السبت ١٩ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

ويحبُّ ناقتَها بعيري

عادة المشي تتجدد كل عصرٍ مع تجدد المساءٍ في فصل الصيف. والمشي مع الأصحاب باتجاه زاوية السلطان والانعطاف نحو الحقول الغربية ثم العودة إلى مقاهي القرية أفضل بكثير من أن يسير الإنسان وحيدًا لا يجد في طريقه مَن يُحدّثه. أليس هذا قتل للملل؟! أجل. وقضاءٌ للوقت؟ نعم.. وملءٌ للفراغ؟ بالطبع . والفراغ الجاحد ينتاب الشباب جميعًا في هذا الجيل بالذات.. جيل الثامنة عشرة. الجيل الذي تخرّج منذ شهرٍ تقريبًا. ولا يجد عملا يشغله. حرارة تموز مرتفعةٌ ولا تطاق. و"هادي عبد الجواد" لا يطيق أن يسمع أن "غادة" ستعيش مع رجلٍ غيره. فهي منذ أن رآها لا تغيب عن مخيلته أبدًا، وهي حاضرة في البال في كل مكان وكل زمان. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ أمر عجيب! فتاة في الخامسة عشرة ربيعًا تُزفُّ إلى رجلٍ في السادسة والعشرين! أي عقلٍ هذا! حتى لو كان والده غنيًا ولكن هذا ظلم! هذا ظلمٌ. وتذكر قول صديقه "مجدي": " إن بيت الشعر الذي تَتغنى به سيتهدَّمُ فوق رأسك يا أفندي! هه! أُحِبُّها وَتُحِبُّني وَيُحِبُّ ناقَتَها بَعيري! لقد مات بعيرك يا قيس! شعبنا لا يعرف عواطف ولا حب ولا تضحية، ثم إن أباها لا يعرف إن كنت موجودًا في هذه الدنيا أم لا. خذها قاعدةً لك في حياتك: لا تتأسف على حليب انسكب على التراب. أُنظر إلى الأمام وفكّر في مستقبلك الجامعي! هب أنها وافقتْ وفكّت ارتباطها بخطيبها هل تستطيع الزواج منها في الوقت القريب؟ أكيد لا . ثم إنها لم ترسل لك جوابًا واحدًا منذ أن بدأتَ بمراسلتها.

في ذاك المساء خرج يتمشى بصحبة "مجدي" ، وهو يأمل أن يرى ابتسامتها ، وهي تطل بوجهها من نافذة البيت كما اعتادت أن تفعل كل جمعة. لكن النافذة ظلت مغلقةً. وأحسَّ أن نوافذ الدنيا سُدّت في وجهه حين علم من أحد الأطفال أنها قد زُفّت إلى زوجها قبل يومين. النار أخذت تشتعل في بدنه ، تحرق أطرافه ، تذيب عظامه. هموم الدنيا تراكمت فوق رأسه . لم يعد يقوى على حمل جسده. الطعام لا يشتهيه. الحياة لا يطيقها. دُعِيَتْ جدته بعد يومين لإذابة حبة رصاص وقراءة حِرْزِها المعهود على رأسه واكتشفت أن عينًا أصابته وأنه سيشفى بإذن واحد أحد ، الفرد الصمد. وجيء بالشيخ "نافع" في اليوم الثالث لقراءة آيات الرقية وطرْدِ الجان الذي أصابه وأنهكه. ثم اكتشف أن امرأة من نفس الحارة قد فعلت فعلتها لتخرب بيت "أم أحمد". حضر "مجدي" في تلك الساعة وحضر حفل خروج الجان من صديقه المدّثّر وهو لا يكاد يتمالك نفسه ويخشى أن ينفجر أمام الحضور ضاحكًا رغم محاولته كتم أنفاسه. حين انفض القوم مال إليه وهمس في أذنه معاتبًا: لماذا كل هذا يا "هادي"؟ بسبب فتاة صغيرة ليس لك نصيب فيها؟ دعك من هذا! الفتيات تملأ الدنيا وبإمكانك أن تختار من تشاء في الوقت المناسب . جئت لأبشرك بأنني وجدت عملا لي ولك في مصنع ألواح الجبص في المنطقة الصناعية في "الخضيرة" وبراتب مقبول. في السادسة من صباح الغد سأنتظرك قرب محطة الباص لنسافر معًا إلى هناك. والآن هيا انهض لنتمشى وسأحدثك عن تفاصيل العمل في الطريق!

ومنذ أن شُفي "هادي" وعاد إلى حياته الطبيعية ، واظبت "أم أحمد" على تبخير البيت كل صباح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى