السبت ١٢ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

المثقف والوطن والمنافي

عُقدت في الدوحة في الفترة من الخامس والعشرين إلى الثامن والعشرين من شهر أبريل ندوة هامة على هامش مهرجان الدوحة الثقافي السادس تحت عنوان "الأدب والمنفي". ولقد جاءت مناقشات الندوة في صورة عرض ومناقشات للسير الذاتية لمجموعة من النقاد والأدباء العرب الكبار المرتبطين في أغلبهم بالعيش بين ربوع المنافي الغربية. ولقد تفاوت مستوى الإحساس بالنفى من كاتب لآخر ومن مفكر لآخر، فالبعض تحدث عن النفي الفيزيقي المكاني، والبعض تحدث عن النفى النفسي الإنساني، والبعض تحدث عن النفي الثقافي. ورغم تعدد هذه الأشكال من النفى، فإنها قد عبرت عن حالة مأساوية تلاحق هؤلاء المغتربين المنفيين المنسلخين عن أوطانهم.

ورغم وطأة هذه الشهادات النابعة من صفوة النقاد والمبدعين العرب، فقد أثارت العديد من الشجون حول المنافي التي تخلقها الأوطان ذاتها لنا ونحياها بين ربوعها. فإذا كانت شهادات هؤلاء الكتاب والمبدعين تختص بالمنافي الخارجية، فماذا عن المنافي الداخلية؟ ماذا عن تلك المنافي التي ترتبط بربوع الوطن؟ ماذا عن المنافي التي يخلقها الآخرون لنا، ويجبروننا على التقيد بها، والعيش بين قيودها؟ وماذا أخيراً عن تلك المنافي التي نخلقها نحن لأنفسنا، إما توحداً مع منافي الوطن ذاتها، وإما رغبة في الإنسلاخ عنها، وخلق منافي ذاتية أخرى، من صنع أيدينا، وصنع عوالمنا الجديدة؟

لقد ارتبطت المنافي عادة بالترحال المكاني، بالخروج، لمناطق أخرى نعيش فيها، أو نتعايش معها، لكن تم إهمال أو التغاضي عن منافي الوطن الداخلية، ومنافي الذات المنعزلة. فالعيش بين ربوع الوطن ذاته قد يخلق أيضاً منافيه الخاصة به، وكلما زادت منافي الوطن، زادت عزلة الأفراد وزادت ضغوط المكان والجغرافيا الواقعة عليهم.

يخلق المكان الوطن منافيه حينما يحيل رحابته إلى بؤر ضغط على مواطنيه، وكما قال أدونيس "لا الخارج يكفيني والداخل ضيق على." هنا يجد المثقف نفسه بين سندان منفى الخارج غير الكافي بالنسبة له ولإشباعاته النفسية والمجتمعية والتمردية، ليس من حيث فعل الكتابة ذاته، وفعل الممارسة، ولكن من حيث فعل الإحتياج للإرتباط بالمكان الأصلي، المكان الوطن، المكان الإنتماء، المكان الهوية. كما يجد نفسه بين مطرقة الداخل المقيدة لإنطلاقات أفكاره وأنماط كتاباته ورغباته.

وتنشأ المفارقة هنا من كون المثقف يحاول أن يخلق وطنه في منفاه، أو يحاول أن ينسج مشروعاته الفكرية المختلفة على منوال الوطن، بينما وهو يحيا بين ربوع الوطن يحاول أن ينسج وطناً آخر مغايراً لطبيعة وحدود ذلك الوطن. في الحالة الأولى تلعب الذاكرة دوراً كبيرا في فعل النسج والصياغة، بينما في الحالة الثانية يصبح الهروب من وطأة تلك الذاكرة هو الحل والمأزق في الوقت نفسه. وبينما يقاسي المثقف في الحالة الأولى وطأة الغربة وضياع الوطن الملموس وتشظي الذاكرة، يقاسي في الحالة الثانية من وطأة الحضور المهيمن للوطن والجماعة والسلطة. وكما ينشأ المنفي الخارجي لحظة الإنسلاخ الجغرافي عن الوطن الحقيقي، ينشأ المنفي الداخلي، لحظة اصطدام المثقف بالوطن ذاته، أو بلحظة اصطدامه بالوطن الذي لا يريده ولا يقبله ولا يعترف به، ذلك الوطن التفصيل الذي يصنعه له الآخرون، كائناً ما كانت طبيعتهم وقدراتهم ومواقعهم. علينا هنا أن نضع في الإعتبار أن المنافي الداخلية هى إحدى أهم الآليات التي تؤدي إلى إنتاج المنافي الخارجية وزيادتها وانتشارها.

يعيش المثقف بين ربوع الوطن، يخلق مشروعاته، وأحلامه، وعوالمه، ليكتشف يوماً بعد يوم ضآلة ما تحقق، ويكتشف غربته المتزايدة، وإنسلاخه عن المحيط الاجتماعي والثقافي. واللافت للنظر أنه كلما شارك في المحيط الاجتماعي والثقافي، وكلما أصبح أكثر تغلغلاً ونشاطاً، كلما زادت عوالمه وطموحاته وأحلامه المقموعة، وزادت معها إحباطاته وعزلته وهروبه.

إن العلاقة بالوطن تظل واحدة من أكثر العلاقات الشائكة بالنسبة للمثقف العربي المعاصر. فمن ناحية، يشعر هذا المثقف أن لديه الحق في المشاركة والمساهمة والتغيير، كمايشعر بأن لديه الحق في صياغة وإعادة بناء الوطن كما يراه، وكما ترتضيه طموحاته ومشاريعه الآنية والمستقبلية. فمن غيره، كممثل للطليعة النخبوية الواعية، يمتلك هذا الحق، في مساراته الفكرية والتنويرية والتغييرية. ومن ناحية أخرى، يشعر أنه مجرد تابع لسياقات اجتماعية وتنظيمية وسياسية كثيرة تؤطر له مشاريعه، وتحدد له توجهاته، وتخصص له مساحة محددة من الحركة والنشاط، مساحة محددة من الوطن، مساحة ضيقة على حد قول أدونيس.

تنشأ المنافي داخل الأوطان، حينما يضيق الحيز المسموح به للمثقف، فتستحيل رحابة المكان إلى ضيق مقصود ومتعمد، هدفه النهائي سلخ المثقف عن عوالمه الجغرافية من جانب، وعن ذاته ومحيطه الاجتماعي من جانب آخر. وبسبب من ضيق المكان، وعدم رحابته، وبسبب من تلك الوطأة التي يستشعرها المثقف، يساهم هو الآخر في خلق المنافي الخاصة به.

يخلق المثقف أشكالاً وألواناً عديدة من هذه المنافي، وفي عالمنا العربي تتنوع هذه الأشكال والألوان صعوداً وهبوطاً مع درجة القيود المفروضة على المثقف، والحيز الجغرافي والفكري والثقافي المسموح به. يبدأ المثقف في التعبير عن نفسه وذاته، تغمره حماسة النخبة، يستشعر فرادته وقدرته على التعبير وصياغة المشروعات وطرح الرؤى، لكنه يكتشف أن تلك الحماسة وتلك القدرة غير مطلقة, وأن هناك أطراً عليه ألا يتعداها، وأن انتماء الجغرافيا ليس بمثل هذا الاتساع الذي تخيله. من هنا تراود ذلك المثقف أشباح وتوهمات المنفى، فلم يختار منافيه حتى الآن، فمازال في المرحلة الإنتقالية بين اتساع الرؤيا وضيق الإطار، بين حرارة الإنتماء وبرودة الإنسلاخ، بين زخم الجرأة وبلادة التفكير، بين شجاعة المواجهة وتبريرات العقلانية.

يجد المثقف أن عليه أن يحاذر وهو يكتب، فيفرض أول المنافي القامعة لحريته، وتصبح مهنته، ودوافعه، وتوجهاته، أولى مناطق النفي التي يعيشها المثقف. ففعل الكتابة يتطلب قدراً كبيراً من تجاوز منافي الأوطان، الكتابة ذاتها لا تعرف حدوداً ولا تعترف باية قيود، وحينما يبدأ المثقف ذاته بالرقابة على ما يكتب، تضيق الجغرافيا، وتتوسع المنافي. ربما لا يشعر البعض من المثقفين بضراوة تلك الحالة، بينما يستشعرها البعض الآخر، فالمسألة في النهاية رهن بنوعية المثقف الذي نتحدث عنه، ورهن بحساسيته، ورهن بوطأة المنافي الداخلية التي يضعها على نفسه، وعلى مشاريعه وعلى كتاباته.

وحينما تزداد المنافي الداخلية، يبحث المثقف عن حلول أخرى تقوده للخلاص، فوطأة المنافي لا تحتمل، وخصوصاً إذا إذا كانت من فعل الذات نفسها. هذه الحلول تقوده إلى منافي جديدة وعديدة، مثل الإستغراق في كتابات لا تعبر عن حقيقة توجهاته، أو الإنغماس في انشطة قد تشبع بعض توجهاته، لبعض الوقت، وليس لكل الوقت. إضافة إلى ذلك، تخلق تلك القيود منافي الإنعزال والإنسلاخ عن المحيط العام، وهى من أقسى أنواع المنافي الداخلية من حيث أن المثقف ذاته اجتماعي بطبعه، محب للحياة، معانق لها، متواصل معها. وخطورة هذا النوع من المنافي أنه يجمع بين الضغوط السياسية وضغوط الحرمان الثقافي. وهى مستويات مركبة من الضغوط يتلاقى فيها الرسمي مع المجتمعي مع الثقافي في ظل مجتمعات تؤثر السلامة، وتسير بجوار الحائط!!

وبسبب من هذه المنافي يفقد المثقف في أحيان كثير القدرة على الإختيار وتحديد المصير والتبني الأيديولوجي الحقيقي. وهو الأمر الذي تظهر تجلياته في تلك التحولات الفكرية والأيديولوجية العجيبة والمثيرة والمدهشة للعديد من المثقفين في العالم العربي. ويصل الحال بالبعض أن يتبنى مشروعات مهرتئة ليس من ورائها طائل ليدافع عنها، فالكثيرون ممن كانوا يدافعون بالأمس عن حتمية الصراعات الطبقية والمساواة والعدل الاجتماعي أصبحوا أكثر المدافعين اليوم عن برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي والليبرالية القديمة والجديدة والمستقبلية.

يغذي الواقع العربي المعاصر صناعة المنافي بدرجة كبيرة، ويساهم المثقفون أنفسهم في تشكيل العديد من هذه المنافي، والتوحد بها، والتلاقي معها. وفي هذا السياق المضني يواجه المثقف العربي مأزقين، الأول يتمثل في قدرته على التخلص من منافيه الذاتية، والثاني يتمثل في مقاومة المنافي المقروضة عليه سياسيات واجتماعيا وفكريا وايديولوجيا،. وهما مأزقين على قدر كبير من الصعوبة والخطورة من جيث كونهما متلازمين ومترابطين، وهنا تبرز عظم المهمات الملقاة على عاتق المثقف العربي والنخبة التي ينتمي لها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى