السبت ١٢ أيار (مايو) ٢٠٠٧

"ذاكرة" سلمان ناطور، تعلن حضورنا في الفعل

قبل أربعين عاماً تقريباً حدث أستاذُنا الشيخ غسان كنفاني عن سعيد س بطل روايته "عائد إلى حيفا" قال: صباح الأربعاء 12 نيسان عام 1948. كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض. وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت القذائف تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية".

واليوم صباحاً، حدث الشيخ مشققُ الوجه الأستاذ سلمان ناطور قال: "كانت مدافعهم تقصف المدينة من عمارة البرج، هرب اليهود لمنطقة الهدار، وظل العرب تحت القصف المركز، وصرير المدافع. سمعوا نداءات تقول لهم: إبقوا في بيوتكم ولا تغادروا الوطن".

هل اتفق هذان الراويان على استعمال لعبة لغوية دائرية تعتمد استدارة النص تجاه نفسه مدة أربعين عاماً؟ أم أن كلاًّ منهما احتفظ دونما اتفاق بفضاء تلك الذاكرة التي اتخذت لها مكاناً في زاوية القلب والروح لا يفنى؟
بين سعيد س بطل غسان كنفاني والرجل مشقق الوجه بطل سلمان ناطور تبدو حيفا صورةً لسحر الذاكرة وسحر المكان الذي يجعلنا نستعيد الزمان بيسر أياً كانت المسافة. فما الذي تفعله بنا الذاكرة؟ ولماذا تثير فينا كل هذا الشجن؟ تحدق في عمق قلوبنا و تلبسُنا تفاصيل الماضي فتوشم القلب بمرارة وعلقم، فمن يأخذنا منها؟ ومن يأخذنا عنها؟!

في كتابه "ذاكرة"، يتتبع سلمان ناطور خطوط التجاعيد في وجه شيخه ويتتبع الحلقات في جذوع زيتون الجليل، راسماً خطوط القرى والمدن والشوارع والأزقة والبيوت والحقول والبيادر والوجوه والأسماء والأصوات في ذاكرة حيّة تروي تفاصيل الإنسان الفلسطيني في المكان. وهو ‏يستنهض حِِقباً مختلفة من تاريخنا ويتوخى رصداً جغرافياً وتاريخياً حقيقياً للمكان متخذاً الطابع التسجيلي الدقيق والملتزم أحياناً، والطابع الشعري الشاعري في ذكر الواقعة والقصة أحياناً أخرى.

في هذا الإصدار، تتشكل الذاكرةُ فلسطينيةً جمعيةً تروي سيرة جيل بكامله. والذاكرة الجمعية أقرب إلى أن تكون ذاكرة أسطورية. فهي لا تستعيد الوقائع على نحو ما تفعل ذاكرة المؤرخ، بل هي ذاكرة تستعيد الأحداث بشكل رمزي، بمنطق المخيلة والحلم، وتتحول من كونها عملية استرجاع، إلى فضاء واسع متعدد الدلالات، وتكون شكلاً من أشكال اللقاء بين الزمن الماضي والزمن المعيش، واستبصاراً للزمن الآتي.
يقول سلمان ناطور في كتابه: "ألوم الذاكرة لأنها تخونني، وألومها لأنها ترفض أن تخونني ولا أعرف كيف أتعامل معها، هل بكثير من الحب أم بحقد أعمى؟" ربما يجب أن نتعامل معها بكثير من الحب، فذاكرة الفلسطيني تظل وحدها مصدراً للبوح والسرد والتأريخ، ومع مرور الزمن يتخذ الحزن زاوية في القلب ويعمل بدل ذلك الفعل. وسلمان ناطور في كتابه يعلن حضورنا في الفعل، في الفعل الماضي والحاضر والمستقبل، ويرسم وجودنا وجوداً سرمدياً مسطراً بأحرف من نار ونور.

ألقيت في حفل توقيع الكتاب في مسرح الميدان بحيفا في 30 نيسان 2007.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى