الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم عوض

المستشرقون الجدد - قسم 2 من قسمين

لقراءة القسم الأول من النص انقر هنا

وهذا البايبس دائم الزعم بأن المسلمين ينوون القضاء على الحضارة الغربية وأنه لو ظل باب الهجرة المسلمة إلى أمريكا مفتوحا لجاء يوم يصبح فيه النصارى أقلية من الماضى ويُنْظَر إلى كنائسهم كشىء من مخلفاته، إلى أن تأتى حكومة متعصبة فتحولها إلى مساجد أو تفجرها وتأتى عليها من القواعد. ولو كان المسلمون يفعلون هذا لما بقيت كنيسة أو معبد يهودى واحد فى أى بلد من بلادهم، وإنما غيرهم هم الذين يفعلون ذلك، وإلا فأين ذهبت المساجد التى تركها المسلمون خلفهم فى الأندلس؟ والمسلمون الأندلسيون، لمن لا يعرف، كانوا كلهم تقريبا أوربيين لا عربا كما يحاول المتعصبة الحاقدون أن يقنعوا عوام المسلمين وعوامهم هم بطلانا وبهتانا، إذ كان العرب هناك لا يمثلون إلا قطرة فى بحر لأن من دخل منهم تلك البلاد لا يزيد عن بضعة عشر ألفا على أكثر تقدير. أى أنهم لم يكونوا يمثلون سوى قطرة من بحر وسط سكانٍ يُعَدُّون بالملايين دخلوا طوعا دين محمد، لكنهم أُخْرِجوا منه بأساليب محاكم التفتيش التى يعرفها كل من له أدنى إلمام بالتاريخ، فكان عليهم بعد انتهاء الحكم الإسلامى هناك أن يتنصروا أو يتركوا البلد ويرحلوا، وإلا قُتِلوا أو سِيمُوا سوء التنكيل الرهيب الذى لا يمكن تصوره. ثم مع الأيام وتوالى التضييق والتعذيب لم يستطع من بقى منهم هناك بعد التظاهر باعتناق النصرانية خوفا ورعبا الاستمرار على هذا الوضع فترك دين محمد! كذلك فقد هدم الهنود المجانين أقدم مسجد بالهند فى عدة ساعات، فأين كانت أصوات بايبس وأشباهه؟
والواقع أن كلام بايبس عجيب غاية العجب، فاليهود الذين ينتمى إليهم ذلك الرجل يكذّبون بالسيد المسيح ويقولون فيه وفى أمه الطاهرة البتول ما يقولون مما يعرفه كل أحد، وينظرون إلى النصارى على أنهم كفار مارقون، ومن ثم فمعابدهم عندهم هى معابد الضلال، فأَنَّى له إذن تلك الغيرة الطارئة على كنائس النصارى، وهى ليست من شِنْشِنَة يهود؟ ألا يذكّر هذا الكلامُ السادةَ القراءَ بما صنعه اليهود اليثربيون حين هاجر رسول الله إلى المدينة وكتب صحيفة تساوى بين جميع الطوائف هناك دون أية تفرقة بين مسلم ويهودى، وقنّن التعاون على الخير بين الجميع حتى تمضى سفينة الدولة والمجتمع بسلام وأمان، فكان أنْ بدأوه بالعدوان والمؤامرات ومحاولة الاغتيال وتحريض القرشيين الوثنيين ضده والذهاب إليهم فى مكة ومنافقتهم كفرا وخبثا مؤكدين لهم أن وثنيتهم خير من التوحيد الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس هذا فحسب، بل يبدو الرجل ومن يسير فى خَطّه وكأنهم ممن كشف الله عنهم الحجاب، فهم يَرَوْن المستقبل قبل وقوعه ويطّلعون على أحداثه بالشَّمّ على ظهور أيديهم، إذ نجده قبل الحادى عشر من سبتمبر 2001م بأربعة أشهر فقط يتنبأ، فى صحيفة الـ"وول ستريت"، هو وصحفى آخر اسمه ستيفن إمرسن، يسير معه فى نفس الاتجاه ويشاركه ذات التعصب ضد العرب والمسلمين ويعمل مثله فى تحريض المسؤولين الأمريكان على كل ما هو مسلم وإسلامى، بأن تنظيم القاعدة يخطط لشن هجمات على أمريكا بتحريض إيران ومساعدتها يدمّر فيها عددا من المبانى الضخمة. الله أكبر! فمن أين لـ"بسلامته" معرفة الغيب؟ مجرد سؤال نرجو من بعض الباحثين أن يحاولوا الجواب عليه! وهذا الذى أقوله هنا تقوله المادة التى خصصتها موسوعة "الويكبيديا" المشباكية وأكثر منه، وإن كانت قد ذكرت فى ذات الوقت أسماء بعض من يرافئونه على آرائه ومواقفه، ومنهم أحمد صبحى منصور الشيخ الأزهرى الضال المضلّ الذى يكفّر المسلمين بدءا من صحابة رسول الله فنازلا، والذى يعقد دائما المقارنات بين المشايخ المسلمين والقساوسة فى كل مكان فتكون كفة الأخيرين هى الراجحة على الدوام، والذى لا يقتنع بالصلاة فى مساجد المسلمين ولا يجد أحدا يعاونه على إنشاء مسجد خاص يصلى فيه هناك إلا مجدى خليل النصرانى وأمثاله حسب كلامه، والذى انتهى به المطاف إلى أمريكا وتسخير قلمه وفكره لخدمة مشاريعها الإجرامية الإبليسية فى بلاد العرب والمسلمين زاعما أن بايِبْس يشاركه همومه الإصلاحية ويحارب مثله الإرهاب الإسلامى ويعمل على صيانة العالم من شروره. شىء لله يا هموم إصلاحية!

أما مارتن كريمر المولود فى واشنطن سنة 1954م فهو يهودى تلقى تعليمه بين الدولة العبرية ودولة رعاة البقر، وكان من تلاميذ برنارد لِوِيس المقربين وحصل على الدكتورية تحت إشرافه، واشتغل بعد ذلك أستاذا فى عدد من الجامعات الإسرائيلية والأمريكية، فضلا عن كتابة المقالات فى بعض الصحف والمواقع المشباكية. وهو من المنحازين فى فجاجةٍ عاريةٍ إلى إسرائيل ولا يطيق أن تتعرض لأى نقد مهما تكن بشاعة الجرائم التى ترتكبها فى حق الفلسطينين والعرب. كما أنه أحد الذين ساندوا بايِبْس فى المشروع الخاص بمراقبة أفكار الأساتذة الأمريكان وإعداد قائمة سوداء بأسماء من يخالفونهما وأمثالهما فى الرأى أو الموقف السياسى ونشرها فى أحد المواقع المشباكية تشنيعا عليهم وإرهابا لهم، بالإضافة إلى تعضيده طائفة المحافظين الجدد، وهو ما جلب عليه سخط عدد من الأساتذة والمفكرين وانتقاداتهم له واتهامهم إياه بالعمل على تسييس الجامعات وتكميم أفواه الجامعيين وخنق حرياتهم ومصادرة حقهم فى التفكير والتعبير عما يعتنقونه من آراء ويتخذونه من مواقف، فضلا عن الضحالة التى تتسم بها تحليلاته واستنتاجاته.
ونصل إلى صامويل فيليبس هانتنجتون المولود فى مينابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية سنة 1927م، وهو أستاذ فى العلوم السياسية بجامعة هارفارد تقوم شهرته على تحليل العلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وببحوثه الخاصة بانقلابات الدول ونظريته القائلة بأن الثقافات لا الدول القومية هى التى ستقوم بدور اللاعبين السياسيين المركزيين فى القرن الحالى الواحد والعشرين. كما أنه من المعارضين للهجرة اللاتينية إلى أمريكا والمحذرين من مخاطرها، ناسيا أن من يسمَّوْن بـ"الأمريكان" ليس لهم حق أصلا فى الوجود فى القارة الأمريكية وأن هؤلاء الذين يرى منعهم من الهجرة إليها هم أحق منه ومن أمثاله بالعيش فيها. وقد تعرض لتلك المسألة فى كتابه: "من نحن؟ التحديات التى تهدد هوية أمريكا القومية" الصادر عام 2004م، فضلا عن أنه، بوصفه مستشارا للرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون أيام الحرب الفييتنامية التى محق فيها الأمريكان الأخضر واليابس فى فييتنام الشمالية وقتلوا الملايين من مواطنيها على عادتهم الإجرامية ووفق طبيعتهم الوحشية فى التعامل مع الآخرين، كان من المبرّرين لإمطار الريف فى جنوب فييتنام بالقنابل بغية إكراه الفلاحين الفييتناميين الموالين للفييت كونج على النزوح إلى المناطق الحضرية. فهو إذن من المفكرين المجرمين الخطرين على الإنسانية المنزوع من قلوبهم الرحمة رغم الشهادات التى حصل عليها والمناصب التى تبوأها والكتب والدراسات التى ألفها. ولا شك أن التهمة التى وُجِّهَتْ إليه بأنه يعانى من "رُهَاب الأجانب"، أى النفور والخوف المرضى منهم، أقل كثيرا جدا مما ينبغى أن يوجَّه إليه من انتقادات ومآخذ، فالمسألة أخطر من ذلك كما هو واضح، وما رُهَاب الأجانب (وهم ليسوا فى الحقيقة أجانب، بل هو وأمثاله) سوى عَرَضٍ لمرضٍ أخلاقىٍّ وإنسانىٍّ أبعدَ غورا فى نفسه وفى نفوس الأمريكان عموما وأخطرَ أثرا فى واقع الحياة من مجرد ذلك الشعور الشاذ.

لقد أتى من يُطْلَق عليهم الآن اسم "الأمريكان" إلى أمريكا منذ قرون قليلة فارّين من القارة العجوز يلتمسون ملجأ آمنا، سواء منهم من كانوا يتعرضون هناك للاضطهادات المذهبية أو الجشعون الذين تجحظ عيونهم ويسيل لعابهم تطلعا إلى الذهب فى الأرض البكر أو المجرمون الهاربون من قبضة العدالة على السواء، فإذا بهم لا يشكرون الله والسكان الأصليين من الهنود الحمر على أنهم رحّبوا بهم ولم يجدوا أية غضاضة فى أن يقاسموهم خيرات بلادهم ويزاحموهم على العيش فيها، بل يبدأون فى الحال فى تنفيذ خطة جهنمية منظمة لمحو أولئك المساكين حتى ينفردوا هم وحدهم بما فى البلاد من خيرات ونعم، وهو ما تم للمجرمين فعلا على نحو لم يكن إبليس ذاته يتوقعه، فضلا عن أن ينجح فيه، إذ قضوا على مئات الملايين منها، وأضحى الهنود الحمر أثرا بعد عين، اللهم إلا بقايا من بقاياهم يجدها الإنسان فى بعض المحميات كأنهم حيوانات تُعْرَض على السائحين للتسلية والمتعة ليس إلا. ثم إن المجرمين عديمى الإنسانية لم يكتفوا بذلك، بل صنعوا الأفلام والروايات التى تقلب الحقائق وتصور الهنود الحمر على أنهم غدارون معادون للحضارة والرقى والرحمة وأنهم هم الذين يعتدون على الأوربى الأبيض بَغْيًا وقسوةً بلا أى مسوغ. والعجيب أننا، ونحن صغار، كنا نصفق ونهلل فرحا وإعجابا كلما استطاع الرجل الأبيض فى أحد تلك الأفلام، وما كان أكثرها فى دور السينما المصرية آنذاك، أن يطلق الرصاص على الهندى ويعاجله بالقتل قبل أن يفوّق هذا سهمه إليه، وننفر من الريش الملون الذى كان الهندى يتحلى به رغم أنه أجمل وأروع من سحنة الأوربى المجرم وملابسه.

على أن أهم ما لفت الأنظار إلى هانتنجتون هو مقاله المطول الذى نشره عام 1993م فى مجلة "العلاقات الخارجية " عنوانه "صدام الحضارات" وسّعه بعد ذلك ونشره عام 1996م فى كتاب مستقل اسمه " صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى". وفى هذا الكتاب نراه يؤكد أن الصراعات فى القرن الواحد والعشرين سوف تقوم على أساس ثقافى وحضارى لا على أساس عقائدى كما كان الحال أيام الحرب الباردة بين المعسكرين: الرأسمالى والشيوعى. أى أن الحروب ستكون بين الحضارة الغرب والحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية والحضارة الصينية، وهو ما دفع منتقديه من بعض الغربيين أنفسهم إلى اتهامه بأنه يعمل على دفع الغرب بقيادة أمريكا إلى العدوان على الصين والعالم الإسلامى.

والواقع أن الصراعات والحروب بين الدول أعقد مما يتصور هانتنجتون، فهى لا ترجع إلى سبب واحد، بل تمتزج فيها عوامل متعددة. ثم إن الصراعات السابقة أو الحالية بين البشر لم تكن بمعزل يوما عن العامل الثقافية والحضارية. أوكانت الحروب الصليبية مجرد حروب دينية؟ فلماذا لم تقم مثل تلك الحروب بين الإسلام وبين كل الدول النصرانية فى العالم آنذاك؟ لماذا كانت الحروب محصورة بين المسلمين ونصارى أوربا وحدهم؟ أليس ذلك سببه تقارب الثقافة فى الدول الأوربية؟ ألم يكن الرجل الأبيض، فى شَنّه الحرب على الأمم غير الأوربية واحتلاله لبلادها، يزعم أنه إنما يفعل ذلك من أجل القيام برسالته فى تمدين الشعوب الأحرى؟ أليس هذا سببا ثقافيا بغض النظر عن صدقه أو كذبه؟ ثم هل تنفصل الثقافة عن الإيديولوجيات والأديان؟ أليس الدين والإيديولوجية جزءا من ثقافة أى مجتمع، بل فى كثير من الأحيان هو الجزء الرئيسى فيها؟ وإلا فإذا صح ما يقوله هانتنجتون من أن الثقافة شىء آخر غير الدين والإيديولوجيا، هل ينتهى الصراع بين العرب وبين دولة إسرائيل، التى قامت على أساس دينى وعنصرى فتفكك إسرائيل نفسها وتلتحق بأوربا وتصبح جزءا منها على اعتبار تقاربها الثقافى والجنسى مع الأوربيين أم ماذا؟ أم هل سينتهى الصراع بين الهند وباكستان على أساسه الدينى الذى يعود إلى تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين فى أواخر الأربعينات؟ أولن نشهد من الآن فصاعدا صراعات بين الدول التى تنتمى إلى ثقافة واحدة كما هو الوضع بين الفييتنامَيْن والكوريتَيْن، وبين إيران والعراق، بل بين العراق والكويت، وبين الجزائر والمغرب... إلخ؟ أولن نرى بعد ذلك صراعات داخل الوطن الواحد كما هو الحال فى الصراع بن الدولة والباسك فى إسبانيا، أو بين الجنوب والشمال فى السودان، أو بين السود والبيض فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو بين المواطنين الأصلاء وبين المتجنسين والمهاجرين فى فرنسا، أو بين الكاثوليك والبروتستانت فى المملكة المتحدة البريطانية، أو بين المسلمين والنصارى فى الفيليبين، أو بين المتدينين والمستغربين فى بعض الدول العربية والإسلامية أو بين الشعب والحكومة فى الدول الاستبدادية أو بين اليمين واليسار داخل الأمة الواحدة؟ أولن تقوم من هنا إلى يوم القيامة صراعات وحروب بين الدول بسبب العوامل الاقتصادية كالحصول على البترول والمواد الخام الأخرى بأسعار زهيدة أو بلا أسعار على الإطلاق إن أمكن، وتصريف المنتجات الوطنية فى الأسواق العالمية؟ أونفهم من هذا أنه لن تكون هناك أطماع بشرية مالية فى الحال والمآل؟ أما أنا فلا أظن ذلك، ولا أظن أن الإنسان سوف يتغير كثيرا من هذه الناحية، ولسوف تظل الصراعات تشتعل بين الدول لأسباب مختلفة لا تقتصر على العامل الثقافى أو الحضارى وحده. ثم إن الصراعات الثقافية ليست شيئا مجردا، بل عناصر متعددة تتجسد فى تلك الأشياء التى ذكرتها هنا وأشباهها، أما القول بغير ذلك فلا أستطيع أن أفهمه، فضلا عن أن أقتنع به! كذلك فإن القول بالصراعات وحدها، أيا كان لونها، هو قول ناقص، إذ الحياة كما تقوم على الصراع حتى فى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد، بل حتى داخل النفس البشرية الواحدة، فإنها تقوم أيضا على التعاون والتكامل الذى تشهد العلاقات بين الدول والأمم ضُرُوبًا كثيرةً ومتنوعةً منه. وليس شرطا أن يتم التعاون بين البشر بغية أهداف مثالية، بل قد يكون ذلك بحكم الضرورة والواقع: فدولة تنتج شيئا لا تنتجه غيرها، وهذه تملك شيئا لا تملكه تلك، فتتبادلان ما ليس عندهما بالذى عندهما. وفى القرآن الكريم حديث عن التدافع، ولكن فيه أيضا دعوة حارة إلى توخِّى التعاون على البر والتقوى. بل كثيرا ما تضطرنا دنيا الواقع اضطرارا إلى ذلك التعاون حتى لو لم نكن بررة أتقياء، وإلا توقفت الحياة أو صارت صعبة مُعْنِتة فى أقل الأحوال. ونحن الآن نرى بأم أعيننا ونسمع بأم آذاننا الدول الغربية تطالب الحكومات العربية والإسلامية بالتعاون معها على مكافحة ما يسمونه: "الإرهاب"، والمقصود به الجماعات والهيئات الإسلامية التى تنهص بأعمال الخير أو تقاوم المشروع الأمريكى فى استذلال المنطقة واستعبادها، وهى جماعات وهيئات تنتمى إلى نفس الثقافة التى تنتمى إليها حكوماتها، ومع هذا لم يمنع الحكوماتِ المذكورةَ الثقافةُ المشتركةُ بينها وبين تلك الجماعات والهيئات من الوقوف فى ذات الخندق الذى تقف فيه الدول الغربية ذات الثقافة المخالفة لثقافة أممها. فماذا يقول هانتنجتون فى هذا؟ ونحن حين نقول ذلك لا نسوغه ولا نرضى عنه، بل نرى أنه لا ينبغى أبدا لأية دولة عربية أو إسلامية أن تمد يد التعاون إلى أولئك المجرمين ضد من يخرجون على إجرامهم ويحاولون أن يدفعوا شرورهم عن أمتهم، بل نريد فقط أن نبين للقارئ تهافت منطق هانتنجتون ومن يوافقونه على ما كتب. ولنتصور للحظة أن الصلات بين الدول لا تعرف إلا الصراع ولا تقوم إلا عليه، فأية حياة تلك يا ترى؟ إنها الجحيم بعينه! وإذا كان البشر رغم ما فى الحياة من تعاون وتعاضد لا يكفون عن الشكوى من قساوتها وأهوالها، فماذا تكون الحال لو كانت كلها صراعا خالصا وحروبا لا يهدأ لها أُوَار؟ إن هذا لأمر يبعث على الجنون.

ونصل لفرنسيس فوكوياما الأمريكى ذى الأصل اليابانى الذى يوصف بـ"الفيلسوف" ضمن أشياء أخرى. "حاجة ببلاش كده" مثل أغطية "توبس" الواقية! وهو من مواليد شيكاغو 1954م، ومتخصص فى العلوم السياسية وحاصل على درجة الدكتورية فيها. وأهم كتبه، كما هو معلوم من الفلسفة بالضرورة، كتابه: "نهاية التاريخ وآخر البشر"، وهو الكتاب الذى أثار ضجيجا وعجيجا وغبارا كثيفا حين ظهر فى 1992م وزعم فيه أن التاريخ قد توقف عند الليبرالية الغربية ولن يبارحها إلى الأبد. لماذا يا مستر فوكوياما؟ لأن الاتحاد السوفييتى الذى كان يعارض المعسكر الرأسمالى الليبرالى قد انهار وانهار معه سور برلين وتوحدت الألمانيتين فى نظام واحد ليبرالى! بَيْدَ أن فوكوياما، ككل مخبول يعمى عن حجمه ويأخذه الغرور فيتأله، سرعان ما تراجع عن خيالاته المخبولة إلى القول بأن العلم مستمر لن يتوقف، ومن ثم فإن التاريخ سوف يستمر فى طريقه دون أن يتوقف هو أيضا. كتب هذا فى كتاب له آخر عنوانه : "مستقبلنا ما بعد الإنسانى". أمَا كان من الأول؟ أليس من المضحك أن يسارع الفيلسوف (أم نقول بالأحرى: "المتفلسف"؟) بالتنبؤ بما يقول إنه سوف يظل سائدا إلى أبد الآبدين؟ إنه لا يقدم على هذا العبث إلا مخبول. ولقد رأيت صورته فى بعض المواقع المشباكية فكأنى قد لمحت فى عينيه خليطا من الخبث وشىء من التخلف الذهنى. كيف؟ الله وحده يعلم! واستغربت أن يفقد كثير من البشر عقولهم ويصدقوا بسهولةٍ هذا الهراء. ولكن ماذا نفعل، ولكل ساقطة لاقطة كما يقال؟ وكما نعرف فعلماء الطبيعة يقولون إن عمر الكون يقدر بملايين السنين، فكيف يتصور فوكوياما أن بمكنته الإحاطة بمستقبل البشر كله إلى آخر الزمان؟ أقصد: إلى ما لا نهاية، لأن أمثال فوكوياما لا يؤمنون بيوم آخر تنتهى عنده الدنيا، بل يعتقدون أن حياة الأرض سوف تستمر إلى الأبد! ألا يعرف هؤلاء شيئا اسمه التواضع والتأنى ومراجعة النفس والتشكك فيما يطقّ فى أدمغتهم من أفكار شاذة مضحكة؟ ومن قال له إن الليبرالية هى غاية الحياة التى لا غاية ولا تطور بعدها؟ وهل الليبرالية أصلا هى سبيل السعادة البشرية؟ فمن يشعل كل تلك الحروب وألوان الدمار فى العالم ويستعبد البشر ويقتلهم ويذلهم ويسرق ثرواتهم ويعمل على القضاء عليهم بالسلاح النووى؟ أليسوا هم الليبراليين؟ أليس هو، وهو الفيلسوف الليبرالى، من حَرّض على غزو العراق بذريعة أنه يمتلك أسلحة نووية، وألح على هذا الغزو فى كل الأحوال حتى لو لم يثبت أنه يمتلك تلك الأسلحة؟ فإذا كان، وهو الفيلسوف الليبرالى، بهذا الإجرام والتوحش، فكيف يريدنا أن نصدق بتخريفاته المجنونة المنفلتة من عقال الفكر والرحمة والإنسانية والمتسربلة بسربال الوحشية؟ صحيح أنه عاد وأدان غزو العراق، لكن بعد ماذا؟ بعد خراب بصرة، ومعها الكوفة وبغداد وغيرها من مدن العراق الأبىّ الذى نتمنى أن تكون "نهاية تاريخ الغطرسة الأمريكية" على أيدى أبطاله بمشية الله؟ ولكن لأن الزمار يموت وإصبعه يلعب، فما زلنا نرى فوكوياما لا يرفض التدخل الأمريكى العسكرى فى الدول الأخرى التى لا تريد أن تتصرف كما يتصرف الأولاد المهذبون الذين رباهم آباؤهم على الذل والطاعة وسماع الكلام وتنفيذه دون اعتراض، وتحاول التفلفص من قبضة القوى الغربية وتبدبدب برجلها فى الأرض رافضة أن تحتسى الديمقراطية التى تسقيهم أمريكا إياها بـ"الملعقة الصينى"، أو "اليابانى" بالأحرى! على أية حال فنحن لم نكد ننسى كارل ماركس ونبوءاته العلمية جدا التى ما إن قامت الثورات الشيوعية حتى استبان لكل ذى فهم أنها نبوءاتٌ فالصو، حتى هل علينا بطلعته غير البهية السيد فوكوياما، الذى لم يتعلم الدرس وقعد هو أيضا مقعد عالم الغيب والنجوى والسر وما هو أخفى و"تنحنح للفلسفة وحَكَّ اسْتَه وتمثل الأمثالا" حسبما يقول عمنا الكبير جرير الشاعر الأموى، الذى من حسن حظ فوكوياما أنه لم يكن يعيش فى عصره، وإلا لسلقه بما يستحقه من هجاء يفضحه فى العالمين ولَلَفَتَ إليه نظر الحجاج بن يوسف الثقفى فجاء به من قفاه وخبطه على وجهه زوجا من الأقلام التمام جزاءً وفاقًا لهذه الهلوسات الزائغة وعرَّفه أن الله حق وأعاد له عقله وجعله يمشى على العجين فلا يلخبطه! لكن فوكوياما، بكل أسف، يعيش فى أمريكا بلد التقاليع والجنون رغم كل ما فيها من علمٍ وجِدٍّ وإبداعٍ، وبخاصة إذا كان المجنونُ صاحبُ التقليعة يرى فى أمريكا جبل الأولمب الذى كانت تسكنه الآلهة فى سالف الدهر السحيق، ويرى فى الأمريكان أولئك الآلهة أنفسهم! وإذا كانت أمريكا قد رَسَّمت "المآبين" بطارقةً، فهل يُسْتَغْرَب أن تظهر فيها فكرةٌ شاذةٌ كهذه الفكرة الفوكويامية؟ وها هم حكام أمريكا الحاليّون ينقلبون على لُبّ لُبَاب الديمقراطية ويحاولون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فيأخذون الناس فى بلادهم بكثير من القيود والعنت معيدين ما عرفه الأمريكان من ترويعٍ مكارثىٍّ فى خمسينات القرن المنصرم. فإذا كان هذا يحدث بين الأمريكان أنفسهم، فكيف يضمن فوكوياما أن البشر من هنا إلى ما لا نهاية لن يزيغوا عن صراط الديمقراطية المستقيم؟ أم تراه يقول بأن الأمريكان والأوربيين بوجه عام سوف يتحكمون فى عقول الناس وقلوبهم وضمائرهم بحيث لا يفكر أحد من خلق الله فى غير الليبرالية؟ لكن من يضمن لنا ذلك؟ ومن يضمن بالذات أن غير الغربيين سوف يقبلون هذا الوضع وأنهم لن يثوروا عليه أو على الأقل: لن يتحمسوا له ببلادتهم المعهودة وكراهيتهم الفطرية (حسبما يظن الغربيون) للديمقراطية والليبرالية، ومن ثم لا ينجح؟ وهل الغربيون أنفسهم قد خَلَوْا من العيوب وتحولوا ملائكة أبرارا أطهارا لا يشغلهم ولا يؤرق بالهم فى يقظتهم ومنامهم إلا التفكير فى مصلحة عباد الله والعمل بكل وسيلة على دَمْقَرَتهم وعدم خروجهم على النص الليبرالى؟ يا سلام سَلِّمْ على شرباتك يا فوكوياما؟ أضحكتنى والله فى زمنٍ عَزّ فيه الضحك على العرب والمسلمين! وهذا الذى قلناه هنا عن هؤلاء الكتاب قد اعتمدنا فيه على المعلومات الموجودة فى المواد الخاصة بهم وبكتبهم فى "الويكيبيديا" وغيرها من الموسوعات والدراسات التى تعرضت لهم ويجدها القارئ منشورة فى المواقع المشاكية المختلفة، فيُرْجَع إليها لمزيد من التفصيل والتحليل.
على أن كلام الدكتور مصطفى عبد الغنى عن تحوّل المستشرق التقليدى إلى خبير إستراتيجى يتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية منها بالذات قد يُوهِم العجلان غير الملمّ بأطراف الموضوع أن المستشرق التقليدى كان رجلا طيبا ينصرف إلى العلم دون التورط فى مثل ذلك التعاون الشرير. بيد أن الواقع يقول شيئا آخر غير ذلك، إذ كان هناك مستشرقون كثيرون يقومون بنفس تلك الأدوار الدنسة. بل إن عمل المستشرقين التقليديين فى الحقيقة كان بوجه عام أخطر وأشد تدميرا، فقد كان همهم كلهم تقريبا إثارة التشكيك بكل طريق فى ماضينا وديننا ورموزنا وإنجازاتنا، وإفقادنا ثقتنا بأنفسنا تمهيدا لزعزعة بنائنا النفسى والاجتماعى والسياسى والعقيدى، حتى إذا حلت اللحظة المرتقَبة من جانبهم أَلْفَوْا كل شىء منهارا، أو على وشك الانهيار، فدخلوا الديار والأوطان دون جهد كبير أو خسائر ذات قيمة وعاثوا فيها الفساد كله. ولدينا "دائرة المعارف الإسلامية" التى تَضَافَر على كتابتها عُتَاة المستشرقين على مدى عشرات السنين وأودعوها خلاصة الفكر الاستشراقى فلم يَذَرُوا شيئا مما يخصنا إلا وشككوا فيه، باحثين فى الزوايا والأركان المظلمة عن أى شىء يستندون إليه لخلق تلك الشكوك، تاركين الروايات الوثيقة التى يعرفها كل إنسان إلى روايات شاذة لا يقول بها أحد يستحق الاطمئنان أو الاحترام، وفاصلين العبارات عن سياقها كى تعنى شيئا آخر غير ما تعنيه فى الحقيقة، ولاجئين إلى التخيلات والإيهامات الإبليسية بدلا من حقائق التاريخ التى لا يخر منها الماء، وهو ما أثبتُّه على مدار عدة مئات من الصفحات فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل". وهم فى هذا كله لا يتعففون عن الكذب إذا اقتضى الأمر كذبا، أو يلوون النصوص عن معناها المستقيم، أو يترجمونها بما يفيد هدفهم ويوصلهم لغايتهم. فكيف يمكن أن يتصور عاقل أن المستشرق التقليدى كان أكثر عدلا وإنصافا أو أكبر نصيبا من الإنسانية فى التعامل معنا والنظر إلى حضارتنا؟ لا نكران أنه كان هناك ولا يزال طائفة من المستشرقين لم تفقد الحس الإنسانى، بل تحترم العلم ومنهجه وتتعامل معنا برجولة وإخلاص، إلا أن نسبة هذا الصنف الرجولى منهم قليلة. ذلك أن الغربى، بوجه عام، لا يرى فى الوجود إلا نفسه وإلا الأمم التى ينتسب إليها. وقد كنت أقرأ منذ يومين كتاب "الحضارة" للدكتور حسين مؤنس، وكان رحمه الله متزوجا بالمناسبة من سيدة أوربية، فكان فى كل مناسبة يلح على هذا المعنى مبيّنا أنهم هكذا كانوا قديما، وهكذا هم حاليا، وأن كل ما ينادون به من قيم ومبادئ إنما هو للاستهلاك الداخلى، أى لهم هم أنفسهم ولا يصح تصديره إلى الخارج، فهم قوم أنانيون متكبرون، لا ينجو من هذا العيب إلا القليل منهم بما فيهم كبار مفكريهم وفلاسفتهم وعلمائهم ورجال دينهم (انظر مثلا ص 261- 262، 267، 295- 296، 298- 305 من طبعة "عالم المعرفة" من الكتاب المذكور).

وهذا الذى يقوله الدكتور مؤنس يقوله كل من احتك بالحضارة الغربية وبَشَرها وعرفهم واطلع على خباياهم رغم عدم نكراننا لما فيهم من فضائل، إلا أنها فى الغالب فضائل لا ينعم بها إلا هم، فهى فضائل غير قابلة للتصدير كما قلنا. ولا بأس أن نستشهد فى هذا السياق بكلمة لسيد قطب تدور فى ذات المدار وتقول نفس الكلام على رغم الشُّقّة الواسعة التى تفصل بين مؤنس وقطب. يقول المرحوم قطب، والكلمة منقولة عن مقال د. محمد عباس: "الإخوان المسلمون آخر سدٍّ عالٍ، وبانهياره تنهار الأمة" الموجود على موقعه المشباكى: "وكلهم سواء أولئك الغربيون: ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها "الديمقراطية" يؤمن بها المخدوعون! تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين. فها هي أمريكا تتكشف للجميع. هذا هو ترومان يكشف عن "الضمير الأمريكاني" في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن لا يثق به إلا المخدوعون! إنهم جميعًا يَصْدُرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس... يقول نبي الإسلام الكريم صلى الله علي وسلم: "لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين"، وها نحن نُلْدَغ من الجحر الواحد مرات ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه مغمضي الأعين نتطلب "الشهد" من جحور الأفاعي، ولا نجرب مرة واحدة أن نحطم هذه الجحور، وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور!".

على أن ما قلته هنا عن موقف الغربيين منا إنما هو كلام عام منا عن موقفهم العام منا، فلندلف إذن إلى أمثلة خاصة محددة يتعاون فيها المستشرق التقليدى مع القوى الاستعمارية الشريرة التى تعمل وما زالت على تحطيمنا بل إفنائنا إذا ما استطاعت، فنراه يستعمل أساليب الدعاية الباطلة ويكذب ويلجأ إلى كل وسيلة باطلة لتشتيت عقول الجماهير العربية والمسلمة ويتجسس وينخرط فى القوات العسكرية ويدل قومه على مواضع عوراتنا ويبصرهم بالوسيلة التى تكفل لهم تدميرنا وسحقنا: فمن ذلك على سبيل المثال شيخ الضلال والكفر، كبير المستشرقين الفرنسيس فى أيامه سلفستر دى ساسى، الذى كان يتعاون مع حكومة بلاده فى مشاريعها الاستعمارية ضد المسلمين، إذ رافق الحملة الفرنسية على مصر، وكان يترجم البيانات الفاجرة التى نشرتها عند دخولها أرض الكنانة عام 1797، وكذلك عند احتلال فرنسا للجزائر بعد ذلك ببضعة عقود (قاسم السامرائى/ الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية/ دار الرفاعى/ الرياض/ 1403 هـ). كما استعان به جاك مينو القائد الثالث والأخير لتلك الحملة حين عاد إلى فرنسا بعد فشلها نهائيا وخروجها مدحورة من أرض الكنانة، ومعه زبيدة زوجته المصرية الرشيدية المسلمة التى وضعت طفلهما بعد أيام من تلك العودة وأراد هو تعميده بوصفه طفلا نصرانيا بعد أن كان هو نفسه قد ارتد إلى الكفر مرة أخرى، والعياذ بالله، وظهر على حقيقته ورمى العمامة التى كان يلبسها فى مصر واستبدل بها القبعة، ونبذ اسمه الذى كان قد انتحله أيام إعلانه الإسلام فى مصر، وهو اسم "عبد الله"، ورجع إلى اسمه الأول: "جاك"، فأبت فى البداية، لكنه حاول أن يقنعها أن الأديان جميعا واحدة، وأن العبرة بالعمل الطيب، وأن هذا هو ما يقوله دينها نفسه، إلا أنها تشبثت بموقفها... إلى أن أرسل فى طلب دى ساسى، الذى جاء وخدعها مفهما إياها أن الإسلام يقول ذلك فعلا، والدليل هو قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة/ 62). وبهذا استغفلها ذلك الثعبان الأرقط وضحك على عقلها مستغلا قلة إلمامها بدينها، وظل وراءها بعد ذلك يخادعها حتى ليقال إنها خرجت هى أيضا من الإسلام وهى لا تدرى أن ما قاله لها ساسى كذب فى كذب وأن من يكفر بأى نبى من الأنبياء فهو كافر فى نظر الإسلام وتحرم عليه الجنة، فما بالنا بالكفر بمحمد والارتداد عن دينه إلى دين الصليب والتثليث مما حمل عليه القرآن وأحاديث النبى حملة شعواء لا تترك خرم إبرة لأى مخادع كى يزعم أن الأديان الأخرى بعد بزوغ شمس الإسلام تتساوى معه فى إدخال صاحبها الجنة؟ وحتى لو وافقناه جدلا على هذا السخف، فلم كان عليها أن تترك الإسلام وتدخل النصرانية ما دامت جميع الأديان واحدة؟ ثم لماذا انتحل هو الإسلام عندما كان فى مصر ورماه بعد أن عاد إلى بلاده إذا كان الأمر كما يقول؟ ولكن ماذا نقول فى خنازير الاستعمار والاستشراق وخبثهم وانحطاط أخلاقهم؟ (انظر رفاعة رافع الطهطاوى/ تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ وزارة الثقافة والإرشاد القومى/ القاهرة/ 1958م/ 101- 102 حيث يروى رفاعة قصتها وتغرير دى ساسى بها مع ألمه الشديد لما حصل، حاكما بالكفر على من يرتد عن الإسلام، ومؤكدا أن كل دين سواه هو دين باطل).

هذا، وأجب أن أفترص هذه الفرصة فأبين موقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى الذين زعم جاك مينو وسلفستر دى ساسى أنهم داخلون الجنة فأقول: أما قوله تعالى الذى استشهد به ذانك الكذابان المراوغان على أن اليهود والصابئين والنصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا يعنى أن أولئك الأقوام داخلون الجنة حتى لو بَقُوا على أديانهم المنحرفة، بل يعنى أن الباب فى الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعا للإيمان بدعوة محمد والنجاة من ثمّ فى الآخرة حتى لو لم يكونوا من العرب الذين آمنوا فى البداية بمحمد، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلا. ولهذا نجد أن الإسلام قد علَّق تلك النجاة على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (المائدة/ 69). وفى البقرة آية أخرى مشابهة لهذه هى الآية 62. والإيمان بالله واليوم الآخر لا يصحّ إلا إذا آمن الشخص بجميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم، بل وعلى رأسهم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح من الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا" (النساء/ 150- 151)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدِّقُ الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها. والذين يُؤْمِنون بالآخرة يُؤْمِنون به، وهم على صلاتهم يحافظون" (الأنعام/ 92)، "قال: عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كل شىء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبِعون الرسولَ النبىَّ الأُمّىَّ الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويُحَرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصَروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/ 156- 157)، وغير ذلك. وما من مرة أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب إلا كان بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء يَبْغُون منا أن نقرأ النصوص القرآنية بقلوب مريضة وعيون عمياء، لكن كيف يبصر الأعمى ومن فى قلبه مرض؟ وعلى هذا ينبغى أن نقرأ كتاب الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين. وإذا دقق القارئ فى الطريقة الترقيمية التى كُتِبَتْ بها الآية السابقة فسوف يتضح له ما أقصد. ونستطيع أن نعيد كتابتها بطريقة ترقيمية أخرى كى تزداد الأمور اتضاحًا: "إن الذين آمنوا (والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أى المسلمين، وهم الطائفة المذكورة فى بداية الكلام، إذ هم مؤمنون فعلا، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا قبلا من خلال آيات القرآن الكريم.

كذلك أذكر أنى قرأت فى نهاية سبعينات القرن الماضى فى أكسفورد كتابا من تأليف شاب فرنسى تظاهر بالإسلام ليقترب من خلاله إلى الأمير عبد القادر الجزائرى أيام جهاده ضد الاستعمار الفرنسى ويحصل منه على رسالة تزكية بغية تقديمها إلى علماء المسلمين فى بعض البلاد العربية من أجل الحصول على فتوى تفيد مجرمى المستعمرين الفرنسيس. حتى إذا حصل على ما يريد من الفتوى المنشودة ارتد إلى الكفر الذى كان عليه. وكان عنوان الكتاب، إذا كان لى أن أعتمد على ذاكرتى بعد كل تلك السنين، هو "عشرة أعوام فى الإسلام" أو شيئا من هذا القبيل.

ومن المستشرقين الذين وضعوا أيديهم مباشرة فى يد القوى الاستعمارية المجرمة أيضا المستشرق البريطانى إدوارد هنرى بالمر مترجم القرآن الكريم الذى كان يعيش فى القرن التاسع عشر والذى وضع نفسه، قبيل غزو الإنجليز لمصر فى أول ثمانينات ذلك القرن، تحت أمر الاستخبارات الإنجليزية لتجنيد البدو السينائيين وإغرائهم بخيانة عرابى والخروج عليه والانضمام إلى قوات الاحتلال البريطانى وتسهيل مهمة احتلالها أرض الكنانة، بوصفه خبيرا استشراقيا بسيناء وجغرافيتها وتاريخها وسكانها وصاحب علاقات واسعة مع الناس هناك. وقد استطاع ذلك المجرم فعلا أن يكسب إلى صفه بالمال السحت عددا من مشائخ القبائل الخونة، لكن انتهى به المطاف إلى أن اغتيل هو وعدد من أولئك الخائنين، لعنة الله عليه وعليهم وعلى كل خائن أمس واليوم وغدا، وألقيت جثثهم المنتنة من فوق الجبل إلى الوادى السحيق، سحق الله عظام كل كلب فى نار جهنم. ويجد القارئ حكاية هذا الخنزير النجس بشىء من التفصيل فى الترجمة الخاصة به فى "موسوعة المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى، وقد نقلها بدوره عن كتاب "مقالات شرقية" للمستشرق البريطانى المعروف آرثر جون آربرى، الذى قال تعقيبا على نهاية مواطنه ورصيفه المجرم الغدار إنه يؤمن "بكل قوة ورسوخ أن المهمة الحقيقية للعالم هى العلم وليس السياسة"، ولذلك لم ير فيما حدث لبالمر شيئا غير مستحق حسبما ذكر بدوى فى نهاية ترجمة بالمر (انظر الحكاية كاملة ص 69- 71 من "موسوعة المستشرقين"/ ط3/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1993م). وبالمناسبة ففى مكتبتى الخاصة نسخة من ترجمته للقرآن، وكذلك نسخة من ترجمة آربرى أيضا، اشتريتهما وأنا أدرس فى أكسفورد للحصول على الدكتورية فى النصف الأخير من سبعينات القرن الماضى. وبالمناسبة أيضا هناك على المشباك جزء من كتاب آربرى الذى يترجم فيه لبالمر، ومنه صفحات غير قليلة من هذه الترجمة كنوع من الدعاية المغرية للقراء بشراء الكتاب، إلا أن الصفحات الأخيرة منها، وهى التى تهمنا هنا، للأسف غير موجودة.

والمضحك أن آربرى الذى ينتقد بالمر لنشاطه السياسى اشتغل هو أيضا فى ذلك المجال ولنفس الغاية، ألا وهى التمكين للاستعمار البريطانى فى بلاد الشرق العربى والإسلامى. وقائل هذا هو الدكتور بدوى نفسه فى ترجمته له بموسوعته التى نحن بصددها الآن، إذ قال: "لما قامت الحرب العالمية الثانية فى أول سبتمبر 1939 انتُزِع آربرى من أعماله العلمية المفيدة ونُقِل إلى قسم الرقابة على البريد التابع لوزارة الحرب فى ليفربول، فأمضى فيه ستة أشهر نُقِل بعدها إلى وزارة الإعلام فى لندن، فبقى فى هذا العمل طوال أربع سنوات يصدر بنفسه أو مع غيره منشورات لا نهاية لها للدعاية البريطانية فى الشرق الأوسط باللغتين العربية والفارسية. بل إنه ظهر فى فلم للدعاية البريطانية" (ص 6 من الموسوعة المذكورة). وإلى نشاطه هذا اكتفت "الموسوعة الإيرانية" فى المادة التى خصصتها له بالإيماء مجرد إيماء دون أن تدخل فى أية تفاصيل.

وممن ينبغى ذكرهم هنا فى هذا السياق العفن المستشرق الهولندى سنوك هرخرونيه، الذى حصل على الدكتورية فى 1879م برسالته عن شعائر الحج فى الإسلام زاعما أن تلك الشعيرة هى بقية من بقايا الوثنية الجاهلية، ثم اشتغل فى أندونيسيا بدءا من عام 1891م مستشارا للسلطات الاستعمارية الهولندية للشؤون الإسلامية باذلا كل جهده فى التمكين لتلك السلطات فى استغلال أهل البلاد ووضع الخطط التى تساعدها فى التنكيل الوحشى بمن يثور منهم طلبا للاستقلال، وهو مما ترتب عليه قَتْل ما بين خمسين ألفا ومائة ألف من الأندونيسيين وجَرْح نحو مليون منهم فى إحدى الحروب بينهم وبين المحتلين الهولنديين.
وهناك كذلك المأبون المسمَّى كذبا وبهتانا: "لورانس العرب"، بمعنى "صديقهم والعامل من أجل مصلحتهم"، ذلك الذى أشعل الثورة فى بلاد العرب ضد الأتراك موهما الزعماء والقبائل الذين التفوا حوله بأنه يسعى إلى تخليصهم من النير العثمانى وإعادة مجدهم التالد عن طريق إقامة دولة عربية يحكمون أنفسهم فيها بأنفسهم. وما إن نجحت الثورة فى القضاء على نفوذ الترك حتى ظهر المستور وقُسِّمت الدول العربية فى الشام ما بين الاحتلال البريطانى ونظيره الفرنسى، وشرب العرب مقلبا لم يشربوا مثله من قبل. وهم، بحمد الله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه، لم ينفطموا حتى الآن عن عادتهم فى شر المقالب رغم وضوح التآمر لكل من له عينان، وكذلك لكل من ليست له هاتان العينان.

ثم عندنا أيضا لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسى الذى انخدع وما زال ينخدع فيه البعض فيظنون أنه من محبى العرب والمسلمين، حتى إن الكاتب والمحامى المعروف محمد لطفى جمعة، الذى كان يعرفه معرفة شخصية ويتبادل معه الرسائل، ظن يوما أنه قريب جدا من الإسلام وأنه يبذل جهوده فى خدمة ذلك الدين، مما اضطرنى فى تقديمى لكتاب جمعة: "حوار المفكرين" (عالم الكتب/ 2000م/ 51- 54) أن أقول ما أعرفه عنه من أنه كان يشتغل فى الاستخبارات الفرنسية فى بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الثانية (كولونيلاً فيما أذكر) بغية تجنيد العرب هناك لنصرة الاستعمار الفرنسى موزِّعًا المال المسروق منهم فى إغواء خَوَنتهم المستعدين لبيع ضمائرهم المسوَّسة النخرة والتعاون مع أعداء بلادهم ودينهم لقاء عَرَضٍ من الدنيا تافهٍ حقيرٍ مثلهم. وهذا ما قاله الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه المسمَّى: "رؤساء لبنان كما عرفتهم"، وهو مذكور فى فصل عنوانه: "الصندوقجى كان اسمه ماسينيون" (ص 211- 254 من الكتاب المذكور/ منشورات المكتب التجارى/ بيروت/ 1961م). كذلك جاء فى كتاب القس القبطى المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد: "المستشرقون والمبشرون فى العالم العربى والإسلامى" (مكتبة الوعى العربى/ 73- 74) أن ماسينيون كان يشتغل مستشارا لوزارة المستعمرات الفرنسية فى شؤون شمال إفريقية والراعى الروحى للجمعيات التبشيرية الفرنسية فى مصر، وهو ما يقوله أيضا لطفى حداد كما سنرى بعد قليل، بالإضافة إلى ما ذكره الكاتب الجزائرى مالك بن نبى، من واقع تجربته الشخصية فى فرنسا أيام أن كان يطلب العلم هناك، وذلك فى كتابه: "مذكرات شاهد القرن" عن دور الرجل فى اصطياد الطلاب الجزائريين فى فرنسا.

هذا، وأحب أن أزجى إلى القارئ هذه الكلمة السريعة عن الرياشى، وهى لصاحب دار "أطلس للنشر والتوزيع" ناشر الطبعة الجديدة من كتاب "رؤساء لبنان" المذكور آنفا، ويجدها القارئ فى موقع "أدب وفن": "إسكندر رياشي "البلاي بوي" الأنيق، سمسار الفرنسيين وعميلهم باعترافه، لاعب القمار مع كبار السياسيين، والآكل على موائدهم، ومشاركهم في حفلاتهم "الرومانية" الصاخبة وصفقاتهم، والشاهد على فضائحهم الجنسية كان أفضل مؤرخ لتلك الحقبة من تاريخ لبنان الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنة 1958 وتبوُّء الرئيس الراحل فؤاد شهاب سدّة الحكم في لبنان. الفرق بين رياشي وسواه من أبناء عصره أنه كان حراميا "جنتلمان"، في حين كان معظم أترابه من سياسيين وصحافيين حراميين حاف". وواضح أن الرياشى كان متين الصلة بالفرنسيين ونشاطاتهم فى المنطقة، ومعنى ذلك أنه حين يتحدث عن ماسينيون وجهوده فى ميدان الاستخبارات والمؤامرات الاستعمارية وما إلى ذلك فإنما يتحدث حديث العارف المعايش لا حديث السامع من بعيد. وإنصافا لمحمد لطفى جمعة أرى من واجبى الإشارة إلى أنى وجدته بعد ذلك قد تراجع عما كان قاله فى ماسينيون وأبدى تحفظاته فيه.

ويقول لطفى حداد عنه فى مقال له بعنوان "لويس ماسينيون: مسلم على مذهب عيسى" المنشور بموقع "عشاق الله": "يُعْتَبَر لويس ماسينيون 1883 – 1962 من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم، وقد شغل عدة مناصب مهمة كمستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر"، ثم يضيف قائلا إن "ارتباطاته الفرنسية قد جعلته موضع شبهة، فهناك الكثير من الآراء السلبية عنه وعن تصرفاته وأقواله... أما ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميين فهو مثار جدل، وقد يكون حقيقيا".

والغريب أننا، بعد هذا كله، لا نزال نجد كلاما كالكلام الآتى عن الرجل، وصاحبه هو أحمد عبد الحليم عطية، الذى ألقاه ضمن بحث له فى ندوة عقدتها كلية الآداب بجامعة القاهرة بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون والجمعية الفلسفية المصرية في الأيام من 13-15 آذار 1999م، والذى يقول فيه عن ذلك المستشرق إنه "ليس مجرد مستشرق منصف فحسب، محب للعرب والمسلمين مدافعا عنهم مناصرا لقضاياهم، بل هو الصوفي الروحاني. ويمكن القول، ربما مع شيء من التجاوز، إن صورته لدى غالبية الأساتذة العرب المعاصرين في مجال الدراسات الإسلامية، هي صورة الباحث المتوحد بموضوعه المخلص له. والموضوع الذي أخلص له هو الإسلام وتجلياته المختلفة وصولاً إلى الواقع الإسلامي المعاش الذي جاب معظم بلدانه وأتقن عددا من لغاته: العبرية والفارسية والتركية، وصادق الكثير من علمائه. ارتبط ماسينيون بعلاقات واسعة مع عدد من العلماء والباحثين العرب والمسلمين، وقد ملك قدرة كبيرة جدا وجذبهم إليه وتحول حبهم وعونهم له إلى علم ومعرفة. وكان الدين الإسلامي الإبراهيمي هو الموضوع الذي عاش به ومن أجله دارسا منقبا وباحثا متحريا بل وصوفيا عاشقا، فهو العاشق لتجلي المطلق عبر ديانات التوحيد، ومنها الإسلام. إن هذا الحب الصادق الذي عاش به ومن أجله للإسلام جعل كثيرا من الباحثين يصلون إلى قناعة في صدق حبه للإسلام، فقال أحد الباحثين بأنه يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك وأثبته مرات متعددة في كتبه، ويؤمن بالوحي والقرآن حتى أذاع عنه بعض عارفيه أنه اعتنق الإسلام. ولكن الحقيقة أنه لم يفعل ذلك جهارا، ولكن أحاديثه تدل على كثرة اشتغاله بأدق مسائل الإسلام" (نقلا عن مقال "ماسينيون والشيبي: اقتلوني ياثقاتي، إن قتلي حياتي: يوميات متأخرة للشيخ الفرنسي في بغداد" لطالب مهدي الخفاجي، والمقال منشور بمجلة "ألف ياء" المشباكية).

ويمكننا أيضا أن نذكر فى هذا السياق باول كراوس المستشرق اليهودى التشيكوسلوفاكى الأصل الذى هاجر إلى فلسطين وعاش فى إحدى المستوطنات المبكرة هناك وتعلم فى المدرسة والجامعة فيها مشاركا فى اغتصاب الأرض المقدسة من أصحابها العرب والمسلمين بإجرام وتوحش ونذالة، والذى عُيِّن رغم ذلك كله أستاذا فى الجامعة المصرية فى 1936م بفضل طه حسين، الذى كان عميدا لكلية الآداب آنذاك! وهى "مأثرة" من "مآثر" الدكتور طه حبيب الصهاينة والصليبيين الحميم تسجَّل له فى صحائف العار والشنار الخالدة! وقد انتهت حياة هذا المجرم قتلاً فى سبتمبر 1944م: انتحارا حسبما يقول أحد المقربين إليه آنذاك، وهو د. عبد الرحمن بدوى، الذى فسر وجوده مشنوقا بشقته فى الزمالك بالقاهرة بأنه كان، فيما يبدو، عضوا بعصابة شتيرن اليهودية الإرهابية التى كانت تشيع الرعب فى قلوب الفلسطينيين وتغتالهم وتدمر مزارعهم وبيوتهم كى تكرههم على النزوح من ديارهم فيخلو الجو لليهود المغتصبين ويقيموا دولتهم على تراب مسرى نبينا محمد، وأنه قد كُلِّف باغتيال اللورد موين، الذى كان اليهود يَرَوْن فيه حجر عثرة فى سبيل أطماعهم فى فلسطين فصمموا على اغتياله وأسندوا تلك المهمة إلى كراوس، إلا أنه آثر أن ينتحر على أن ينفذ عملية الاغتيال فيُعْدَم كما هو متوقع. هذا تفسير الدكتور بدوى، وهو تفسير غير مقنع بالمرة، إذ إن القبض على كراوس إذا قام بعملية الاغتيال وإعدامه ليس إلا مجرد احتمال مهما تكن قوته، بخلاف الانتحار، فإنه موت أكيد. كما كان من الممكن لكراوس أن يقوم باغتيال موين ثم ينتحر إذا صح تفسير بدوى، وبهذا يكون قد جمع بين الحُسْنَيَيْن، أو بوجهٍ أَحْرَى: بين السُّوأَيَيْن، لعنة الله على الجميع من مجرمين عتاة لا يرقبون فى العرب والسلمين إلاًّ ولا ذمّة. وأيا ما يكن الأمر فقد كان الرجل، على ما تفيد شواهد الحال وتفسير صديقه عبد الرحمن بدوى، الذى كان تلميذا من تلاميذه فى الجامعة المصرية آنذاك، مرتبطا بالعصابات الصهيونية الإجرامية القاتلة ومنغمسا فى النشاطات السياسية والعمل السرى القذر خدمةً لقومه بنى صهيون (انظر "موسوعة المستشرقين"/ 466- 467 فى آخر الصفحات المخصصة لترجمته).

ويؤكد د. مازن بن صلاح مطبقاني، فى مقال له منشور على المشباك عنوانه: "الاستشراق"، كل ما سبق ذكره عن المستشرقين بعامّةٍ قائلا: "لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية التوسعية للدول الغربية، فقد سار المستشرقون في ركاب الاحتلال. وهم، كما أطلق عليهم الأستاذ محمود شاكر رحمه الله، "حملة هموم الشمال المسيحي، فقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمـارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المحتل والمستشرق، فقد كان كثير من موظفي الاحتلال على دراية بالشرق لغةً وتاريخًا وسياسةً واقتصـادًا. وقد أصدر، على سبيل المثال، مستشرق بريطاني كتابا من أربعة عشر مجلدا بعنوان "دليل الخليج الجغرافي والتاريخي". وكان موظف الحكومات المحتلة لا يحصل على الوظيفة في إدارة الاحتلال ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.

واستمر الارتباط بين الدراسات العربية الإسلامية وبين الحكومات الغربية حتى يومنا هذا بالرغـم من أنه قد يوجد عدد محدد جدا من الباحثين الغربيين دفعهم حب العلم لدراسة الشرق أو العالم الإسلامي. ومن الأدلة على هذا الارتباط أن تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجـامعة لندن قد أُسِّسَت بناءً على اقتراح من أحد النواب في البرلمان البريطاني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الحكومة البريطانية أن نفوذها في العالم الإسلامي بدأ ينحسر، فكان لا بد من الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية، فكلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية برئاسة الإيرل سكاربورو لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية. ووضعت اللجنة تقريرها حول هذه الدراسات وقدمت فيه مقترحاتها لتطوير هذه الدراسات واستمرارها. وفي عام 1961 كونت الحكومة البريطانية لجنة أخرى برئاسة السير وليام هايتر لدراسة هذا المجال المعرفي، وقامت اللجنة باستجواب عدد كبير من المتخصصين في هذا المجال، كما زارت أقسام الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وفي عشر جامعات أمـريكية وجامعتين كنديتين. وكانت زيارتها للولايات المتحدة بقصد التعرف على التطورات التي أحدثها الأمريكيون في هذا المجال، وكان ذلك بتموين من مؤسستي روكفللر وفورد.

ومما يؤكد ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بالأهداف السياسية الاحتلالية رغم انحسار الاحتلال العسكري أن الحكومة الأمريكية موّلت عددا من المراكز للدراسات العربية الإسلامية في العديد من الجامعات الأمريكية، وما زالت تمول بعضها إما تمويلاً كاملاً أو تمويلاً جزئيًّا وفقا لمدى ارتباط الدراسة بأهداف الحكومة الأمريكية وسياستها. كما يستضيف الكونجرس، وبخاصة لجنة الشؤون الخارجية، أساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية لتقديم نتائج بحوثهم وإلقاء محاضرات على أعضاء اللجنة. كما ينشر الكونجرس هذه المحاضرات والاستجوابات نشرا محدودا لفائدة رجال السياسة الأمريكيين".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى