهد الثقافي، قدر حضوره حتى عام 1992 وما بعدها بقليل. والمتابع للملاحق الأدبية والمراجعات النقدية التي تبرز على صفحاتها يكاد لا يعثر على شيء يأتي على نتاجه الأدبي، الشعري والروائي، بل يكاد لا يقرأ له نصوصاً أدبية تذكر. والسؤال هو: ما سبب انقطاع الكاتب عن الحركة الأدبية؟ ويعقبه سؤال ثان: لماذا عاد إلى الكتابة عبر نص روائي، لا من خلال مجموعة شعرية؟ أيكون اقتنع بما ذهب إليه د. جابر عصفور وآخرون من أن زمننا هو زمن الرواية، أم أنه أدرك أن الشاعر فيه لم يبلغ قامة شعراء لفتوا، في حركتنا الأدبية، الأنظار أكثر منه؟ أم أنه اقتنع بأن الشعر ما عاد يجدي نفعا، وأنه تراجع وتراجع جمهوره؟

وربما يثير الدارس أسئلة أخرى مثل: هل شعر الكاتب أنه سيقدم، من خلال الجنس الروائي، نصا يفوق نصه الشعري؟ وهل رأى انه روائيا يمكن أن يقول أشياء لا يستطيع قولها شاعراً؟ أعني: هل خلص إلى أن لديه فائضا من الأفكار والمواقف والأحداث لا يستطيع الشعر استيعابها، في حين أن الرواية تستوعب ذلك.

ولا أريد أن أصدر حكم قيمة على نصوص الأسعد الروائية، ولا أرغب في أن أكون الناقد الذي نظر إليه ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال- أعني لا أود أن أكون ناقداً مرشداً يرشد هذا الكاتب أو الأديب إلى الجنس الأدبي الذي يمكن أن يبدع فيه، فلم أقل، من قبل، لأسعد، وأنا أكتب عن مجموعاته الشعرية الأولى، إنك روائي أكثر منك شاعراً. ولأسعد أن يكتب الجنس الأدبي الذي يرغب في كتابته، وأما أنا هنا فسأكتفي بإثارة أسئلة لا أكثر ولا أقل.

ثمة سؤال آخر ألحّ عليّ وأنا أقرأ الرواية، وهو: لماذا يعود أسعد الأسعد، في العام 2003، في أوج انتفاضة الأقصى، ليكتب عن الأعوام 1970-1973، تماما كما كتب، في أوج الانتفاضة الأولى، عن فترة ما قبل عام 1967 حتى العام 1970؟

وربما يجدر أن يجيب هو عن هذا السؤال، ولكن قارئ النتاج الأدبي الذي صدر، إبان الانتفاضة، يلحظ أنه ليس الوحيد الذي فعل هذا. ثمة روايات أخرى صدرت في الفترة الأخيرة، لم يمس فيها أصحابها فعل الانتفاضة، مثل رواية إيمان بصير " عشب الأرصفة" (2003) ورواية أكرم مسلم "هواجس الاسكندر" (2003). وخلافا للرواية لاحظنا أن الشعراء وكتاب القصة القصيرة كانوا أبرزوا في نصوصهم موضوع الانتفاضة، وكتبوا عن الراهن، ولم يعيشوا في الماضي. وقد بدا هذا واضحا في مجموعة محمود درويش "حالة حصار" (2002) ومجموعة "أكرم هنية" أسرار الدوري" (2001) ومجموعة محمود شقير " مرور خاطف" (2002)، وإن كتب الأخير عن أحداث وآراء وأفكار أخرى غير الانتفاضة، وإن استعاد الماضي وكتب عن براغ وإقامته فيها. أيعود سبب هذا كله إلى طبيعة الجنس الأدبي؟ أعني: أن القصيدة والقصة القصيرة تستجيب للأحداث بسرعة، خلافاً للرواية، التي يحتاج كاتبها إلى زمن طويل حتى ينجزها، لأنها تحتاج إلى صبر وأناة وروية؟ ربما، ولكنا لاحظنا أن يحيى يخلف نشر، في بداية الانتفاضة، جزءا من رواية تناول فيها انتفاضة الأقصى، ولا أدري لماذا لم تصدر الرواية التي وعد بإصدارها حتى اللحظة؟ (الكرمل، ع68، صيف 2001).

وربما علينا أن ننتظر سنوات طويلة أخرى حتى يكتب أسعد الأسعد عن الانتفاضة، ولا أدري إذا ما كان يخطط لكتابة روايات أخرى يتناول فيها فترة ما بعد 1973 حتى اللحظة.

ولئن كان أكثر ما ورد، حتى اللحظة، لم يمس النص الروائي، فإن ثمة أسئلة عديدة أخرى يثيرها القارئ تمس بعض الأفكار التي عالجها النص.
تقص الرواية، على أية حال، عن تجربة زيد المهاجر الذي يقيم في رام الله، فيما أصوله من بيت محسير التي احتلها الإسرائيليون. وزيد هذا مر بتجارب عديدة مع الإسرائيليين الذين حاولوا، بعد عام 1967، أن يغرروا به، وأن يوقعوه في أحابيلهم، ويكون ذا تجربة بسيطة في الحياة وفي السجون، وبغير قصد يورط زميله سالم الذي يحكم خمسة عشر عاما. ولكن زيد يتعلم الكثير، من الحياة ومن الناس، وبخاصة من أبيه الذي أهدى "عري الذاكرة" إليه. ويغدو مجربا ومتمرسا بالحياة، وينخرط في العمل السياسي ضد الاحتلال، وينتهي الأمر به، بعد سجنه مرارا، إلى الإبعاد عن أرض الوطن. وهنا تنتهي الرواية. طبعا زيد له أم وأب وأخوة وحبيبة تغدو زوجة وينجب منها ابنا يسميه (سالماً).

وفي أثناء قصّه عن ذاته، وقصّ السارد عنه، نتعرف إلى عالم السجن، ونقرأ عن سجناء مناضلين وسجناء يضعفون ويتعاملون مع سلطات الاحتلال، ومحاكمات الفدائيين للمتساقطين من السجناء، وتمس الرواية، هنا، وتراً حساساً، قاربته الرواية الفلسطينية من قبل. في بداية الرواية، قبل خروج زيد من السجن، نقرأ عن سجين شك في أمره بأنه عصفور- أي يتعاون مع إدارة السجن- ويعذبه بعض السجناء، حتى يعترف، بما لم يقم به- هكذا يستنتج- وينتهي الأمر به إلى الموت. وهذه فكرة أتت عليها سحر خليفة في "الصبار" (1976)، وعالجها بجرأة السجين البارز هشام عبد الرزاق في نصه القصصي "الشمس في ليل النقب" (1990/1991).

ومن الأفكار التي تأتي عليها الرواية فكرة الحياد تحت الاحتلال. هل ثمة حياد تحت الاحتلال؟ حتى الذين اختاروا الحياد لم يعيشوا بهدوء، وكان زيد ورباب حياديين، ولكنهما تورطا. وهذه الفكرة عالجها، في القصة القصيرة، في فترة مبكرة، القاص جمال بنورة، في مجموعته "العودة" (1976)، وهي من أوائل القصص التي صدرت بعد عام 1967.

ومن الأفكار أيضا فكرة مشاركة الفتاة في العمل الوطني، واستعدادها للوقوف إلى جانب الشخص الذي تختاره شريكا لحياتها، بعد فترة من الصداقة والحب. هكذا لا تبتعد رباب عن زيد حين يفاتحها، وهو الحبيب والصديق، بأنه ينخرط بالعمل السياسي. إنها تعده أن تقف إلى جانبه، وتتحمل كمل يتحمل، وتصبر إن أصابه مكروه.

العنوان والإهداء

يرد في ص175 السطر التالي:

"الماضي مثل امرأة دخلت أرذل العمر، تقف أمامك عارية" يخاطب زيد نفسه قائلا: "ها هي، كما في كل مرة، ذاكرتك عارية، تقف أمامها عاجزاً عن رسمها كما تشاء أو كما تشتهي"، ولكن الذي يتذكر، ويقف أمام ماضيه عاريا ليس زيد وحسب. رام الله أيضا في نهاية الرواية، تقف مثل امرأة كاملة الأوصاف، تتهيأ في كل زينتها للقاء حبيب أمضه البعد وأوجعه السفر، تعرت ذاكرتها، واستسلمت للحظة اللقاء، و"ها هي رام الله تنكفي على نفسها خجلا، وخوفا وعبثا تحاول، للمدينة ذاكرة تلهث عارية، وما من أحد يستر عريها.

ولعل أسعد الأسعد، في نهاية الرواية، لا يأتي بجديد وهو يشبه المدن بالنساء "المدن كالنساء لكل امرأة طعمها، رائحتها ومذاقها الخاص، كذا المدن" (ص179)، إنه وبطله يسيران على خطى محمود درويش في "محاولة رقم 7" (1974) حين يقول: النساء المدن قادرات على الحب/ هل أنت قادر؟، ولعل أسعد يحاول أن يسير على خطى أحلام مستغانمي في "ذاكرة الجسد" (1993) وفي الأجزاء التالية لها. ولقد حاول أسعد أن يركز، في روايته، على المكان، ولكنه، وإن وصف رام الله وشوارعها، لم يطنب ولم يبين صلة الإنسان بالمكان وتأثير الأول في الثاني، وشكل العلاقة بينهما.

قلنا إن المؤلف أهدى نصه لأبيه، لأنه أخذ، فيما بعد، يفهمه. ولئن كان هناك عدم تطابق كلي بين المؤلف وبطله، إذ يغدو هذان شخصين مختلفين في بعض المواطن، وهكذا لا تبدو الرواية رواية سيرة، إلا أن شكل العلاقة بين زيد وأبيه، وهي علاقة ودية كما ذكرنا، تقول لنا، اعتمادا على الإهداء، إنها تشبه العلاقة بين المؤلف وأبيه. يتعلم زيد من أبيه الكثير. يسأل أباه عن أشياء يسمعها لأول مرة، فيعلمه أبوه ما يحول بينه وبين توريط نفسه في مشاكل قد تكون عواقبها وخيمة، كما ورط صديقه سالما.

صورة الآخر:

إذا ما نظرنا في صورة اليهودي في الرواية، فلا تطالعنا بأشياء جديدة لم نقرأها في القصة القصيرة والرواية التي كتبها أدباء مناطق الاحتلال الثاني. اليهودي الذي يظهر في الرواية هو السجان القاسي، وهو ضابط التحقيق، وهذه الصورة بدت في أكثر النصوص التي أنجزت بعد عام 1967. ولا عجب في ذلك، فأكثر الكتاب لم يعرفوا اليهود عن قرب، وأكثر من كتبوا عن عالم السجن كتبوا عن فلسطين ولم يروا سوى السجان والضابط، وهكذا لا تقدم لنا الرواية المنجزة عام 2003، الجديد في هذا الجانب، كما لم تقدم الجديد في جوانب أخرى.

ترى هل سيواصل أسعد الأسعد كتابة الرواية؟ وهل يسائل نفسه إن كان يكتب رواية تفيد من المنجز الروائي الفلسطيني ليتجاوزه- أي المنجز الروائي-؟ أم أن همه، وهو يكتب، أن يبوح عن تجاربه، لا أكثر ولا أقل.

هذا ما سأفصح عنه في مقالة لاحقة أتناول فيها قصته الطويلة الأخيرة "غياب" التي صدرت في العام 2005.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى