المثاقفة وغربة المثقف العربي

يقول موريس غودلييه وهو انتروبولوجي فرنسي يهتم ّبالفلسفة الماركسية : ( إن البشر على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى حياتهم ليست مجرد حياة في مجتمع وإنما هم ينتجون المجتمع ليعيشوا فيه )

ويتفق علماء الأنتربولوجيا إن المشكلة المحورية في مباحثهم هي تنوع الحياة الاجتماعية للبشر ،لذلك فإن السؤال كيف نترابط مع بعضنا بعضا في مجتمع تتعدد فيه التفرقات والتباينات ؟ هو سؤال مشروع وهل نجيز إعادة صياغة السؤال ولا سيما أننا نعيش في مجتمع متجانس – إلى حدج ما – في كثير من مكوناته لكنه متباين ثقافياً ولكون الترابط والتثاقف مفهومين متوازيين يخدم كل منهما الآخر ويمهد له .
فأعتقد أن السؤال الذي يتحدى علماء الإنسان كيف نتثاقف مع بعضنا في مجتمع متجانس ومتباين بآن ؟ تبايناً ثقافياً أو على الأقل يطرح نفسه على جدول أعمالنا وتمهيداً لتوضيح هذه الإشكالية أعتقد أن مقولة ( وحدة الوعي الاجتماعي ) هي مقولة نسبية إلى حد ما ولو لم تكن كذلك لما احتاج أعضاء المجتمع الواحد إلى التثاقف .
إن كانت المقولة تزعم بوحدة الوعي كنتاج عن الوجود الاجتماعي كما لدى ماركس فهي تؤسس لوحدة الثقافة فنحن جميعاً موجودون في عصر المعلوماتية لكن هل توحد وعينا وإدراكنا جميعاً لوجوده ؟إذاً ألم ترتهن لهذه النتيجة تلك المقولات الشمولية ؟ وهذه النتيجة بالطبع تضعنا أمام محنة المثقف العربي وإشكاليتيه التقليديتين الغربة والجدوى بجدليتهما الآخذة في النمو السلبي .
إن غربة المثقف العربي تخلقها وتغذيها مجموعة من العوامل منها الذاتية كنمطه التثقافي، ومرجعيته ،وسلوكيته، وطباعه ،وعاداته ،وتقاليده ، أما الموضوعية منها فتتجلى في المجتمع الذي يعيش فيه والتي تنعكس منه إليه كتركيبته الديموغرافية وثقافته ووعيه ووجوده الاجتماعي ( ونقصد بوجوده الاجتماعي درجة تطوره وحضوره وزمانه الثقافي والسياسي والاقتصادي وعوامل أخرى ) لكن كيف يتخلص المثقف من غربته هذه؟ فإن ذلك يقودنا إلى دراسة مسببات الفجوة الكائنة بين المثقف وبيئته الاجتماعية فهي برأينا تتلخص ببعض أو كل مما يلي :

1- باعتبار الإنسان الكائن المثقف الاجتماعي والأخلاقي الوحيد على هذه الأرض عليه تكريس هاتين الصفتين الإنسانيتين المرتبطتين المتلازمتين من أجل خلق مجتمع يتمتع بأخلاق متوحدة مع ثقافته ومنسجمة معها لأن انسجام الأخلاق في المجتمع هو عملية تثاقفية .

2- إعلاء شأن الثقافة بالإجابة على سؤال الإشكالية الثانية التي طرحها مبحثنا هذا ما جدوى المثقف ؟ ولا يتمّ ذلك إلا بالقراءة أولاً وبالقراءة أخيراً ( اقرأ باسم ربك الذي حلق ) وتذليل كل الصعاب التي تعترض سبل القراءة وتعوقها من سعر الكتاب إلى تعبئة جهات المجتمع ثقافياً لإعلاء شأن الثقافة والإجابة على سؤال جدوى المثقف ومن ثم توضيح علاقة المثقف بالسلطة عن طريق فك الارتباط اللامتكافئ بينهما .

3- إن السطوة التي حظيت بها الثقافة الاستهلاكية العابرة بالفضائيات لهي ثقافة هوائية صفراء لا تحل محل الكتاب ولو أنها تحقق نوعاً من الوعي الاجتماعي بشرط انسجامها وتوحدها والتزامها بأهدافها النبيلة ودفعها نحو تبني الثقافة الجادة المفيدة بدلاً من تسويق قيم القبح الثقافي كما مر آنفاً .

4- تعتبر التربية هي الإطار الموضوعي الشامل لقضية التثاقف الاجتماعي إن تم ربطها بالثقافة وتوحيد مناهجها الدراسية على مستوى الوطن العربي وعدم الاكتفاء ( بمنح التراخيص ) وقذف أعداد من أشباه الأميين خارج أسوار مؤسساتها يشكلون عالة على المجتمع وحالته الثقافية ودرجة انسجام وعيه الاجتماعي العام .

5- إطلاق يد الكفاءات الفكرية والثقافية في إنشاء دور النشر وعدم احتكارها للمؤسسات الحكومية ( كما هو الحال لدى بعض الحكومات العربية ) وكذلك الانعتاق من عقدة الأقلام الكارزمية التي باتت تجتر الفعل الثقافي وتحتكره بفوقية ووصائية فهي بذلك مهددة بانهزامها أمام النشء الثقافي الواعد ، لذا حان الوقت لاحترام هذا النشء والاعتراف به والإقرار بأهميته عبر تعميق روح الحوار على قاعدة الاعتراف بالآخر الثقافي ودوره في تكامل المشهد الثقافي العربي .

6- رفع الحواجز والحدود السياسية ( وبراميل الصحراء ) أمام الكتاب العربي والسماح له بالانتقال دون جواز سفر أو تأشيرة دخول كما دخلت الفضائيات منازلنا دون استئذان .

إن المثاقفة الاجتماعية تهدف إلى توحيد الثقافة العربية والوعي الاجتماعي العربي مع احترام حق الاختلاف لا حق الخلافات ، وشتان بين الاختلاف على الأشياء والخلاف عليها وبها , وبالتالي كل هذا كفيل بإخراج المثقف من غربته وصمته الذي ينعق بهما في واد عميق فيرجع إليه الصدى متكسراً على صخرة الجهل لأن الجاهل لا يعلم قيمة المثقف ولا يمنحه دوره وحقه ولاسيما أن المثقف العربي اليوم يعيش في مجتمع أكثر من نصف أمي سواء كانت الأمية كتابية أم ثقافية ، أليست تلك هي غربة المثقف وغربة الثقافة في المجتمع العربي ؟