الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
دانيال بايِبْس وبقية أفراد العصابة
بقلم إبراهيم عوض

المستشرقون الجدد - قسم أول من قسمين

إلى روح المرحوم مجدى محرم

صدر هذا العام (2007م) عن الدار المصرية اللبنانية للدكتور مصطفى عبد الغنى (المحرر الأدبى بجريدة "الأهرام" المصرية) كتاب بعنوان "المستشرقون الجدد- دراسة فى مراكز الأبحاث الغربية" يقع فى نحو 150 صفحة بما فيها الملاحق الإنجليزية التى نشرها فى نهايته، واستغرقت حَوَالَىْ خمسٍ وأربعين من تلك الصفحات. وفى هذا الكتاب يتناول الدكتور عبد الغنى ما يراه ظاهرة طارئة فى عالم الاستشراق، ألا وهى تحول المستشرق التقليدى إلى خبير فى مراكز البحث التى تعتمد عليها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فى رسم سياساتها تجاه العالم العربى والإسلامى. والمقصود بـ"مركز البحث" ما تكررت إشارة المؤلف إليه باسمه فى الإنجليزية (آ ثنك تنك) "a think tank"، وهو مصطلح كان يعنى فى أوائل القرن الماضى: "الذهن"، ثم تطور معناه منذ أواسط ذلك القرن فأصبح يعنى ما يمكن أن نسميه بـ"صهاريج الفكر"، على أساس أن معنى (تَنْكْ ) هو الصهريج أو الخزان الكبير الذى نودع فيه ما نحتاج إليه من ماء أو نفط أو ما إلى ذلك. والمقصود "مؤسسات البحث"، أو "المراكز البحثية" كما ورد فى كتاب الأستاذ المؤلف حسبما نوّهنا قبل قليل، وهى مؤسسات تلجأ إليها بعض الحكومات والهيئات للاسترشاد بما يمكن أن تمدها به من أفكار وأبحاث وتحليلات وتوقعات واقتراحات فى حل ما يواجهها من مشاكل أو فى رسم ما يتعين عليها انتهاجه من سياسات وخطط فى المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الهامة، وإن كان المؤلف قد ترجم ذلك المصطلح أحيانا بـ"دبابات الفكر" لـَمْحًا منه لدور تلك المراكز المدمر بالنسبة للدول الصغيرة التى كُتِب عليها الاكتواء بنار السياسة المبنية فى ضوء ما يبديه العاملون فيها من أفكار واقتراحات مجرمة ظالمة. ومعروف أن كلمة تنك تعنى، فيما تعنيه، "الدبابة"، وإن كان الأصل فيها هو المعنى الأول. وقد يُسْتَعْمَل بدلا منه تعبير مشابه هو: آثنك فكتوري "a think factory".

وقد تعرض كاتب المادة إلى أهم المراكز البحثية فى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان وروسيا وبولندا وسويسرا والسويد والدانمارك والصين وهونج كونج وتركيا وإيران والبرازيل، ولكنه لم يتطرق إلى ذكر أى مركز عربى رغم وجود مثل تلك المراكز فى بلاد العرب بطبيعة الحال. لكن السؤال هو: هل يهتم صناع القرار السياسى والعسكرى والاقتصادى عندنا بالرجوع إلى تلك المراكز لاستطلاع آرائها والأخذ بما تقدمه من دراسات ومقترحات وحلول؟ أم هل ينظرون إليها نظرهم إلى قطعة أثاث جىء بها لمجرد الزينة والاستعراض ومجاراة الآخرين حتى لا يقال إننا متخلفون عنهم، بغض النظر عن إدراكنا لقيمتها واستفادتنا منها أو لا؟ وأغلب الظن من شواهد الحال أن الاحتمال الثانى هو الأقرب إلى الصواب، وهى ظاهرة مؤسفة، إذ معنى ذلك أن حكامنا لا يكتفون بإهمال رأى شعوبهم، بل لا يَرَوْن فى أنفسهم حاجة إلى استشارة العقول الكبيرة فى البلاد المنكوبة بهم، طبعا لاعتقادهم العميق فى أنهم مُلْهَمون يُوحَى إليهم بما ينبغى لرعاياهم من حلول وسياسات. وهذا هو السر فى أن الوزراء والمسؤولين الحكوميين فى بلادنا يقولون دائما، كلما نوَوْا أو تظاهروا بأنهم يهمون أن ينجزوا شيئا، إنهم يفعلون ذلك "بتوجيهات جلالة الملك أو سيادة الرئيس". ذلك أن حكامنا إنما خُلِقوا ليوجِّهوا شعوبهم ولا يحتاجون إلى من يستشيرونه فى شىء، إذ ما الحكمة من مثل تلك الاستشارة ما داموا يَتَلَقَّوْن الوحى من السماء مباشرة رغم أن النبى محمدا المتصل بالسماء حقا وصدقا كان حريصا على استشارة من حوله فى كل صغيرة وكبيرة؟ بل ما جدوى تلك الاستشارة إذا كان الشعب نفسه لا يهتم بشىء من ذلك، بل هو لا يقدّر أصلا هؤلاء الحكماء الذين ينبغى لحكّامه استشارتهم، لكنهم لا يفعلون، ولا يشعر لهم بأية قيمة أو فائدة؟ إن شعوبنا بوجه عام إنما تعيش فى مستوى غرائزها ولا تتطلع إلى ما هو أعلى من ذلك!

ولعله من المستحسن فى هذا السياق أن نورد ما قاله الكاتب الصحفى الأستاذ سلامة أحمد سلامة فى "أهرام" الخميس 3/ 5/ 2007م فى عموده اليومى: "من قريب" تحت عنوان "فساد البيزنس والسياسة‏"، إذ بعد أن تكلم عن تدخل رجال الأعمال بغشم وجهل فى أمور السياسة وتأثيرهم السئ فى إصدار القرارات قال: "غير أن تحالف السلطة والمال‏‏ ليس هو الوحيد‏،‏ فهناك تحالف يسانده‏‏ بين السلطة وفريق من المثقفين والبيروقراط من الخبراء وأساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث يوظفون خبراتهم في تطويع القوانين وتقديم الأفكار‏،‏ ليس لتحقيق التقدم والدفع إلى الأمام‏،‏ ولكن لتبرير وتمرير القوانين‏‏ ووضع الخطط الكفيلة بالانتقال من التدبير في الخفاء إلى العلن والمواجهة‏، ومن طور البحث والطهي في الغرف المغلقة إلى طور العرض علي اللجان البرلمانية والقنوات الرسمية والإعلامية‏. أين يقف المثقف والمفكر من هذه المعضلة؟ وهل يستطيع أن يؤدي دوره في مجتمعه‏,‏ محتفظا بصفاء عقله وضميره‏‏ واستقلاليته‏،‏ يقول رأيه ويمضي دون انتظار لمكافأة أو ثناء؟ أم يخضع رأيه وموقفه لحساب المكسب والخسارة‏‏، وما تمليه عليه ضرورات الرزق والأمان الفردي والاجتماعي‏،‏ وما يلقاه من تقدير أو ازدراء‏،‏ خصوصا في مناخ القلق الاجتماعي والسياسي الراهن؟ هذه المعضلة ظلت تؤرق مضاجع المثقفين منذ أجيال‏.‏ وفي كل مرحلة من مراحل التحول السياسي والاجتماعي تتجدد المشكلة ويعاد طرح السؤال من جديد‏.‏ وفي المرحلة الحالية ازدادت الفجوة ودخلت إلى الحلبة فئات اعتادت أن تنأي بنفسها عن السياسة مثل القضاة والأطباء وأصحاب المهن الحرة وبدرجة أكبر أساتذة الجامعات‏.‏ وأصبح من الضروري أن يقرر كل فرد لنفسه ما يختار‏:‏ هل ينضم إلى منظومة السلطة ليصبح جزءا منها يركب الموج ويتخلي عن قناعاته‏،‏ أم يترك نفسه للذوبان في تشكيلات لا يملك فيها من أمره شيئا‏، أم يحافظ علي استقلالية رأيه ويحاول التأثير والتغيير في النظام والمجتمع دون أن ينعزل عن الواقع؟".

وعلى أية حال فالمعروف أن عددا من حكام العرب والمسلمين أميون أو يكادون أن يفكوا الخط فى أحسن الأحوال، وفى كل الأحوال لا يُعْرَف عن أى منهم أنه يقرأ شيئا. وعلى أية حال أيضا فإنهم لا يُدْنون منهم فى العادة إلا من يُسْمِعونهم الكلام المعسول وينافقونهم ولا يصدّعون أدمغتهم بالحقائق المرة التى تفقأ عين كل من عنده عين! ثم إنهم ضعفاء عاجزون أو شبه عاجزين أمام القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى هذا فحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إنهم يريدون الاستفادة من تلك المراكز وما فيها من خبراء فإن تلك القوى تجبرهم على نبذ هذه النية وتئدها لهم فى ضمائرهم قبل أن ترى النور، وتأمرهم بعمل ما تريد هى فيأتمرون دون أن يتنحنحوا مجرد نحنحة! وقد ذكر الدكتور مصطفى عبد الغنى من هذه المراكز مركز الشيخ زايد فى الإمارات، ذلك المركز الذى كان تابعا للجامعة العربية وأثار منذ قريب ضجة عالمية حين اتهمته الدوائر الغربية بتشجيع الإرهاب.
ولكى يكون القارئ معى فى الصورة سأنقل له ثلاثة نصوص لا غير مما عثرت عليه وأنا بصدد إعداد هذه السطور: فأما أولها فهذا البيان الذى وجدته فى واجهة موقع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الرئبس الراحل لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهو بعنوان "زايد وحقوق الإنسان": "اختصر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كافة القوانين والدساتير المتعلقة بحقوق الإنسان وتجاوزها فعلا بقرارات حكيمة ومبادرات طيبة وضعها من خلال نظرته الثاقبة وفكره المتوقد للحفاظ على أغلى ثروة يمتلكها الوطن. كما قال سموه دائما إن الإنسان هو أغلى ثروة يمتلكها الوطن. ومنذ البداية قطعت دولة الإمارات العربية المتحدة العهد على نفسها بألا تنمية بدون تنمية الإنسان أولا، ومن هنا كان مسعاها نحو العمل بكل جهد وإخلاص من أجل كفالة حقوق الإنسان وصيانة حريته ورفاهيته وتوفير كل السبل الممكنة للنهوض بقدراته نحو الأفضل، وهيأت كل المستلزمات التي تمكن من أن يكون هذا الإنسان في مقدمة خططها الآنية والمستقبلية، وسنت لهذا الغرض العديد من القوانين الدستورية والقوانين ذات الاختصاص من أجل ذلك الهدف.

وكان الهاجس الأول لصاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله هو تنمية الإنسان، فكان دستور حمايته ورفاهيته وصيانة مكتسباته حاضرا في ذهنه منذ زمن بعيد، وقبل أن يوضع دستور مكتوب. فقد عمل وبكل تفان وإخلاص من أجل أن ينهض بهذا الشعب نحو العزة والوحدة، وكان إيمانه بالوحدة والسعي نحو تحقيقها هو الهدف الذي من أجله قاد الكفاح من أجل الإنسان لأنه أدرك منذ زمن بعيد بأن الوحدة قوة، والإنسان هو هدفها وغايتها. فالإنسان عند صاحب السمو رئيس الدولة هو أساس أي عملية حضارية حيث يقول إن الاهتمام بالإنسان ضروري لأنه محور كل تقدم حقيقي مستمر، فمهما أقمنا من مبانٍ ومنشآت ومدارس ومستشفيات، ومهما مددنا من جسور وأقمنا من زينات، فإن ذلك كله يظل كيانا ماديا لا روح فيه وغير قادر على الاستمرار. إن روح كل ذلك هو الإنسان القادر بفكره وفنه وإمكانياته على صيانة كل هذه المكتسبات والتقدم بها والنمو معها.

وأوضحت إحدى الدراسات الصادرة عن مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي من الدول التي آمنت أن أساس التنمية هو الإنسان، وبناء عليه سعت إلى كفالة حقوقه وحرياته وصاغت في سبيل ذلك العديد من القوانين الدستورية المشرعة لكل الحقوق والحريات، ودعمتها بالقوانين الوزارية، وسعت بكل ما تملك إلى وضع القوانين التي تحقق المصلحة العامة حيث سعى صاحب السمو رئيس الدولة منذ قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أن يضع لهذه البلاد دستورا يعبر عن إيمانه بهذا الشعب ويعبر كذلك عن طموحاته الهائلة من أجل هذا الشعب وتأمين حقوقه المدنية والسياسية، ولم يغفل ذهنه المتوقد أي جانب من جوانب هذه الحقوق.

وقد جاء دستور دولة الإمارات العربية المتحدة معبرا حقيقيا عن كرامة هذا الإنسان، فقد حرم التعذيب والمعاملة القاسية احتراما لكيان هذا الإنسان، ورفض الاستعباد وفرض العمل بالقوة وحق الحرية والسلامة الشخصية والإقامة والانتقال وحق المساواة أمام القضاء وفق القانون. وأنصف دستور دولة الإمارات الإنسان أيما إنصاف، فقد كفل حريته الخاصة في المنزل والمراسلات والفكر والضمير والديانة والحق في الرأي والتعبير وحق العائلة في التمتع بالحماية في المجتمع والدولة والمساواة المطلقة أمام القانون، وحظر استبعاده عن بلاده ومصادرة أمواله وحقه في الجنسية والعقوبة الشخصية وحرية المسكن.

ومن أبرز ما جاء به دستور الإمارات في صيانة حقوق الإنسان استقلال القضاء وحق المواطن في مخاطبة السلطات العامة وحق تشكيل الجمعيات واحترام الملكية وحق اللجوء السياسي، ولم يغفل الدستور حقوق الطفل والمرأة، وأكد على العنصرين الاساسيين في الأسرة، وهما المرأة والطفل، وصيانة حقوقهما، ووفر كل السبل من أجل رعايتهما من مستشفيات ومدارس ورياض أطفال ومراكز رعاية الأسرة، وكفل حقوقهما في القانون الدستوري للدولة احتراما لمكانتهما في المجتمع وحب القائد لهما. وشملت أكثر من 23 مادة في الدستور الحريات الشخصية للإنسان، فضلا عن الحريات الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واعتبر الدستور أن المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين والمواطنات من دعامات المجتمع الأساسية. كما نص الدستور على أن الاسرة هي أساس المجتمع، ويكفل القانون كيانها ويصونها ويحميها. وقد استعرضت الدراسة ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومفهوم حقوق الإنسان عالميا وإسلاميا وعربيا، وكذلك الآليات الإقليمية والدولية لحماية حقوق الإنسان والموقف العربي من العالمية والخصوصية في حقوق الإنسان. وأوضحت هذه الدراسة بالجداول والأرقام مقارنة بين الحقوق المدنية والسياسية الواردة في الدستور المؤقت لدولة الإمارات والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تؤكد على أن تشريعات دولة الإمارات العربية المتحدة شاهدة على تقدم وتمدن هذه الدولة واحترامها لحقوق الإنسان وإطلاقها لهذه الحقوق والحريات وعدم تقييدها من خلال تبني وإقرار عدة ضمانات من أجل الإنسان وحقوقه وحرياته في مختلف المجالات وكافة الظروف. كما أكدت الدراسة على أن دولة الإمارات تعتبر من الدول العربية القليلة الملتزمة بتقديم تقرير سنوي لاجتماعات الاتفاقية الدولية المتعلقة بإزالة جميع أنواع التمييز العنصري والتفرقة العنصرية. وأكملت دولة الإمارات انضمامها الرسمي للعديد من الاتفاقيات الدولية كان آخرها الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل مطلع العام 1997، وشاركت بفعالية وإيجابية في الحوار الدولي لحقوق الإنسان من خلال المؤتمرات الدولية التي نظمتها الأمم المتحدة.

كما أنه لم تسجل تقارير المنظمات الدولية العربية والعالمية أي انتهاكات لحقوق الإنسان بالإمارات، ووثقت الدراسة لعدد من الاتفاقيات والعهود والوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومنها وثيقة انضمام حكومة دولة الإمارات إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.
ومن الجدير بالذكر أن الدراسات التي يقدمها مركز زايد للتنسيق والمتابعة عن الإنسان وحقوقه في القانون الدولي تناولت عناوين بارزة هي على صلة بالواقع الدولي لحقوق الإنسان من أبرزها: حقوق الإنسان- ثوابت المبدأ ومتغيرات الزمن، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان في الإسلام، وأيضا المصادر الحقيقية لحقوق الإنسان، وكذلك القانون الأساسي لمنظمة العفو الدولية، والاتفاقيات الدولية التخصصية في حقوق الإنسان، وكذلك الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، وغيرها من الدراسات العظيمة التي قدمها هذا المركز ومازال يقدمها في خدمة الإنسان والإنسانية (من دراسة أعدها مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة ونقلاً عن موقع جريدة الإتحاد على الإنترنت بتصرف)".

ولا يسع المرء حين ينتهى من ذلك الكلام إلا أن يتساءل: ترى ما جدوى إنشاء مثل ذلك المركز إذا كان الحاكم من حكامنا لا يحتاجه ولا يحتاج شيئا آخر غير ما تثمره عبقريته التى لم تلدها ولادة، أكرر: لم تلدها ولادة، نعم لم تلدها ولادة، لأنه ببساطة لا وجود لمثل تلك العبقرية ولا لأية موهبة بالمرة؟ ولا أظن أنه قد نُسِىَ بَعْدُ ذلك الحاكم العربى الذى أنفق واقفا فى واحد من مؤتمرات حرب الخليج الأولى (كأى تلميذ غبى بليد ثخين العقل غليظ الإحساس لا أمل فى أن يتطور من المرحلة الديناصورية إلى المرحلة الإنسانية) دقائق عصيبة بل قاتلة مرت كأنها دهر، وهو يحاول أن يتهجى بضع كلمات لا راحت ولا جاءت كتبوها له بحروف فى ضخامة الفيل كى يقرأها فى ذلك المؤتمر أمام عدسات التصوير التى يشاهدها العالم كله، وهو يتهته ويفأفئ ويبأبئ ويتأتئ ويمأمئ ويفسفس ويبسبس ويمسمس، ولا يتتعتع (رغم كل هذه التأتآت والبأبآت والمأمآت والفأفآت والفسفسات والبسبسات والمسمسات) من موضعه ولا فيمتو مليمتر واحد فى الساعة، وكانت فضيحة مدوية! وكنت، والله العظيم، وأنا أشاهد ما يجرى، أتمنى لو انشقت الأرض وبلعتنى، تعاطفا مع المسكين. وتساءلت: ألم يكن الرجل، بدلا من هذه الشحططة والمرمطة، قادرا على ارتجال كلمة من تلك الكلمات السخيفة التى يزعجنا بها حكامنا فى الفاضية والملآنة ويظل المذياع والمرناء يحرق بها أعصابنا أياما وليالى ويفقع مصاريننا ومرارتنا أيضا بالحديث عن اهتمام العالم كله: العلوى منه والسفلى، والظاهر والخفى، وعالم الجن وعالم الإنس وعالم الملائكة، وعالم الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف والديناصورات المنقرضة من قبل أن نصطبح بخلقة هؤلاء العباقرة بملايين السنين، إن كان لنا أن نصدق علماء الأحياء وطبقات الأرض فى موضوع عمر الأرض، وكيف أن العالم أجمع لا يهنأ له نوم ولا يروق له بال، ولا يهدأ له بلبال، إلا إذا شنّف آذانه كل يوم عدة مرات لعدة أسابيع بسماع الكلمة العبقرية التى لم يمر لها مثيل من قبل ولن يجود الدهر بهذا المثيل مستقبلا؟ لكن يبدو أن المسكين أراد أن يثبت للغرب أنه واحد من أولئك الذين يستطيعون فك الخط، فلم ينجح للأسف فى ادعائه، بل لم يقيض له الله أن يحصل ولو على ملحق. ثم يقولون: مراكز بحثية فى العالم العربى! شىء لله يا مراكز!

نعم هناك مراكز بحثية فى العالم العربى، لكن الذى يستفيد منها هو الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص، وهذه هى الحقيقة الناصعة، بل الحقيقة الوسخة التى لا يفلح فيها أومو ولا بِرْسِيل ولا أى منظف كَحْيان عَدْمان من منظفاتنا التى كُتِب عليها السوء والرداءة كأى عمل نمارسه وأية صناعة ننتجها، أما حكامنا فهم فى الغالب يديرون أمور حياتنا كما كان يفعل أى فلاحٍ فى كفر من الكفور المصرية أيام زمان حين يتربع على المصطبة، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة، وهو لا يعرف الألف من كوز الذرة. ألم يقولوا فى المثل: سكة أبو زيد كلها مسالك؟ فحكامنا، والحمد لله، سالكون تمام التمام و"جِدْعان آخر مجدعة"، ويعجبونك جدا، ومقطِّعون السمكة وذيلها، ويفهمونها وهى طائرة، ولا يحتاجون لشىء اسمه المراكز البحثية التى لو كان لدينا ذرة صدق وإنصاف لبللناها وشربنا عصيرها على الريق كى نستفيد شيئا مما أنفقناه عليها ولا نخرج من المولد بلا حمّص.
وأحب، قبل أن أترك هذه النقطة، أن أقول لمن سينخرط الآن فى فاصل من النقد للرجل وأمثاله: إنه ليس وحده هكذا، بل معظمنا كذلك بدرجات متفاوتة، وما المدارس والمعاهد والجامعات وما يُنْفَق عليها من مليارات سوى واجهات زائفة لا تخفى وراءها علمًا ولا جِدًّا ولا اهتماما بشىء، وإنما هو الوقت نضيعه دون تحصيل علمٍ جِدّىٍّ أو تطهير عقلٍ حقيقىٍّ أو اكتساب مهارة جديدة. وكلنا نعرف هذا، لكننا لا نريد أن نُقِرّ به رسميا، فهنيئا لنا! وقس على التعليم الانتخابات والمجالس النيابية والتأمين الصحى... وهلم جرا.

وهنا أجد لزاما علىّ رغم هذا أن أشير إلى ما نبّه إليه الدكتور مصطفى عبد الغنى من أهمية مثل تلك المراكز بما تمثله من سمة إيجابية "لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة فى بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مخاطر. ففى هذا القرن من الزمان الذى شهد تطورا هائلا فى مختلف الميادين والحقول عُرِفَتْ عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطارٍ مؤسَّسِىٍّ دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العلم البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فُضْلَى لعرض الـمُنْجَز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم. ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها" (ص 10). وهذا كلام طيب، بيد أنه يتعلق بما ينبغى أن يكون لا بما هو كائن فى بلادنا فعلا، اللهم إلا إذا كان قصده استفادة المثقفين لا الحكام، إذ لا أظن أن حكامنا بحاجة إلى مثل تلك المراكز أصلا للسببين اللذين سبق ذكرهما.
أما النص الثانى الذى عثرت عليه وأنا أعد هذه الفقرات، وأحببت أن أقدمه للقارئ هنا، فهو المقال الذى قرأته منذ عدة ليالٍ فى صحيفة "المصريون" الضوئية، وهو عن مواعيد امتحانات الثانوية العامة فى آخر هذا العام. و سوف يتسم الكلام هذه المرة بالتواضع لأننا لن نتناول فيه حاكما عظيما ممن يفهمونها وهى طائرة ويأتون بالذئب والثعلب أيضا فوق البيعة، ومعه الأسد (نعم الأسد الذى يغنى له الأطفال: ملك الغابة، يا ملك الغابة. تلاعبنى ملك والاّ كتابة؟)، بل وزيرًا "كُلّشِنْكَانًا" لا يهشّ ولا ينشّ من "العشرة بمليم" كالليمون فى الأيام الخوالى، أيام أن كان الليمون بعد العصر لا ينباع، وعنوان المقال هو "بلد عشوائيات"، وتاريخه 25 إبريل 2007م، وكاتبه جمال سلطان. يقول المقال، أو كاتبه إذا أردتَ الدقة: "بابتسامته العفوية الجميلة ظهر لنا الدكتور يسري الجمل وزير التعليم قبل أسابيع وهو يزف لنا بشرى أن جدول امتحانات الثانوية العامة هذا العام سيكون وفق اختيار أولياء الأمور والطلاب وبما يناسب الجميع، وبالتالي تم طرح صيغة مقترحة للجدول لتلقي المقترحات. ثم بعد أن تم الحصول على الملاحظات والمقترحات خرج علينا الدكتور يسري بنفس الصورة الحلوة المبتسمة وهو يعلن بسعادة وفخر عن إصدار جدول امتحانات الثانوية العامة الجديد. وعمم الخبر مع صورته الجميلة على الصحف القومية والمستقلة، لكن يبدو أن "الحلو" لا يكتمل، فبعد أن تأهل الطلاب والطالبات نفسيا للجدول الجديد، حيث تتم عملية رياضية ذهنية مثيرة جدا للفروق الوقتية بين المادة وأختها، إذا بنا نفاجأ بمعالي الدكتور يسري يعلن بشكل عاجل إلغاء الجدول الذي تم اعتماده، وذلك، حسب قوله، بناءً على شكاوى من بعض أولياء الأمور. طبعا ليس أي أولياء أمور، وإنما هم من أولياء الأمور الذين يملكون حق "الفيتو" في هذا البلد المغلوب على أمره. ثم أكد معالي الوزير على أن الجدول "المعدل" تم تعديله بعد حوار عبر "الفيديو كونفرانس" بحيث يأخذ صيغته الأخيرة. ثم خرج الدكتور يسري بنفس صورته الحلوة المبتسمة ليزف بشرى صدور الجدول، وبالتالي تعميمه على مديريات التعليم التي وزعته على المدارس التي قامت بطبعه، ومن ثم توزيعه على الطلاب. وما إن بدأ الطلاب يستقرون نفسيا بعد هذا القلق والتوتر حتى فاجأ الدكتور يسري الجميع أمس بنفس صورته الحلوة المبتسمة وهي تعلن أنه، بكل أسف، أن الجدول "المعدَّل" الذي تم اعتماده لامتحانات الثانوية العامة وتعميمه على المديريات والمدارس والطلاب لن يصلح وتم إلغاؤه، حيث خرج عباقرة الوزارة، بدون مشورة أولياء الأمور هذه المرة، بجدول جديد، يا رب يكون الأخير، خلطوا فيه المواعيد وأربكوا ما استقر في وعي الطلاب وذهنهم من ترتيبات. وقالوا إن الجدول الجديد "المطور" تم وضعه بناء على ظروف انتخابات مجلس الشورى المقبلة، وكأن جهابذة الوزارة وجيش مستشاريها لم يكونوا يعرفون أن انتخابات الشورى ستكون في هذا التوقيت. والحقيقة أن الناس ما زالت في حيرة: هل هذا آخر كلام الوزير أم أنه سوف يخرج بعد عدة أيام لكي يفتح الباب من جديد للحوار و"الفيديو كونفرانس" أو أن يأتيه الوحي في النهاية من قيادة نافذة تطلب منه تعديل الجدول من جديد فيظهر لنا الجدول "المحسَّن"؟ هذا الذي حدث يكشف عن مدى العشوائية التي تدار بها البلد. موضوع الثانوية العامة مسألة ذات حضور طاغٍ في الأسرة المصرية، ولها أولوية قصوى على كثير من شؤون الحياة. وهذا في تصوري خطأ، وأسبابه متراكمة، والمسؤول عنه أكثر من طرف، سواء في الجهاز الإداري والتعليمي أو التوظيف السياسي الفِجّ للعملية التعليمية أو في وعي المجتمع نفسه. فإذا كان العبث يتم في مسألة بهذا القدر من الخطر والحساسية، وإذا كانت هذه العشوائية تتم في قضية لا تحتمل عشوائية أصلا لأن المناهج والسياسات لم تتغير من عدة سنوات فيما يخص الثانوية العامة، فكيف بنا في تعاملنا مع بقية شؤون البلد؟ أو بمعنى آخر: كيف يذهب خيالنا إلى مدى العشوائية التي تتم في الأمور الأخرى التي لا نراها ولا نتابعها إلا صدفة وبدون قصد؟ لك الله يا شعب مصر".

هذا، ولى تعليق سريع وتافه على المقال ملخَّصُه أننا كلنا تقريبا ذلك الوزير، فلا ينبغى أن نتصور أننا طاهرون بُرَءَاءُ وأنه هو وحده المعيب، بل الكل يتصرف عشوائيا كالوزير وأَزْفَت منه. كما أن الميت لا يستحق كل هذه الجنازة الحارة، فالطلبة فى الجامعة على سبيل المثال لا يتعلمون شيئا يستأهل، بل كل ما هنالك أنهم يحفظون بعض الملخصات آخر العام يُسْقَوْنَها سقيا بملعقة ملوثة من كوز قذر لينسَوْها تَوَّ خروجهم من الامتحان، ثم هم لا يعرفون كيف يكتبون جملة واحدة، لا أقول: سليمة، بل جملة لها معنى، أما الخط فحدث ولا حرج، فهو فى غالب الأحيان شىءٌ مقئٌّ لا يمت إلى الكتابة بصلة، ولا أدرى من أين تعلمه هؤلاء المعاتيه الرسميون. وبالمناسبة فالملخصات يكتبها لهم واحد منهم أو طالب فاشل عنده كَمٌّ من الجرأة بل الوقاحة يخيِّل له أنه قادر على تلخيص مواد ومقررات لا يفقه فيها شيئا لأنه من نفس العينة والسلالة التى منها سائر الطلاب، فمن أين يأتيه الفهم والتحصيل؟ إن هو إلا عَتَهٌ رسمى بشهادة مختومة بخاتم النسر، الذى اقترح أن يستعيضوا عنه بأبى فصادة حتى يوافق شَنٌّ طبقة، وكان الله يحب المحسنين، ويكره الكسالى الثرثارين! ووضْع الطلاب هنا كوضْع من تدعوه إلى أكلة نظيفة شهية فى مطعم فخم فيؤثر عليها شطائر الفول والبطاطس من عربة فى الشارع مربوطة إلى حمار يغسل صاحبها أطباقه فى جردل موضوع تحت فم الحمار وأنفه، فهو (أى الحمار، أو صاحب الحمار: لا فرق) يشمه ويعطس فيه ويشرب منه، فضلا عن أسراب الذباب والغبار والهباب الذى يحط على الطعام ويغرم بها صاحبنا غراما وانتقاما! ولكن ماذا تقول فى الذوق الفاسد والطبع المعوجّ؟ مرة أخرى: هنيئا لنا!

وأخيرا هذا هو النص الثالث الذى وعدت القراء به، وهو يعطينا فكرة عن أحد المستشارين المقربين إلى رئيس أكبر دولة عربية. يقول د. عماد عبد الرازق تحت هذا العنوان الجانبى: "أسامة الباز متلعثما تليفزيونيا- أول وآخر مرة!" من مقال منشور بجريدة "القدس العربى" اللندنية يوم السبت 30 مارس 2007م بعنوان "الأعمال الكاملة لانتحاري إرهابي مسيحي، والمتلعثم الرسمي باسم الحكومة المصرية يتلعثم": "لو كنت من رئاسة الجمهورية المصرية لاستصدرت حكما قضائيا بالحجر على د. أسامة الباز ومنعه منعا باتا من الظهور على شاشة التليفزيون، أي تليفزيون، محلي أو عربي أو حتي يبث في كوكب عطارد. من أجل هذا الرجل المخضرم في عالم السياسة يجب استحداث منصب جديد خصيصا أقترح تسميته: "المتلعثم الرسمي"، وهو تنويع على وظيفة المتحدث الرسمي. لقد شاهدت الدكتور الباز ضيفا على برنامج "اليوم السابع" وكادت الدموع أن تفر من عيني حزنا وكمدا عليه. فما رأيت رجلا قط في مثل هذا الحيص بيص وهو يرد علي أسئلة محمود سعد. واحد من أكثر المذيعين المصريين لزوجة ومطاطية، فهو المترفق دوما، الحنون للغاية علي ضيوفه، تأخذه الشفقة بهم حتي تخاله سيركع أمامهم ويقبل أياديهم طلبا للصفح والمغفرة إذا ما تسبب أحد أسئلته في إحراجهم أو إزعاجهم أو أي شبهة من هذا القبيل. ولهذا أيضا تجده يسبغ عليهم من كرم الضيافة أطنانا من عبارات المديح والإطراء. يتحسس طريقه نحو الأسئلة بعد أن يخففها ويهندمها ويهذبها ويقلمها ويشذبها، ويطعمها بجمل وعبارات اعتراضية واستطرادية من قبيل: "علي سبيل المثال" أو "لنفترض جدلا أو لنتخيل، و أنا لا أقول إنك قلت كذا أو فعلت كيت"... وهكذا إلى أن يبعد جميع الشبهات والشكوك والايحاءات عن فحوى السؤال حتي يصير مائعا ساقعا لا طعم له ولا لون ولا رائحة. مع كل هذا كان د. أسامة الباز كارثة تليفزيونية بكل المقاييس. نعم كان الرجل أشبه ببطل تراجيدي في إحدى المآسي اليونانية العظيمة الخالدة، البطل الذي كان نبيلا حتي سقط سقطته التراجيدية نتيجة علة أو خلل في شخصيته، فحلت عليه لعنة الآلهة وسقط من عليائه مضرجا في أهواله التي صنعها مزيج من قدره الغشوم وحمقه أو النقيصة الأخلاقية المتأصلة فيه. على الرغم من أن د. الباز لم يكن في يوم من الأيام بطلا ولا يحزنون، لكن هكذا على الأقل كان الناس يحسنون الظن به، وأنا واحد منهم مع كل هذه المناصب التي شغلها في قمة الهرم السلطوي لأكثر من ثلاثين عاما، إلى أن شاهدته متحدثا تليفزيونيا. نعم أحسست بالشفقة كما نحس بالشفقة على أوديب الذي فقأ عينيه أو هاملت غارقا في جحيم شكوكه وهلوساته وانجرافه نحو هاوية الجنون، يطارده شبح أبيه المغدور بالتآمر بين أمه وعمه الخؤون، أو الملك لير وقد استبد به الجنون والخرف. أشفقت علي الدكتور الباز ولعنت من نصحه بالموافقة على الظهور في البرنامج ليدلي بهذه الإجابات المهترئة، والتبريرات المهلهلة لسياسات لا يجرؤ حتى على تبنيها أو ادعاء أنه كان من صانعيها، وحين ينبري للدفاع عنها (كلمة "ينبري" كبيرة إلى حد ما)، حين تساوره نفسه الأمارة بالسوء أن يدافع عنها، تكون الطامة الكبرى وينكشف المستور. كان الرجل يتلعثم تلعثم من ضبط متلبسا كما ولدته أمه في وضع مخل بالآداب، يهرف بكلمات وعبارات لا تعني شيئا البتة، ومضيفه المسكين يجاهد ويكابد في أن يستخرج المعاني من وسط ركام الهراء الذي ينسكب من فم الرجل الباز (وياللمفارقة في اسمٍ ليس علي مسمي بالمرة، فهو أبعد ما يكون عن "الأسامة" وعن "الباز"). وكلما شط الدكتور واشتط يعيده محمود سعد بأدبه المتصنع لدرجة التزلف إلى لب الموضوع ويعيد على مسامعه السؤال عينه بشحمه ولحمه ودمه، ولكن دون جدوى تذهب جهوده المضنية أدراج الرياح. إنه حتى لا يجيد التهرب من الأسئلة، ولم يدل بتعليق واحد تشتم منه رائحة الذكاء أو الألمعية. تتعقد منه الخطوط، ويتوه في الزحام وتخونه الكلمات وتضيع منه الأفكار، ونضيع معه ونحن نعتصر جباهنا لنتأكد أن البلاهة لم تحط علينا فجأة، ونفرك آذاننا لنتأكد أن الصمم لم يعترها بعد، ونحملق في الشاشة ونفرك عيوننا لنتأكد أن هذا هو د. أسامة الباز مستشار رئيس أكبر دولة عربية للشؤون السياسية بشحمه ولحمه ودمه وقده وقديده، حامل الدكتوراه من بلاد العم سام. ويا ميت ندامة ع الفرع العدل لو مال. كانت المناسبة مرور "عُشْرُمِيت" سنة علي مبادرة الرئيس السادات وزيارته للقدس".

كذلك أبرز كاتب مادة "مركز البحث" فى "الويكيبيديا" ما يوجَّه إلى هذه المراكز البحثية من نقد، وهو ما لم يفت مؤلفنا فذكره فى كتابه ونبّه إلى الأخطار والمصائب التى تقع على رؤوسنا من وراء المراكز الأمريكية بالذات. ومن هذا النقد أن أعضاء تلك المراكز لن يمكنهم مقاومة الرغبة الطبيعية فى استمرار الدعم المالى الذى تقدمه هذه الجهة أو تلك ويدخل بطبيعة الحال جيوبهم، فنراهم يتخَلَّوْن بدرجة أو أخرى عن الحيادية المطلوبة منهم أو على الأقل: المفترضة فيهم، ويقدمون من النتائج ما يرضى أولئك المموِّلين محوِّلين من ثَمّ تلك الأجهزة إلى توابعَ أيدلوجيةٍ لمن يدفعون لهم، توابعَ تعمل على تشكيل الرأى العام وتوجيهه إلى الناحية التى يريدها هؤلاء حتى لو كان فيها مخالفة صريحة للعلم ونتائجه، كما هو الحال مثلا فى عمل بعض تلك المراكز على التشكيك فى أن يكون التدخين السلبى مؤذيا لصاحبه على عكس ما انتهت إليه الأبحاث العلمية فى هذا السبيل، وذلك خدمةً لشركات الدخان.
وعن المراكز البحثية يقول د. مصطفى عبد الغنى إن "مراكز الأبحاث والمعاهد البحثية الواعية... سمة من السمات الإيجابية لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مختلف الميادين والحقول عرفت عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطار مؤسسى دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العمل البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فضلى لعرض المنجز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم، ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها. ومراكز الأبحاث فى الجامعات أو المراكز العربية لها دلالة كبيرة فى هذا الصدد، وأبرز مثال لها ما عرفناه أخيرا: "مركز زايد" لهذا الدور الإيجابى الذى قام به، وكان يمكن أن يستمر صعوده لولا تآمر المراكز والجهات الصهيونية عليه، وفى مقدمتها "مركز ميمرى". ومع ذلك فإنه، على الرغم من كل شىء، ما زال المركز العربى باقيا من خلال إصداراته من إنتاجه الفكرى لا المؤسسى ونتاجه الذى تنوع كثيرا. هذا هو الوجه الأول المضىء للمراكز البحثية، وهو غير الوجه الآخر المظلم الذى يمثله الآن عدد كبير من المستشرقين الجدد، فقد استُبْدِل بالمستشرق التقليدى الآن: "الخبير الجديد"، الذى لعب دورا كبيرا فى هذه المراكز انطلاقا من بواعث تبشيرية واستعمارية قديمة. مراكزنا البحثية كانت واعية دفاعية، فى حين كانت المراكز الغربية عدوانية... معنى هذا أنه إذا كانت لدينا مراكز بحثية فهى لا تقوم بنفس الدور الاستعمارى، فضلا عن أن دورها العربى فى البحث والحضارة ومناوأة العقل الاستعمارى أو الصهيونى يجعلها تختلف عن هذه المراكز العربية، خاصة بعد 11 سبتمبر، وهو ما يجعلنا نتمهل هنا عند هذه المراكز البحثية الغربية التى لعبت دورًا مغايرًا إبّان صعود المستشرق الجديد (الخبير) كما سنرى فى الحقبة الأخيرة". وممن توقف إزاءهم من هؤلاء الخبراء الخطرين فى المراكز البحثية فى أمريكا برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس وكريمر وفوكوياما وهانتنجتون، مبرزا الدور الشيطانى الذى قاموا ويقومون به منذ تسعينات القرن الماضى حتى الآن من خلال عملهم فى مثل تلك المراكز وتعاونهم الآثم مع المخابرات الأمريكية فى سبيل إخضاع الأمة العربية والإسلامية واحتلال بلادنا وسرقة ثرواتنا وإقحام أصابعهم الدنسة فى مقرراتنا الدراسية وفهمنا لديننا (ص 9- 11).

ومن المناسب لهذا الذى نقلناه عن المؤلف هنا بخصوص المراكز البحثية فى بلادنا ومثيلاتها فى الغرب، وبالذات فى الولايات المتحدة، وتآمر القوى الصليبهيونية على مركز الشيخ زايد المشار إليه، أن نشير إلى مقال منشور فى مجلة "العالم الإسلامى" الأسبوعية بتاريخ يوم الاثنين 4 رجب 1424هـ- أول سبتمبر 2003م عنوانه "إغلاق مركز الشيخ زايد لن يكون آخر مطالبهم!" بقلم منير حسن منير، يجرى على النحو التالى: "أسفت كغيرى من المتابعين لخبر إغلاق "مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة"، وذلك لأن هذا المركز كاد خلال فترة وجيزة من تأسيسه أن يكون أهم مركز للدراسات والمتابعة على امتداد الدول العربية، إذ ظل مواكبا لكل ما يحدث على جميع الأصعدة بدقة وموضوعية نفتقدها في معظم جامعاتنا ودُورنا الأكاديمية والبحثية. وتعود خلفية إغلاق المركز وتصفيته لاحتجاج مجموعة صغيرة من الطلاب ذوى الأصول اليهودية في جامعة أمريكية كانت قد قبلت تبرعا من سمو رئيس دولة الإمارات، وادعت هذه المجموعة والتي قادتها طالبة يهودية أن الشيخ زايد يموّل المركز الذى يعتبر، حسب ادعائهم، معاديا للسامية لمجرد أن باحثا كان قد شكك في محاضرة له نظمها المركز في حدوث محارق لليهود في عهد النازية (الهولوكوست)! وهكذا فقد تطور الاحتجاج ليأخذ شكل حملة ضد منظمة المركز ونشاطاته وانتهى الأمر بتصفيته وإغلاقه! ورغم أن واشنطن نفت أنها أمرت بإغلاق المركز، إلا أن قضية إغلاقه وتصفية نشاطه لا شك مرتبطة بالتهمة السالفة والباطلة.

إن في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية مئاتِ مراكز البحوث والدراسات، وآلافَ الجامعات والمعاهد العلمية والاكاديمية، ومئاتِ الآلاف من الصحف والمطبوعات التي "تنفث" كل يوم جديد سموما وتهما باطلة ضد العرب والمسلمين، تتهمهم بكل سئٍّ ومشين، فلم يطالب أحد في العالمين العربى والإسلامي بإغلاق هذه المراكز والجامعات، ولا بتصفية نشاطاتها أو حتى بمساءلتها، وذلك لأن أمريكا تطلق حرية كاملة لمثل هذه الدور. أما صحافة أمريكا وإعلامها من تلفزيون ومؤسسات سينمائية فإنها تتسابق دوما في نشر كل ما يسيء للعرب والمسلمين معا حتى أنهم أصبحوا مادة للسخرية و"التنكيت" والإساءة والاستهزاء دون أن يفتح الله على أحد منا حكوماتٍ ومسؤولين لكى يثور لكرامة هذه الأمة التى تُهْدَر جهارا نهارا! إن الإعلام الأمريكي لا يزال يصور العرب مجموعة من المتخلفين والأوباش، في حين يكيل للمسلمين اتهامات وأوصافا أقلها أنهم إرهابيون، ولديننا أنه دين دموى يقوم على الإرهاب، ويسيء بعضه لعقيدتنا ولرسولنا الكريم بدعوى حرية الإعلام. أما مراكز بحوثهم ودراساتهم فإنها لا تنفك تدرس سبل زعزعة أنظمة الحكم في بلادنا، وتأليب الشعوب على حكامها وتأليب الإدارة الأمريكية لتأمر بتعديل مناهجنا الدراسية، وللضغط لتغيير خطابنا الديني، وأخيرا لمعاقبة كل من لا يلتزم بكل هذا! وآخرون نادَوْا ونشروا دعوات لـ"هدم" الكعبة المشرفة، ولدكّها بالقنابل النووية، ولمهاجمة مكة، أو لاحتلال بلد أو تغيير نظام ما.

إن الرضوخ لضغوط إغلاق مركز زايد إنما هو رضوخ لمطالب قوى الضغط الصهيوني داخل الإدارة الأمريكية، واستجابة لمشيئة اللوبى اليهودي داخل أروقة هذه الإدارة. وهي، في النهاية، مطالب لن تنتهى، وهي حلقة في سلسلة طويلة قادمة من المطالب المجحفة لن تتوقف عند مركز بحث علمي، ولكنها ستطال أشياء كثيرة ربما وصلت إلى ضرورة عرض قائمة طعامنا وبرنامج تحركنا اليومي على سادة البيت الأبيض وسادتهم من أساطين اللوبي الصهيوني!".

والآن إلى كلمة عن كل من برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس ومارتن كِريمر وصامويل هَنْتِنْجتُون وفرانسيس فوكوياما، أولئك الخبراء الشيطانيين الذين يضعون أنفسهم فى خدمة المشروع الاستعمارى بل الاستئصالى الأمريكى الذى يتغيا العرب والمسلمين والذين صوب الدكتور مصطفى عبد الغنى إصبع الاتهام فى وجوههم. ونبدأ ببرنارد لِوِيس، وهو يهودى بريطانى الأصل وُلِد فى لندن سنة 1916م، وإن كان قد اكتسب الجنسية الأمريكية فيما بعد عام 1982م، وتخرج من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن عام 1936م حيث دَرَس تاريخ الإسلام فيها وحصل على الدكتورية منها فى نفس الموضوع وأصبح من أساتذتها. ثم انتقل فى 1974م إلى العمل بجامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم أربع سنوات فى جامعة كُرْنوِيل قبل أن يعتزل. وهو مقرَّب من الحكومة الأمريكية الحالية ورجالها، إذ يعتمدون على آرائه ومشورته. ولم لا، والمتحكمون فى أمريكا الآن هم الصهيوصليبيون الكارهون للعرب والإسلام والمنحازون قلبـًا وقالبـًا وكُلاًّ وجزءًا إلى اليهود والذين قد تكون نهاية أمريكا كقوة عظمى على أيديهم إن شاء الله بتوريطهم لها فى كل مكان على ظهر الأرض وإغرائهم إياها باستثارة عداء المسلمين والعرب ضدها والدخول فى حروب ومعارك لا تنتهى اغترارا بقوة الولايات المتحدة واقتصادها وتقدمها العسكرى والصناعى، غير دارين صحة المثل البلدى القائل: "خذ من التلّ يختلّ". وأمريكا بما تنفقه على الدوام من جهود وأموال وبما يُقْتَل من جنودها وضباطها وما تفقده من طياراتها وصواريخها ومدافعها فى أثناء ذلك وما يترتب عليه من تشتيت الانتباه وإثارة السخط فى قلوب آباء الجنود والضباط وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم وأبنائهم إنما تحفر قبرها بيدها، ولو على المدى الطويل، وإن كنا نرجو ألا يطول الانتظار. والمهم أن يكون العرب والمسلمون مستعدين لذلك اليوم ولا أخال، إذ كل المؤشرات تقول بصوتٍ بَيِّنٍ فصيحٍ إنهم لا يزالون نياما فى كهوف التخلف والجهل والضلال ولا يظهر حتى الآن ما يدل على أنهم عما قريبٍ مُفِيقون.
وفى كتابات لِوِيس نجده يتهم المسلمين بأنهم وحدهم سبب التخلف الذى هم فيه، وذلك لشعور الغطرسة الذى يعانون منه ويمنعهم من التعلم مما فى يد الآخرين ويحرمهم مما تستلزمه هذه العملية من مرونة كما يقول، وأنْ ليس للغرب أى يد فى هذا الذى يقاسونه. وهذا المنطق مغلوط إلى حد بعيد، لا لأننى أنكر أن العرب والمسلمين مسؤولون عما هم فيه، بل لأنه من غير المنطقى ولا الإنسانى تبرئة الغرب من مسؤوليته هو أيضا عن هذا التخلف وتلك المعاناة بعد هاتيك القرون التعيسة التى احتل فيها بلادهم ونزح ثرواتهم واستعبدهم ودمر ثقافتهم وأنزل بأحرارهم العسف والتنكيل وساعد حكامهم المستبدين ضدهم ومكّن لهم من رقابهم كى يقوموا على مصالحه ويسهروا على رعايتها، وبَذَر بذور الشقاق والفتن فى كل مكان فى بلادهم ومسح شيئا اسمه فلسطين وجلب شذاذ اليهود من كل صقع وأفق وأسكنهم فيها وأقام لهم دولة يحميها وينصرها فى الحروب والمحافل الدولية... إلى آخر ذلك كله إن كان له آخر، ثم يأتى برنارد لِوِيس فيمحوه بجرة قلم سخيفة، ويريدنا أن نصدق تحليلاته!

نعم، المسلمون والعرب هم المسؤولون رقم واحد عما هم فيه من مأزق حضارى لأنهم استكانوا إلى الشكلانية فى الدين واستناموا إلى البلادة والخمول والكسل وكرهوا بذل المجهود فى تحصيل العلم وفى الإبداع وفى إتقان ما يعملونه وينتجونه على قلته وتفاهته غالبا، ووهموا أنهم يحسنون بذلك صنعا، فأضحت حياتهم تعيسة ذليلة خانعة خاضعة، ولم يفكروا لحظة فيما سيقولونه لربهم يوم القيامة أو فى الألم الذى يسببونه لرسولهم رغم الجهود الهائلة التى بذلها فى تبليغ رسالته وتطبيقها وتبيينها والتحذير من مغبة التهاون فى الأخذ بها مما يحصدون الآن ومنذ قرون ثماره المرة بل فى الحقيقة: ثماره السامة، وسمحوا لهؤلاء الغربيين أن يدخلوا بلادهم ويسودوهم ويركبوهم كما تُرْكَب الحمير والبغال ويسوموهم سوء الهوان والعذاب، وفوّتوا على أنفسهم الفرصة تلو الفرصة للتخلص من هذا العار دون أن يفترصوها، وأحسنوا الظن بأعدائهم الملاعين وصدّق فريق منهم أنهم يريدون بهم خيرا فتعاونوا معهم ضد أمتهم وانحازوا لهم وكانوا لهم إلبا. لكن هذا وغير هذا لا يمكن أن يغطى على الإجرام الذى ارتكبه الغربيون وما زالوا يرتكبونه فى حقنا. كل ما هنالك أن المجادلة مع الغرب لن تؤتى أية ثمرة، بل القوة والتقدم والسلاح الذى ينبغى أن نصنعه بأيدينا والقوت الذى يجب أن نزرعه فى أرضنا ونكتفى به فلا نمد أيدينا إلى ذلك العدو ليَمُنّ علينا ويستذلنا ويفرض برغم أنوفنا فى الوحل والطين شروطه المجحفة المذلة فلا نجد بدا من الرضى الذليل بها رغم أننا نقدم له فى مقابلها ما هو أكثر بكثير من الفتات الذى يمن ويشمخ به علينا.

ويبذل لِوِيس كل ما لديه من وسع فى تأريث نار العداوة بين الغرب والعالم الإسلامى قائلا إنها طويلة طول تاريخ الإسلام، إذ ترجع إلى بداية ظهور ذلك الدين منذ أربعة عشر قرنا وأنها تزداد التهابا الآن. كذلك فهو صاحب المصطلح الذى انتشر بعد ذلك حين تبناه صمويل هانتنجتون وتوسع فى الكلام فيه وجعله عنوانا لكتابه الشهير: "صدام الحضارات". وبالمناسبة فقد نبه الدكتور مصطفى عبد الغنى بحق إلى أن اللفظة الإنجليزية هى "صدام" لا "صراع" الحضارات، وهأنذا أكتشف أن المصطلح هو من صياغة لِوِيس لا هانتنجتون، وذلك فى مقاله: "جذور الغضب الإسلامى"، الذى نشره عام 1990م. وهو كذلك دائم التحريض على إيران زاعما أنها، فى أنثاء إعدادها الرد المنتظر على مطالبة الدول الغربية لها بالتوقف عن أنشطتها النووية، إنما تخطط لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وربما العالم كله على بكرة أبيه أيضا.

ولا يطيق لِوِيس أن يمس أحد إسرائيل أو ممارساتها العنصرية الإجرامية بكلمة، ومن هنا ألفيناه يؤلف كتابا عن معاداة السامية يحمل فيه على كل من تسول له نفسه بانتقاد أى توحُّشٍ تقترفه إسرائيل فى حق الفلسطينيين المساكين الذين شردهم اليهود بمساعدة الغرب عن بلادهم وصادروا أراضيهم وهدموا بيوتهم على رؤوسهم واغتصبوا نساءهم وقتلوا أطفالهم وروّعوا كل إنسان هناك، مطبّقين بهمة إبليسية تعاليم توراتهم المحرَّفة القاضية بمحو كل شىء يخص أعداءهم من الوجود ولا يتركوا نَفْسًا تتنفس، بشرا كانت هذه النفس أو حيوانا.

والطريف أنه يلجأ فى دفاعه عما قامت وتقوم به إسرائيل من عدوان على العرب والمسلمين فى فلسطين وخارج فلسطين إلى القول بأن المسلمين يقاسون من ويلات أخرى لا تقل عن تلك التى تنزلها العصابات الصهيونية على رؤوسهم كالغزو السوفييتى لأفغانستان والحرب العراقية الإيرانية وما إلى ذلك. جميل! لكن من قال له إننا نرحب بتلك الويلات ولا نعمل على القضاء عليها؟ ثم إنه لأمر عجيب أن يحاججنا اللص بأننا لا ينبغى أن نعمل على استرداد ما سرقه منا بحجة أن آخرين سواه قد سرقونا أيضا! ولقد نجح المسلمون فى إخراج السوفييت من أفغانستان، فهل تركهم الأمريكان فى حالهم؟ كما أننا نعرف الدور الإبليسى الذى قام به الأمريكان فى الحرب العراقية الإيرانية وتأليبهم كل فريق على الآخر وتسهيل وصول السلاح لهم حتى لا يتوقفوا عن إفناء بعضهم بعضا، وإن كنا لا نبرئ المسلمين من المسؤولية أبدا، فلولا غباؤهم وقصر نظرهم وانخداعهم بأعدائهم ومسارعتهم إلى التقاتل فيما بينهم بدلا من اتحادهم على قلب رجل واحد لمقاتلة أمريكا وإسرائيل والقضاء على شرورهما كما قَضَوْا على شرور السوفييت فى أفغانستان ما حصل شىء من ذلك الذى يعايرنا به برنارد لِوِيس!

ولكل هذا يتهمه إدوارد سعيد وغيره من الأساتذة الأمريكان بالتحيز والتمركز حول الذات والجهل بالشرق الأوسط والعالم العربى، الذى لم يضع قدمه فى أى بلد منه منذ ما يزيد على أربعين عاما كما قال، وكذلك بمحاولة إشعال ما انطفأ من نيران الحروب الصليبية بحيث تستمر إلى ما لا نهاية، والعمل على وضع الإسلام والمسلمين على الدوام موضع الاتهام دون أمل فى النهوض مما هم فيه لأنهم معيبون طبيعة ودينا حسب اتهاماته لهم، وهو ما ليس هناك من أمل فى علاجه والتخلص منه طبقا لما يزعم! وبالمثل كان برنارد لويس وراء قرار الحرب ضد العراق فى أمريكا، وكان تسويغه الشيطانى لها بأنها السبيل لتحديث منطقة الشرق الأوسط إحدى الحجج التى تذرع بها المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة.

وبعد برنارد لِوِيس يأتى دانيال بايِبْس الصحفى والأستاذ الجامعى المتخصص فى التاريخ الإسلامى والمستشار المقرَّب من رئيس الولايات المتحدة ودوائر صنع القرار فيها. وهو أمريكى من مواليد 1947م، ويهودى صهيونى متعصب مثل لِوِيس يكره الإسلام والمسلمين ولا يترك فرصة تسنح إلا ويهتبلها لتهييج الرأى العام والمسؤولين فى أمريكا ضدنا ناشرا الكراهية فى كل سطر بل فى كل كلمة يحبرها قلمه، فإذا بها سم زعاف. وبلغ من بغضه للإسلام وأتباعه أنه يكرر فى مقالاته وكتبه أن الدين المحمدى النبيل لا يمكن أن يقوم بينه وبين الديمقراطية أى تفاهم، وأن اندماج المسلمين فى المجتمعات الأوربية والأمريكية أمر مستحيل مهما بُذِلت فى ذلك الجهود ووُضِعت المشروعات. كما أنه منحاز على طول الخط والوقت لإسرائيل، مصورا الفلسطينيين بأنهم شياطين لا يستحقون الرحمة، وزاعما أنه لا مكان فى الشرق الأوسط لدولتين: إحداهما إسرائيلية، والأخرى فلسطينية، وأنه لا سبيل إلى الأمن والسلام فى المنطقة وفى العالم إلا بمنع الفلسطينيين من إقامة دولة لهم وأخذ الطريق عليهم كيلا يتمكنوا من ذلك، وإلا فلو وقعت الفأس فى الرأس وسُمِح لهم بإنشاء دولة فلن يكون هناك إلا أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما: فإما دمرت تلك الدولة نفسها، وإما دمرت إسرائيل. ومن هنا فلا حل إلا منعهم بتاتا من إنشاء مثل تلك الدولة حتى لا تدمر إسرائيل.

كذلك فهذا الرجل يحرض المسؤولين والرأى العام فى الولايات المتحدة على كل أستاذ جامعى أو كاتب أو مفكر لا يوافق على العسف والظلم والجبروت والإجرام الذى تقترفه إسرائيل فى كل لحظة من نهار أو ليل فى حق الفلسطينيين الذين استولت على بلادهم وشردتهم فى الآفاق وقتلتهم ودمرت بيوتهم وسرقت مزارعهم ونكلت بهم، وتُعَامِل من بقى منهم على أرضهم معاملة العبيد المسحوقين، فتراه ينشر أسماء أولئك الكتاب الشرفاء فى بعض المواقع المشباكية التى يسيطر عليها ويشوه سمعتهم ويفترى عليهم الأكاذيب متهما إياهم بمعاداة السامية، محاولا بذلك كله تكميم الأفواه إلا أفواه من يسبحون بحمد إسرائيل ليل نهار، وهو ما أثار عليه قطاعا من الأساتذة والمفكرين الأحرار مما اضطره إلى حذف القائمة السوداء التى كانت تحتوى على أسمائهم والتحريض عليهم من الموقع المذكور. وبسبب من تلك التصرفات الحاقدة المتعصبة التى لا ترى للآخر أى حق فى الحياة والكرامة فإن مؤسسة "كير" الإسلامية الأمريكية لا تنى تنبه إلى ما فى مقالاته ومواقفه وتحريضاته من خطر داهم على جميع فئات الشعب الأمريكى بما فيهم المسلمون الأمريكان، أولئك الذين لا يقول بايبس فيهم ولا فى عاداتهم وتقاليدهم وتصرفاتهم كلمة طيبة، حتى إنه ليسخر من أطعمتهم وملابسهم ويصمها بالشذوذ متهكما عليهم ومحرضا الذوق العام ضدهم ومؤكدا أنه لا مكان لعاداتهم وتقاليدهم وأطعمتهم وملابسهم الغريبة الشاذة فى أمريكا ولا فى أوربا، وأنه لا بد من تشديد الخناق على المساجد والعمل على معرفة كل ما يدور بداخلها والتدخل فى الخُطَب التى تلقى فيها يوم الجمعة ومراقبة أئمتها باستمرار.

أما عمامة السيخى التى تثير السخرية والسارى الهندى الذى يكشف عن قبح بطن المرأة الهندية وظهرها وعُكَنها وبشرتها الزرقاء، وبخاصة إذا كانت امرأة كبيرة تجاوزت سن الجمال والنضارة، وأما الخنزير القذر المنتن رمرام الزبالة ذو المنظر الكريه والذى لا تطاق رائحة لحمه حين يطبخ، والدجاج المخنوق اللذان يأكلهما كثير من الأمريكيين والغربيين وينفر منهما اليهودى أشد نفور، وأما طاقية اليهودى السخيفة التى يلصقها بقعر رأسه والضفائر اللولبية التى تتدلى من خدوده إذا تدين وتبدو أكثر إغراقا فى السخافة، فهذا كله عسل وسكر على قلب بايبس المنافق، الذى سمعت الدكتور محمد السيد سعيد يصفه، فى الندوة التى نوقش فيها الكتاب الحالىّ بمبنى نقابة الصحفيين منذ أيام، بالجهل والضحالة والحقارة وممارسة البكش وما هو أشد من هذا مما أرى أنه يستحقه وأكثر منه. وبالمناسبة فقد فهمت من كلام د. سعيد أنه يعرف بايبس عن قرب، فهو إذن لا يلقى الكلام على عواهنه. وأنا، حين أقول ما أقول عن ملابس الهنود وبشرتهم، لا أقصد معاذ الله التنقص منهم، بل كل ما هنالك أننى أنظر بعين هذا البايبس الذى لا يعجبه العجب فى المسلمين وأسلوب حياتهم، وإلا فأنا،والحمد لله، من سعة الأفق بحيث أعرف أن كلا منا يرى فيما شب عليه وتعود على فعله الخير والذوق كله. كما أن الجمال والقبح الشكلى إنما هو إرادة الله، فلا يحق لى أنا المسلم أن أسخر من أحد لهذه الاعتبارات أو أقلل من شأنه، على الأقل: خشية أن يبتلنى الله بما أعيبه به!

لقراءة بقية النص انقر هنا

إلى روح المرحوم مجدى محرم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى