الثلاثاء ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم هيثم جبار الشويلي

ذكريات رمادية

بدأت لا أطيقها بكل معانيها، أصبحت بالنسبة لي كظمآن ٍ يبحث عن الماء أو كسراب يتوارى للناظرين كأنه الماء، أبتعد كثيراً عن كل من حولي، أصبحت الدنيا مملة بالنسبة لي، وبين الحين أفكر في الموت لربما أعشقه، وأحياناً كثيرة أعشقه حتى الموت، أجل إني أعشق الموت حتى الموت، فأصبحت في نظر الآخرين كقضية مهمشة أو كأوراق ٍ على رفوف المكاتب تعشعش عليها أكوام من الأتربة وبقايا من نفايات الزمن، لم أفكر قط في نفسي يومٍ ما، لكن كان كل همي هو ما فقد مني، لم يك شيئاً مألوفاً وعادياً لكن كان بالنسبة لي كل شيء، أفتش في أوراقي القديمة التي مضى عليها أكثر من عشر سنين، صندوق صغير، كلما أنطوي وانزوي عن العالم، وأكون في عزلة من أمري، أذهب الى صندوقي الذي يذكرني بذكرياتٍ قديمة، ذكرياتي التي أوصلتني الى ما أنا عليه الآن، أغلب الناس يشيرون عليّ بالذهاب الى مستشفى الأمراض العقلية لتلقي العلاج، أو أيّ علاج ٍ نفسي يفكُ أزماتي الخانقة، لكنني أذهب إلى صندوقي لأفك عن نفسي أزمات الدهر كله... أبحث عن صورة وقصاصةٍ في أسفل الصندوق أمسكهما بيديّ، أمسح التراب عنهما، أنظر إلى الصورة أقبلها ثم أغوص معها في سبات من الكلام اللا متناهي لأعود إلى الوراء... أي عندما كنت في أوج ِ أناقتي، صورة بالأسود والأبيض، وجهها كفلقة القمر، شعرها يتدلى على كتفها كليل ٍ حالك، ملامح وجهها تتفوه بكل ما جاء بتلك القصاصة التي وجدتها ((عزيزي أحسست بإحساس ٍ غريب وكأنما شيئاُ يحاول الاقتراب من الباب، اقتربت لأرى ما يدور من أحداث ٍ خلف قضبان الباب، فوجئت عند فتحي للباب بتلك الجثة الخاوية لتسقط عليّ، وكأنها سقطت من قمة جبل شاهق إلى الأرض، أراد أن يتشبث بي بكلتا يديه، ذلك الشاب الذي أصابه السُكرُ حد الثمالة، حاولت بكل ما أتيح لي من قدرة وإمكانية أن أخلع يديه من جسدي بعد أن تشبث بي تشبث الطفل بأمه أو تشبث الهارب من الخوف، لم يك بمقدوري التخلص منه لولا أن يسعفني ذاك الدورق المصنوع من الزجاج ليستقر بأم رأسه، أحسست بعد ذلك بفتور ٍ كبير ينساب تدريجياً بيديه يساعدني على ارتخاء قميصي، تنفست الصعداء، صورة لم تكن بالحسبان تلك التي رأيتها أمامي، الدم يسري على أرضية الشقة سريان الماء على الأرض الجرداء، أرضية الشقة تحاول امتصاص الدم، أنا على موعد معك بعد ساعة من الآن أي في الخامسة إلا ربعاً، أنا لا أريد أن اظهر بتلك الصورة البائسة أمامك، لان هذه الصورة تسلب مني الأنوثة التي كانت مصدر جذب ٍ لك يا عزيزي.

لم يكن أمامي سوى علبة صغيرة من النفط الأبيض، تتخذ زاوية من زوايا الحمام ركناً لها، استقر فكري على استخدام تلك العلبة وعود ٍ من الثقاب، النار فاغرة فاها تلتهم كل ما يساعدها على الالتهام، حولت النار الجثة إلى كتلةٍ سوداء، دونت باختصار وعلى عجالة كل شيء في هذه القصاصة الصغيرة من الورق)) الموعد على اقتراب... بدأ يلوح حسب دقات الساعة كبدء مغيب الشمس بالأفق وتواريها خلف الجبال وانخفت ضوئها تدريجيا، كانت الصدمة لي كبيرة جداً، أخبرني من تحشد بشقتها بنبأ وفاتها، أصابني الذعر والهلع، بعدما تزينت لها بأفخر ما أملك من ثياب بالية وعطر لا تشم منه سوى زهد الثمن، بعد فترة من الزمن كانت تلك الشقة متنفسي الوحيد لأرى وأشاهد بصماتها وأتذكر تلك الصورة التي لم تفارقني قط، على أحد الجدران كانت صورة معلقة تحمل كل تعابير العشق.. كنا كلما جلسنا وأطلنا النظر نتحدث من خلالها عن شبق الحياة، اقتربت من تلك الصورة لأحدثها عن ماض ٍ جميل، قتل ها هنا، ماتت وماتت معها كل تلك الذكريات الجميلة، اذكر الصورة بما دار حولها، مسحت التراب عنها، سقطت على إثرها تلك القصاصة الصغيرة، أمعنت النظر جيداً بها أصبت بذهول ٍ كبير لما دون بتلك القصاصة، عادت الروح إليّ كنبية ٍ في ارض ٍ جرداء منع عنها ماء المطر بعد أن سقيت بدعاء الاستسقاء، أعادت لي القصاصة الصغيرة الأمل في البحث عنها، تدور في بالي وخاطري أفكارٌ وأفكار وأوهام كثيرة لا تعد ولا تحصى، وبعد هذا وذاك أرجع الصورة والقصاصة إلى صندوقي، لأعيش حالة من الاكتئاب النفسي العظيم والانعزال عما يدور في الخارج، أخرج إلى الشارع، أسير في الطرقات بحثاً عنها، أجلس على قارعة الطريق، أضع يدي على خدي، أفكر فيها، تدور صورتها في فكري، لا تكاد تفارقني، أتابع سيري في الطرقات كمخبول ٍ يبحث عن لاشيء، أردت أن أطلب لقدميَّ الاستراحة على أريكة الرصيف، لكن فكرت في الجلوس على مصطبة خصصت للركاب، وجدت امرأة ورجل جالسين عليها، جلست بالقرب من الرجل نظرتُ إليهما، مما جن جنوني أن هذه المرأة تشبه صديقتي، نظرت إليها جيداً... أمعنت النظر.. نعم إنها هي، لا تخيب ذاكرتي، لذا صممت على متابعتها واللحاق بها، ها هو الباص يقف بهيبة ووقار يحمل الركاب إلى أماكن سكناهم، صعدا إلى الحافلة وكنت أنا ثالثهم، سارت الحافلة في طريقها المعتاد لها، كنت اجلس في المقعد خلفهما، تكلمت معه بكلمات، أحسست بذلك الصوت الذي يخرج منها كريح الصبا يمر على قلبي كنسمة الصباح، ما إن وصلا إلى مكان معلوم حتى أشار بيده إلى سائق الحافلة بالنزول منها، نزلت من الحافلة لأسير خلفهما، حيث دخلا في بيتٍ كبير تزينهُ النقوش المغربية وبعض المرايا والزجاج المظلل، كان البيت يوحي من الخارج بهيبة ساكنيه، قررت أن اعرف كل شيء عن تلك المرأة، التي إن لم تخن ِ ذاكرتي إنها صديقتي، بدأت أتحين الفرصة لخروج ذلك الرجل من البيت، وفي أحد الأيام وبالتحديد عند الصباح، جئت لأراقب خروجه لعل لديه عملاً يذهب إليه صباحاً، وعند مروري بالشارع المؤدي إلى البيت صادفني في التوجه إلى المكان المخصص لنقل الركاب، حيث رأيته يستقل الحافلة، عندها توجهت إلى البيت، وعند وصولي طرقت الباب لتخرج تلك المرأة التي ذهلت عند رؤيتها، لم أستطع أن أتفوه أمامها بأيّ كلمة، شعرتُ بتبعثر الكلمات وعقدة في لساني، لم يستطع لساني أن يترجم تلك الكلمات التي تخرج من قلبي كنبع ماءٍ يتدفق من أعماق الأرض ليسقي أرضاً أصابها العطش حد الظمأ، لكنني شعرت بأنني عدت إلى الوراء عشر سنين، أردت أن أذكرها بي، لكنها لم تكترث، حاولت أن اذكرها بكل شيء لكن من دون جدوى، يبدو أن الزمن حولها إلى امرأة آخرى ليست كتلك التي اعرفها، أرادت إغلاق الباب بوجهي، لكني تشبثتُ بالباب لأمنعها من إغلاقه، فقالت لي ماذا تريد يا هذا ؟ قلت لها ألم تذكريني، انظري إليّ جيداً.. قالت أنا لا ألعم عم تتلكم، أظهرت لها الصورة والقصاصة، غاصت في صمتٍ كبير وسط ذهولٍ كبير لعينيها، لاحظت في عينيها دمعة تتلألأ، كلما آن لها السقوط لتفسر لي كل ذلك، تمنعها من السقوط، كانت تضمر في داخلها كل علامات الاستفهام التي أحاول البحث عنها، إنكارها الشديد وعدم اكتراثها لي زاد من استيائي وكرهي لها بعد أن أحببتها حتى عند غيابها...

رجعت إلى بيتي ذاهباً إلى خزانة أسراري، إلى صندوقي الذي يتخذ من احدى زوايا الدار مركزا ومقاما له لأحدثه بما جرى، واخرج الصورة والقصاصة من جيبي التي كنت أعيش على ذكراها لأتفنن في تمزيقها، ثم أتوجه إلى نافذة صغيرة كنت استشرف بها إلى السماء، لأذريها مع الريح لتمتزج مع أوراق الشجر المتساقط عند فصل الخريف لأعيش فصل خريف آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى