الاثنين ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٧
الرواية الجغرافية في
بقلم علي القاسمي

بطن البقرة لخيري شلبي

فذلكة:

أزعمُ، في هذه المقالة، أنّ كاتباً عربياً استطاع، أخيراً، أن يكتب الرواية الجغرافية الكاملة لأوّل مرّة في الأدب العالمي. فقد أفلح الروائي المصري خيري شلبي في إنجاز رواية جغرافية بديعة في كتابه " بطن البقرة "، بعد أن أخفق في تحقيق ذلك الحلمِ الأديبُ الجغرافيُّ الفرنسيُّ الشهير جول فيرن في القرن التاسع عشر، وبعد أن اقترب من ذلك النوع الأدبي، أو كاد، الروائي الشاعر الأمريكي فردريك بروكوش في القرن العشرين.

جنس الرواية وأنواعها:

قبل كل شيء، ما المقصود بالروية الجغرافية؟
تستلزم الإجابةُ على هذا السؤال تعريف ( الرواية ) أولاً. وهذا أمر على جانب كبير من الصعوبة؛ لأنّ الرواية الحديثة قد تطورت بصورة مذهلة منذ أوّل ظهرها في أوربا خلال القرون الوسطى، حتّى غدت اليوم عنقاء خرافية هائلة تلتهم جميع الأجناس الأدبيّة والفنيّة الأخرى كالسيرة، والشعر، والمذكّرات، والمسرحية، والفنون التشكيلية. وبسطت هذه العنقاء الضخمة جناحيها على جميع المجالات المَعرفيّة كالتاريخ والفلسفة والسيرة وعلم النفس وعلم الإجرام وعلم الاجتماع، إلخ. ولهذا تعدّدت أنواعها بشكل يعجز عنه الحصر، فهناك الرواية التاريخية، والفلسفية، والنفسية، والبوليسية، والسياسية، والسيرذاتية، إلخ. وقد اطلعتُ مؤخراً في الشابكة (الإنترنت) على دراسات فرنسية جامعية وأكاديميّة، متعددة ومسهبة، حول (الرواية المِثليّة) ونوعيها الرئيسَين: (الرواية اللوطية) و (الرواية السحاقية) والسمات المميزة لكل منهما والفروق القائمة بينهما.

بصورة تقريبيّة عامّة ، يمكن تعريف الرواية على أنّها جنس أدبي نثري (على الرغم من وجود روايات شعرية قليلة) يُعنى بسرد حكاية خيالية ذات أحداث كثيرة يقوم ببطولتها شخص أو شخصيات متعدّدة وتجري في فضاء معروف خلال فترة زمنية معلومة. وقد استخدم الروائيون خطابات متباينة بحسب المقام كالخطاب الشعري والتقني والقضائي وغيرها، كما استثمروا في كتابة الرواية أساليب أدبية متنوعة وتقنيات سردية مختلفة، فأنتجوا الرواية الواقعية، والطبيعية، والرمزية، والملحمية، والسوريالية، والعجائبية، وغيرها. فالرواية جنس حرٌّ مفتوح قابل للتجريب في الأشكال والأساليب والمضامين.

وتستجيب الرواية للظروف الاجتماعية والاقتصادية والتطورات العلمية والتقنية في كلّ حقبة تاريخية؛ فتظهر أنواع روائية جديدة تلاءم العصر في أشكالها ومضامينها. ففي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، مثلاً، أدّى تصاعد الشعور القوميّ في أوربا إلى الاهتمام بالتاريخ، فظهرت الرواية التاريخية التي تستلهم تاريخ الأُمّة وتغذي الاعتزاز بأمجادها لدى القراء، وذلك بتركيزها على أبطال تاريخيين أو على أشخاص خياليين يتحركون في ماضٍِ تاريخي كما يفهمه المؤلّف ويتقبّله معاصروه. وتتطلّب كتابة الرواية التاريخية بحثاً معمّقاً في التاريخ. وقد اشتهر في كتابة الرواية التاريخية السير والتر سكوت (1771 ـ 1832)، خاصة في رواياته: وفرلي (1814)، روب روي (1818)، إيفانهو (1820) التي جدّدت الاهتمام بتاريخ اسكتلندا خلال القرون الوسطى(1). وإبّان النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، أفاد من هذا النوع جورجي زيدان (1861 ـ1914)، أحد روّاد النهضة العربية وصاحب كتاب " تاريخ التمدّن الإسلامي"، فألّف سلسلة من الروايات التاريخية المشهورة لتغذية الشعور القومي لدى العرب وتنمية الاعتزاز بتاريخهم المجيد ليستعيدوا استقلالهم ووحدتهم.

ومن ناحية أخرى، أدّى تطوّر أجهزة الشرطة في أوربا واستخدامها تقنيات علمية وتقنية أفرزتها الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر في الكشف عن الجرائم وفاعليها، إلى ظهور نوع جديد من الرواية هو (الرواية البوليسية)؛ فاشتهر في بريطانيا، مثلاً، السير آرثر كونان دويل (1859ـ1930) الذي أبدع شخصية المخبر (شارلوك هولمز). (2)

ويثار السؤال هنا، إذن، لماذا لم تؤدِ الاكتشافات الجغرافية التي سبقت حركة الاستعمار الأوربي خلال القرن التاسع عشر، مصحوبة بالتطور الهائل في وسائط النقل كالباخرة والمنطاد والقطار، إلى ميلاد الرواية الجغرافية، في القرن التاسع عشر كذلك، خاصّة أن هذا القرن يُعرف بالعصر الذهبي للرواية؟

جول فرن يطمح إلى كتابة الرواية الجغرافية:
كان من المفترض أن تظهر الرواية الجغرافية على يد المؤلّف الفرنسي ذي المواهب المتعدّدة والقلم السيّال جول فيرن ( 1828 ـ 1905)، فقد كان هذا الرجل مغرماً بالجغرافية شغوفاً بأخبار الرحّالة والمكتشفين مولعاً بالإبحار بالقوارب الشراعية. وعلى الرغم من أنه تخرّج في كلية الحقوق بباريس، فإنه لم يزاول المحاماة وإنما تفرّغ للبحث الجغرافي والكتابة الأدبية والمسرحية. وكان يطمح إلى أن يكون جغرافياً بارزاً حتّى أنه انخرط في الجمعية الجغرافية بباريس سنة 1865، وألّف كتابين في الجغرافية: " اكتشاف الأرض: التاريخ العام للرحلات العظمى وللرحالة العظام" في ثلاثة مجلدات (1864 ـ 1880). و" الجغرافية المصورة لفرنسا" (1868). وكان فيرن مولعاً بالقوارب الشراعية وامتلك ثلاثة قوارب بالتعاقب، وعبر المحيط الأطلسي، عام 1867، على باخرة بريطانية من ليفربول إلى نيويورك، ثم قام برحلة إلى شلالات نياغارا.

كان جول فيرن يطمح إلى كتابة نوع جديد من الرواية سمّاه بـ (الرواية الجغرافية). وانتهى إلى كتابة رواية عنوانها " خمسة أسابيع في بالون " نُشرت عام 1863، ظنّ أنها رواية جغرافية، فقد استثمر في كتابتها المعلومات المتوفرة في زمانه عن القارة الأفريقية وتقارير الرحلات الاستكشافية. بيّد أن النقّاد المهتمين بتجنيس الأنواع الأدبية عدّوا هذه الرواية في عداد (رواية الرحلات)؛ فهي تصف رحلة في بالون تقطع قارة أفريقيا من الشرق إلى الغرب، إذ تبدأ في جزيرة زنجبار وتنتهي بشواطئ المحيط الأطلسي.

ثم قاده ولعه بالرحلات البحرية والفلك وإبحاره كثيراً مع أخيه في قارب شراعي إلى كتابة رواية بعنوان " ثلاثة إنجليز وثلاثة روس" (1863) ثم كتابة روايته الشهيرة " حول العالم في ثمانين يوماً" (1865). ولكن هاتين الروايتين تنتميان إلى نوع المغامرات والرحلات، وليستا من الروايات الجغرافية (3).

وخلاصة القول إن جول فيرن على الرغم من أنه كان يطمح إلى كتابة الرواية الجغرافية، وعلى الرغم من أن ميشيل مارغو ، رئيس جمعية جول فيرن في أمريكا الشمالية، زعم بأن " الإبداع الحقيقي لجول فيرن يتمثّل في اختراعه للرواية الجغرافية"(4)، فإن جول فيرن، في حقيقة الأمر، لم يتمكّن من كتابتها، وإنما كتب روايات ذات محتوى جغرافي يقع فيها الإنسان والأرض في مركز اهتمامه ، ولكنه كان يتعامل مع جغرافيتين إحداهما حقيقية والأخرى غامضة، وكان الانتقال من إحداهما إلى الأخرى يثير الخيالي والعجائبي في الرواية، على حين أن قوام الرواية الجغرافية واقعي موضوعي، كما سنرى.

فردريك بروكوش يقترب من الرواية الجغرافية:
أما الروائي الشاعر الأمريكي الشهير فردريك بروكوش (1908 ـ1989)، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة الرواية الجغرافية، حتّى أنّ الروائي الفرنسي العبقري البير كامي صاحب روايتي " الغريب" و "الطاعون" الشهيرتين والحائز على جائزة نوبل للآداب، قال، بعد أن اطلع على رواية " الآسيويون" لبروكوش:

" إن بروكوش اخترع ما يمكن تسميته بالرواية الجغرافية." (5)

فقد استطاع بروكوش أن يجعل من الأمكنة في بعض رواياته بمثابة أشخاص الرواية. ومع ذلك، فإن أركان الرواية الجغرافية لم تتوافر في روايتي بروكش الشهيرتين " الآسيويون" و"السبعة الذين فرّوا" اللتين جرت أحداثهما في آسيا، وغلب عليهما الوصف الدقيق للأماكن والأبنية، وذلك لأن بروكوش لم يرَ تلك الأماكن ولم يصل إلى القارة الأسيوية، على الرغم من كثرة أسفاره وتنقلاته، فقد درس في اثنتين من أشهر جامعات العالم في زمانه هما جامعة ييل في الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة كيمبردج البريطانية، كما عمل خلال الحرب العالمية الثانية ملحقاً ثقافياً للولايات المتحدة الأمريكية في البرتغال والسويد، ثم عاش حياة مترفة في أوربا والتقى بكثير من مشاهير الأدب العالمي في عصره وتحدّث عنهم في مذكراته. ومع كثرة أسفاره ورحلاته تلك، فإن لم يصل القارة الآسيوية ورواياته عامة و" الآسيويون" خاصّة، لم تستند إلى أماكن واقعية وإنما كانت قد فرّخت في خياله بفضل ثقافته الواسعة وقدراته الإبداعية الفائقة.

ولهذا كلّه، يمكن القول إنّ بروكوش اقترب من كتابة الرواية الجغرافية في روايته " الآسيويون"، ولكنها افتقدت شرطاً هاماً من شروط الرواية الجغرافية، ذلكم هو شرط الموضوعية والواقعية في وصف الأماكن الجغرافية.

أركان الرواية الجغرافية:
الرواية الجغرافية نوع هجين ينتج من زواج يُعقد بين الأدب (الرواية) والجغرافية (الخطط). ولكي ينجح هذا الزواج وينجب الزوجان مولوداً سليماً رائعاً، لا بُدّ من وفاق وتواؤم في الحياة الزوجية بحيث يتنازلّ كل طرف من طرفي العلاقة الزوجية عن بعض طباعه ليلاءم الطرف ا لآخر.

في الرواية الجغرافية، تتنازل الجغرافية عن أسلوبها العلمي ومصطلحاتها التقنية وتعبيراتها المجرّدة من العواطف الذاتية، لصالح الأسلوب الأدبي الشاعري الفني المزيّن بالمجاز والصور الاستعارية والمضمَّخ بمشاعر الأديب وأحاسيسه الجامحة. ويتنازل الأدب، من جهته، عن الخيال من أجل أن يفسح المجال للموضوعية الجغرافية.

فالجغرافية علم موضوعي تزداد قيمتها كلما كانت لصيقة بالحقيقة المادية، فهي تختلف عن الأدب الذي تزداد قيمته كلما ابتعد عن الواقع وأغرق في الإبداع والخيال. بل تختلف الجغرافية، من حيث موضوعيتها، حتى عن التاريخ الذي قد يتسرّب إليه كثير من الخيال والتحزّب والتزوير، على الرغم من حرص المؤرِّخين على إتّباع منهجيات موضوعية في تمحيص الأخبار وتوثيقها. وهذا ما علّله المؤرخ عمر فروخ بقوله:

" التاريخ رواية: يرويه راوٍ متأخّر عن راوٍ متقدّم. وفي مسيرة أحداث التاريخ من راوٍ إلى آخر، تتعرّض تلك الأحداث للتبديل أو للزيادة والنقصان." (6)

وهو ما عبّر عنه الشاعر عبد الوهّاب البياتي بقوله:
كاذبة كتب التاريخ
ما كان الإسكندر تلميذاً لأرسطو
ما كان سوى جلاد
يغزو من أجل الغزو
ليشفي غلّته
بدماء جنود الفقراء(7).

ويكمن سرّ موضوعية الجغرافية في أنها لا تتناول الإنسان وقيمه وسلوكه ومشاعره ومواقفه والأفعال التي ينجزها، بل تتناول الأرض وتضاريسها وأنوائها أو الأماكن ومعالمها وما يطرأ عليها من تغيرات وتحوّلات عبر القرون والسنين. وهذه العناصر التي تتناولها الجغرافية عناصر ماديّة قابلة للدرس الموضوعي التجريبي. ومثلها في ذلك مثل العناصر التي يدور حولها علم الفيزياء أو الكيمياء.

وتختلف الرواية الجغرافية، عن بقية أنواع الرواية في أن الشخصية الروائية فيها هي المكان. فإذا كانت الأنواع الروائية الأخرى تسرد سيرة شخصية مركزية أو شخصيات متعددة، وما الفضاء فيها إلا مجرد عنصر ثانوي وجِد ليتحرك ويتفاعل فيه شخصيات الرواية، فإن الرواية الجغرافية تسرد سيرة مكان واقعي( بلاد، مدينة، حارة، شارع، إلخ. أو جميع ذلك) والتحوّلات التي طرأت عليه عبر الزمان، وما الشخصيات التي يرد ذكرها إلا مجرد عناصر ثانوية ذُكرت عرضاً بفضل ارتباطها بذلك المكان. ولهذا فإن كتابة الرواية الجغرافية تتطلّب من المؤلِّف، إحساساً عميقاً بالمكان، بل تعلّقاً وتولّهاً وافتتانا به، وحرصاً على سلامته وصيانته وازدهاره ودوامه. وكما تتفاعل شخصيات الرواية فيما بينها ويؤثّر بعضها في بعض ويتأثّر به، فإن الأمكنة في الرواية الجغرافية يتأثّر بعضها ببعض على جميع المستويات، التاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

قد يُكثر الروائي من وصف الأماكن ومعالمها في روايته مع إحساس عميق بتلك الأماكن وخصوصياتها، كما فعل الإنجليزي توماس هاردي في " وسيكس"، وكما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته القاهرية، وكما فعل محمد أنقار في روايته " المصري" التي أوقفها على مدينته تطوان. ولكن ذلك لا يكفي لجعل الرواية رواية جغرافية. لا بد من أن يكون المكان هو الشخصية الروائية. وبعبارة أخرى تؤدي الأمكنة دور الشخصيات الروائية في الرواية الجغرافية. وفي هذا يقول خيري شلبي في روايته " بطن البقرة":

" العصر كالمشاعل، والرجال هم زيتها الباعث الضوء فيها؛ وهم أيضاً نتاج الأمكنة بقدر ما يؤثِّرون في الأمكنة. والأمكنة كالبشر تخضع للميلاد والموت كما تخضع لعوامل التألق وعوامل الاضمحلال حسبما ينطوي عليه باطنها من مواهب وإمكانات." (8) ( يا سلام على الفكر السامق المتبختر ببردة أسلوبية ملوكية!)

إن الذين حاولوا كتابة الرواية الجغرافية، إنما صدروا عن اعتقاد راسخ بأن الجغرافية هي حجر الأساس لجميع المجالات الإنسانية والمعرفية الأخرى؛ فلا تاريخ بلا جغرافية، ولا اقتصاد بلا جغرافية، ولا سياسة بلا جغرافية. فالجغرافية منطلق كلّ شيء ومنتهى كلّ شيء. ولهذا تتطلب كتابة رواية جغرافية جيدة ثقافة موسوعية شاملة توافرت لدى كاتب مبدع متعدد الاهتمامات.

وإذا كانت غاية الرواية التاريخية، مثلاً، إثارة الوعي والاعتزاز بماضي الأمة وتاريخها المجيد، فإن غاية الرواية الجغرافية هي إثارة الوعي بالمكان وأمجاده وضرورة الاهتمام والاحتفاء والعناية به، من خلال تبيان جمال معالمه، وضخامة الأحداث التاريخية التي كان مهداً لها، وروعة الحضارة التي أنجبها.

وخلاصة القول، إن (الرواية الجغرافية) هي نوع من جنس الرواية يكون فيه المكان الواقعي بمثابة الشخصية المركزية، فتُوصَف معالم ذلك المكان وتسرد سيرته عبر فترة زمنية محددة.

وينبغي التنبيه هنا إلى أن (الرواية الجغرافية) هي غير (جغرافية الرواية)، وهو مصطلح استعمله الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس وجعله عنواناً لكتاب له يضم بعض مقالاته ومحاضراته التي تتناول معالم الرواية المكتوبة بالإسبانية وتضاريسها، ومواقع الروائيين عليها (9)

خيري شلبي والرواية الجغرافية في " بطن البقرة":
قبل كل شيء، ينبغي أن نعلم أن خيري شلبي تعمّد كتابة رواية جغرافية عن كامل وعي وإدراك وسبق إصرار، وأنه كان على معرفة تامة بشروط الرواية الجغرافية ومقوماتها وغاياتها وتقنياتها، بل لا شك في أنه كان يشعر أنه مُقدم على تأسيس نوع جديد من الرواية يكون هو رائده. ويتضح لنا ذلك من (عتبات النص). وتعني عتبات النص، في المدارس النقدية الحديثة، ما يسبق النص من عنوان وعنوان فرعي وصورة غلاف وإهداء ومقدمة وكل ما يراه ويقرأه المتلقّي قبل دخول عالم النصّ الأدبي مما يلقي ضوءاً على النصّ ويوجّه عملية التلقيّ وجهة معينة، أو يثير توقّعات معينة لدى القارئ، أو يزيد من توهّج القراءة ومتعتها.

وتتجسد (عتبات النص) في " بطن البقرة " في ثلاث هي: العنوان الفرعي، والإهداء، والمقدمة؛ وإليك بيانها:

أولاً، العنوان الفرعي : بطن البقرة: جغرواية

من أول صفحة من الكتاب، بل من العنوان، يعلن المؤلِّف بأن هذا الكتاب هو رواية جغرافية. وهذا الإعلان يشكّل جزءاً أساسياً من ( ميثاق القراءة )، كما يسميه النقد الحديث. وكان الناقد الفرنسي المعاصر جيرار جينيت أول من تحدّث بالتفصيل عن ذلك في كتابه " عتبات"(10). فالمؤلِّف يتعهّد في هذا الميثاق من خلال العنوان الفرعي بأنّه سيقدّم للقارئ مسرحية هزلية، مثلاً، والقارئ يقتني الكتاب ويشرع في قراءته على هذا الأساس. فإذا تبين للقارئ بعد بضعة سطور أو صفحات أن الكتاب هو في الكيمياء، مثلاً، نقول إن الكاتب أخلّ بالتزاماته وخرق (ميثاق القراءة). ويكون مَثَلُ الكاتب في ذلك مَثَلَ صاحب المطعم الذي يكتب في اللافتة التي تحمل اسم مطعمه عبارة " متخصص في الأسماك"، وعندما تدخل المطعم وتستقر في منضدتك، يأتيك النادل ليقول لك: لدينا أرانب مشوية فقط.

خيري شلبي مهني متمرّس، يعرف ما لديه ويُفصِح لزبائنه مسبقاً عن نوع الطعام المعرفي الذي يقدّمه لهم. ولهذا فقد حدّد نوعه بدقة في العنوان الفرعي لـ " بطن البقرة" : رواية جغرافية. ونظراً لأنّه كان يدرك بأنه يبدع هذا النوع الروائي لأول مرّة في الأدب العالمي، فقد ارتأى أن يولّد له كذلك اسماً جديداً باللغة العربية. فقام بنحت كلمة مُحدَثة هي (جغرواية) ولم يستعمل المصطلح (رواية جغرافية). ومما شجّعه على ذلك أن التعبير عن المفهوم بلفظ واحد أفضل من التعبير عنه بلفظين أو أكثر، طبقاً لمبدأ (الاقتصاد في اللغة). ومما شجعه كذلك على نحت هذا الاسم أن الحرف (ر) قاسم مشترك بين لفظي (جغرافية) و (رواية). وقد توافرت في الاسم الذي نحته خيري شلبي جميع المواصفات الجيدة التي اشترطها اللغوي العربي المصري المرحوم الدكتور إبراهيم أنيس في تقريره الذي قدّمه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة حول النحت (11).

نحن ـ بصفتنا اللسانية ـ لا نعترض على اسم (جغرواية)، لأن اللغوي كالصحفي (والأستاذ خيري شلبي مارس الصحافة وتألّق في عالمها). فالصحفي ينقل الخبر ولا يخلق الحدث. واللغوي يسجل الاستعمال ولا يخترعه ولا يحكم عليه. بيد أنني أود أن أذكّر بأن أبحاث علم المصطلح الحديث أشارت بوضوح إلى أن الذائقة العربية لا تميل إلى النحت، ولهذا فهو نادر باللغة العربية، لأنها لغة اشتقاقية وليست لغة لصقية. ولهذا فإن ما شاع من الألفاظ المنحوتة في العربية معدود محدود، مثل (زمكان) و (قروسطي) وما كثر منه مثل: لاسلكي، ولاإرادي ، فهو من التركيب وليس من النحت. وهذا الموضوع لا مكان له هنا ومن يرد الاستزادة منه يمكنه أن يرجع إلى كتابنا " علم المصطلح" (12).

ثانياً، الإهداء:

يريد خيري شلبي في الإهداء أن يبعث برسالة إلى القارئ مفادها أن هذا النوع الروائي الذي ابتكره، جغراوية، هو شجرة مصرية عربية خالصة، غرس بذرتها على ضفاف النيل الخالد، مؤرخٌ عبقريٌّ مصري اسمه أحمد بن علي المقريزي (769؟ ـ 845 هـ /1367 ـ 1441م)، وعندما أينعت أغصانها، رقّدها كاتب مصري ذكيّ اسمه خيري شلبي عكاشة، وهو اليوم يهدي ثمارها شهيّة في هذه الرواية لقارئه الكريم. لنقرأ الإهداء كما كتبه المؤلِّف نفسه، لا طبقاً إلى لتأويلنا. يقول المؤلِّف:
" إهداء
إلى ابن عمي المرحوم الشيخ علي محمد عكاشة..
قلّبتُ في مكتبته وأنا طفل في سنوات الدراسة الأولى، فوقع في يدي المجلد الأول من خطط المقريزي، ففتنتُ به، كان بلا غلاف، وبلا عنوان، فأعطيته عنواناً من عندي استقيته من موضوعه: تاريخ البيوت والشوارع، وأظن أن تلقائية الشعور في ذلك العنوان لا تزال تحكم نظرتي لهذا العلم الفريد: علم الخطط، أي تاريخ المكان.
خ.ش.14 ياقوت"(13)

والمقريزي هذا أصله من بعلبك وولد وعاش وتوفي في القاهرة، وكان مولعاً بالمعرفة فقد بلغ عدد شيوخه 600 شخص، وأكثرَ من التأليف حتى تجاوزت مؤلّفاته 200 مجلَّد. ويعود الفضل إليه في ابتكار منهجية جديدة في التأليف التاريخي تُسمى بـ (الخطط)، فقد كان المؤرِّخون العرب قبله ينطلقون في كتبهم من السنة الهجرية ثم يذكرون تحتها ما وقع من أحداث وأمور. أما هو فكان مولعاً بتاريخ مدينة القاهرة لا غير وأراد أن يخصّ تاريخها بكتاب مستقل. ولهذا فقد جعل المكان لا الزمان هو نقطة الانطلاق في كتابه " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" المعروف بالخطط المقريزية أو خطط المقريزي. فعدّد في كتابه هذا أحياء القاهرة حيّاً حياً، وذكر حارات كلّ حي، وما فيها من معالم كالساحات والطرقات والشوارع والقصور والمساجد والمقابر، ويأتي على ذكر ظروف تأسيس كل مكان والأحداث الذي وقعت فيه، وكذلك وضعه الحاضر. فالمقريزي يصرّح بطريقته تلك حين يقول عن كتابه:

" يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار... ويشتمل على ذكر ما أدركتُ عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال..." (14)

وهذا بالضبط ما يشتمل عليه كتاب "بطن البقرة"، مع فارق واحد هو أنه رواية وليس كتاباً في التاريخ والخطط، كما هو الحال في كتاب المقريزي. وسنبيّن الفرق بعد قليل.

ثالثاً، المقدّمة: " فزلكة "
مقدمة رواية "بطن البقرة" تحمل اسم ( فزلكة). وآمل أنه وقع خطأ مطبعي في هذه الكلمة فاستعملت الزاي بدلاً من الذال، وأن المؤلِّف الفاضل لم يستعمل اللهجة العاميّة المصرية في هذه الكلمة. فكلمة ( فذلكة )، المشتقَّة من الفعل (فَذْلَكَ) هي كلمة عربية فصيحة تعني " مجمل ما فُصِّل وخلاصته "، وقد ذكرها " المعجم الوسيط"(15) ومعجمنا " المعجم العربي الأساسي"(16).

ما هي وظيفة المقدّمة في أيّ كتاب كان؟
يخبرنا المقريزي في مقدمة كتابه "الخطط المقريزية" أنّ وظيفة المقدمة هي تبيان الرؤوس الثمانية (الأمور الرئيسة الثمانية)، وهي: 1)العنوان، 2) المؤلِّف، 3) عدد الأجزاء والمحتويات، 4) الدافع، 5) الغرض والمنفعة، 6) من أي صناعة هو (أي المجال المعرفي للكتاب)، 7) المرتبة (أي: المستوى المطلوب توافره في القارئ ليستفيد من الكتاب)، 8) أيُّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه؟ (أي: مصادر الكتاب).

ولعمري، هذه هي المعلومات التي تشتمل عليها مقدمات أطروحات الدكتوراه في أرقى الجامعات الأمريكية، ومقدمات الكتب العلمية الجيدة. وهذا ما اشتملت عليه مقدمة كتاب " بطن البقرة ". ونتناولها هنا بالترتيب:

1) عنوان "بطن البقرة" :

تشرح لنا مقدمة خيري شلبي معنى عنوان الرواية " بطن البقرة"، إذ يرد فيها:

" وقد وجدتُ أن " بطن البقرة " هو العنوان الأمثل لهذا العمل الخططي الروائي، فلقد سُميّت به منطقة وسط القاهرة في العصور الوسطى..."

2) المؤلّف:
ذُكر اسم المؤلّف في آخر المقدمة.

3) محتويات الكتاب وأجزاؤه:

ويخبرنا المؤلِّف في مقدمته أن هذا العمل يتناول قصة ثلاثة أحياء عريقة جداً هي: حي قايتباي، وحي الباطلية، وحي الأزبكية، ولهذا فإن الرواية تقع في ثلاثة فصول يختص كل واحد منها بحيٍّ من هذه الأحياء. كما يخبرنا أن رواية "بطن البقرة " تشكّل الأولى في رواية ثلاثية، ستتناول حلقتاها القادمتان الأحياء العريقة الأخرى من القاهرة كالفسطاط والقطائع والعسكر والجمالية والعطوف والموسكي والعباسية ومصر العتيقة.

4) الدافع:
ويفصح المؤلِّف في مقدمته عن دافعه. فدافعه هو افتتانه بمدينة القاهرة غرامه وهيامه بها. فالحبّ هو الدافع للإبداع، وهذا ما حاولنا شرحه في كتاب كامل (17)

وفي حقيقة الأمر، إن كلّ مَن يرى القاهرة يقع في غرامها ويفتن ويتولّه بها. فالقاهرة مدينة عجيبة فريدة، لا يوجد في مدن الدنيا كلّها نظير لها. فهي فريدة بنيلها الخالد وأهراماتها الشامخة، عجيبة بتاريخها الغابر ونبضها الحاضر. وجمال القاهرة لا يضاهيه جمال، وروعتها لا تضارعها روعة، ففي قلب القاهرة تتعانق الطرز المعمارية المنتمية إلى حقب تاريخية متعاقبة، فتبدو القاهرة مثل فتاة بديعة الخلقة خرافية الحُسن، جمعت في وجهها وقدّها كلّ مفاتن النساء وملاحتهن. ولا يقتصر هذا التمازج على العمارة فحسب، بل يستغرق الناس كذلك؛ فالقاهرة هي الوحيدة بين مدن العالم في كون كثير من سكانها يقيمون بين الأموات وينجبون أطفالهم على سطوح المقابر وتحت المقابر وبين المقابر، فيختلط الموت بالحياة، وتتداخل الحركة مع العدم، فيتحوّل بعض الأحياء أمواتاً، ويُبعث كثير من الأموات إلى الحياة، يدبّون بين الناس بأساطيرهم المذهلة وكراماتهم الخارقة وحكاياتهم وعلاقاتهم وتفاصيل أعمالهم. كما أن كثيراً من سكان القاهرة يعيشون على سطوح العمارات الشاهقة فيتصلون بالماء والهواء والضياء والسماء مباشرة دون وسيط ويستقبلون الوحي بأقصر طريق، فيلتقي في مخيلتهم الأرض والسماء، والواقع والخيال، والممكن والمستحيل. ولهذا فالمدينة باعثة على التأمل، ملهمة للفكر والإبداع..

5) غرض الرواية:

أمّا غرض المؤلّف من رواية "بطن البقرة" فهو إبراز جماليات المكان والتنبيه إلى الإهمال الذي يعانيه وضرورة العناية بآثار القاهرة القديمة وصيانتها. ونجده يثير هذا الأمر في ثنايا الرواية عدة مرات بصورة تخرج أحيانا عن إطار الجغرافية وإطار الرواية وتدخل في إطار مقالة صحفية في النقد السياسي. فيقول مثلاً عن تكية ملحقة بمسجد بالقرب من ميدان قايتباي ما نصه:

" وهي دار حافلة بالغرف والحجرات ومن طابقين؛ للغرف شرفات ومشربيات علاها الصدأ وتخلّعت مفاصلها وتآكلت وحداتها الزخرفية، أُعدت هذه التكية لاستقبال الغرباء والوافدين على المدينة وليس في مكنتهم النزول في الفنادق والخانات والوكالات، واستقبال الفقراء المعوزين ممن ليس في استطاعتهم تأجير مسكن، لهم جميعاً أن يبيتوا في هذه التكية لأي وقت يشاءون، آكلين شاربين على نفقة السلطان الذي أوقف لحسابها أوقافاً تدرّ دخلاً يُنفق عليها، هي الآن محتلة من ناس لا أحد يعرف كيف احتلوا هذا الأثر البديع، ليعيثوا فيه فساداً، دون رقيب أو حسيب. حقاً إن الآثار في مصر الآن لا صاحب لها، والسبب الذي لا ينتبه إليه أحد، هم رحال الأحياء من الحزب الحاكم، الذين يرشّحون أنفسهم في انتخابات مجلس الشعب، إذ ما أسهل على الواحد منهم أن يعطي تصريحاً لأي فئة ضالة، كي تحتل أثراً كهذا وتقيم فيه بصفة نهائية، لدرجة أن واحداً من هؤلاء يحتل سبيلاً أثرياً خطير الشأن أمام مسجد الحسن وقد أجرى فيه عمليات تعديل وتشويه ليحوله إلى معرض للحلوى!! “ (18)

6) المجال المعرفي للكتاب:

أما المجال المعرفي الذي ينتمي إليه كتاب " بطن البقرة " فيذكره المؤلِّف في المقدِّمة أكثر من مرة؛ فهو جغراوية أو رواية جغرافية. ونظراً لأن هذا الشكل الفني مستحدث في الرواية فإن المؤلّف يشرحه بصورة أبسط وأوضح من الشرح الذي قدمنّاه في مقالنا هذا فيقول:

" وهذا العمل الذي بين أيدينا، هو مزيج من الجغرافيا والرواية، إنّه رواية للجغرافيا، رواية مكان بعينه..." (19)

وفي هذه المقدمة لا يكتفي خيري شلبي بتحديد المجال المعرفي لكتابه بأنه " جغرواية" وتعريف هذا النوع الجديد فحسب، بل يشرح لنا كيف استطاع أن يكتب رواية جغرافية، فيقول:

" إن عبقرية المكان في مصر تفرض على الكاتب أن يكون محدداً تحديداً قاطعاً في ذكر المعلومات والحقائق الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، ولكن جماليات هذا المكان ـ الوجه الآخر لعبقريته ـ وحيويته الدافقة وأسطورية تاريخه الحافل المتخم بجلل الأحداث ـ قديمة ومعاصرة ـ كلّ ذلك يفرض على الكاتب أن يكون روائياً بالضرورة، لما في هذا التاريخ وهذه الجغرافية من طابع روائي صرف." (20)

وبعبارة أخرى، إن الرواية الجغرافية تجمع بين موضوعية الجغرافية وجمالية الأدب. وهذا صحيح طبعاً. ولما كان هذا المقال مخصصاً للتعريف بهذا النوع الروائي المستحدث، فإننا نود أن نضيف إلى هذا التصريح الرئيس ملاحظة ثانوية تتعلق بالفرق بين الوثيقة الجغرافية والرواية الجغرافية. يتصف أسلوب الوثيقة الجغرافية بالموضوعية والتعبير العلمي، كما ذكرنا، أما الرواية الجغرافية، فهي تحافظ على تلك الموضوعة ولكن تتولى صياغتها بشكل أدبي يستخدم تقنيات سردية يجيدها الروائي ولا يستخدمها الجغرافي. وليسمح لي القارئ أن أوضّح ذلك بمثال من "بطن البقرة". لنفرض أن وثيقة جغرافية نصت على أن " الجامع المسمى حالياً بجامع أولاد عنان هو في الأصل جامع المقس". فهذه الحقيقة الموضوعية تمت صياغتها بأسلوب موضوعي مباشر. ولو رجعنا إلى "بطن البقرة"، لوجدنا أن المؤلِّف يستخدم تقنية سردية هي تقنية (الحوار) ليسوق لنا تلك الحقيقة. جاء في الرواية:

" قالت الخطط التوفيقية:
 هذا هو جامع المقس أو الجامع المقسي كما يسميه العامة في زماننا.
قلتُ في استغراب ودهشة :
 ولكن الجامع اسمه جامع أولاد عنان، طول عمرنا نعرفه بهذا الاسم من قديم الأزل.
قالت الخطط التوفيقية:
 نعم، هو يسمى الآن بجامع عنان، ولذلك قصة يمكن أن أرويها لكم.
قلتُ للخط التوفيقية:
 ومع ذلك فإن دليلي الأستاذ محمد سيد كيلاني يقول إنه في الأصل جامع أزبك.
قالت الخطط التوفيقية:
 جامع أزبك هدم مع قصوره الزاهرة، وسيأتي بيان ذلك بعد قليل، ولكن إليك الآن قصة تحول جامع المقس إلى جامع أولاد عنا،
قلتُ:
 هاتِ..."(21)

وهكذا نرى أن الأسلوب الأدبي في الرواية الجغرافية، بالإضافة إلى جماليته، فإنه يستخدم تقنيات سردية متنوعة من أجل الإثارة والتشويق، وهذا ما لا تفعله الوثيقة الجغرافية ذات الأسلوب الموضوعي المباشر المتجرّد عن الذاتية.

7) مصادر رواية "بطن البقرة" :

أما مصادر خيري شلبي في روايته هذه فهي مطابقة تماماً لمصادر المقريزي في خططه. فمصادر المقريزي ثلاثة، إذ يقول:

" فإني سلكتُ فيه ثلاثة أنحاء، وهي: النقل من الكتب المصنَّفة في العلوم، والرواية عمّن أدركتُ من مشيخة العِلم وجلّة الناس، والمشاهدة لما عاينتُه ورأيتُه."(22)

وأنواع مصادر خيري شلبي هي ذات الأنواع: ما قرأهُ في كتب التاريخ والجغرافية، مثل كتاب " الخطط المقريزية " ذاته، وما سمعه من الناس، وما شاهده بعينه. ويضيف خيري شلبي مصدراً هاماً من النوع الأول، وهو برنامجه الإذاعي عن تاريخ أرض مصر المحروسة الذي كان أساس روايته التاريخية " رحلات الطرشجي الحلوجي" (23)

وينبغي ملاحظة أن الرواية العامة الخيالية لا تحتاج إلى مصادر، أما الرواية الجغرافية فلا بد لها، كأي دراسة موضوعية، من مصادر ومراجع ومشاهدات ميدانية.

8) رتبة القارئ":

وأخيراً، نتناول رتبة (مستوى) القارئ الذي يمكن أن يستفيد من هذا العمل. ومقدمة خيري شلبي تشير بصورة غير مباشرة إلى أن " بطن البقرة " الجغرواية موجّهة إلى "القارئ المصري واسع الأفق [الذي] يستوعب كافة الأشكال الفنية المستحدثة مهما كانت معقّدة أو مركبة."(24)
وأود أن أضيف أن أسلوب خيري شلبي في رواية "بطن البقرة"، كما هو في بقية أعماله، أسلوب مشرق شعري سهل ممتنع، سلس يتدفق هادئاً جذاباً آسراً مثل ماء نهر النيل حينما يعانق القاهرة وقت الأصيل. ويستطيع القارئ العام وجميع محبّي القاهرة، مصريين وغير مصريين، أن يبحروا فيه بأمان وسلامة، ويصلوا شواطئه محمّلين بفرائد المعرفة والفِكْر، ومذاق متعة يبقى على الشفاه وفي الأفئدة مدى العمر.

الهوامش:

(1) www.en.wikipedia.org/wiki/Historical_novel

(2) جوليان سيمونز، القصة البوليسية، ترجمة علي القاسمي (بغداد: الموسوعة الصغيرة، 1984)

(3) www. Jv.gilead.org.il/ithompson.html

(4) www.clefargent.free.fr/jvlhelt.php

(5) www.en.wikipedia.org/wiki/Frederic_Prokosch

(6) علي القاسمي، معجم الاستشهادات ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2001) مادة : التاريخ.

(7) عبد الوهاب البياتي، ديوان عبد الوهاب البياتي (بيروت: دار العودة، ط4، 1990)

(8) خيري شلبي، بطن البقرة (القاهرة: دار ميريت للنشر، 2006) ص 183.

(11) إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة (القاهرة: مكتبة الأنجلوالمصرية، ط 5، 1975) ص 86 ـ 94.

(12) علي القاسمي، علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، يصدر أواخر 2007).

(13) بطن البقرة، ص 5

(14) أحمد بن علي المقريزي، كتاب الخطط المقريزية (بيروت: مكتبة إحياء العلوم، ب ت) ج1 ص 6.

(15) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط (القاهرة: مجمع اللغة العربية، ط2، 1975) ج 2 ص 678

(16) علي القاسمي (المنسِّق) وآخرون. المعجم العربي الأساسي (باريس: الألكسو/لاروس، 1989) ص 922.

(17) علي القاسمي، الحب والإبداع والجنون: دراسات في طبيعة الكتابة الأدبية (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2006)

(18) بطن البقرة، ص 48

(19) بطن البقرة، ص 9.

(20) بطن البقرة، ص 8 ـ 9.

(21) بطن البقرة، ص 188.

(22) الخطط المقريزية، ص 6.

(23) خيري شلبي، رحلات الطرشجي الحلوجي (القاهرة:)

(24) بطن البقرة، ص 8.


مشاركة منتدى

  • مقال تحليلي غاية في الإتقان والإبداع وبرغم أني كنت اتجول في النت باحثا عن نص الرواية الذي أتوق بشدة لقراءته فقد توقفت مع مقالكم هذا ليزداد به شغفي للحصول عليها وقراءتها
    إن هذا النوع من التحليل والعرض صار من الأمور النادرة الثمينة التي لا يصادفها أي مهتم بالأدب يومنا هذا
    لك بالغ الشكر والتقدير والتحية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى