الثلاثاء ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
حزيران.. أربعون عاما
بقلم لطفي زغلول

بأية حال.. عدت يا حزيران

أربعون عاما مرت على أول حزيران، منذ العام 1967. أربعون حزيرانا، وما زال حزيران نفقا طويلا مظلما، لا يلوح بصيص نور في آخره. أربعون عاما، تفرز أحشاؤها كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، مزيدا من السطور على صفحات تاريخ النكبة الفلسطينية. هذه النكبة التي دخل الفلسطينيون عامها الستين.

إننا، ونحن نتحدث عن حزيران، وتحديدا الخامس من أيامه، وما تلاه من أيام، فإننا في هذه العجالة لن نوفيه حقه. إن حزيران سفر تاريخ طويل، ما زالت صفحاته مشرعة لمزيد من التحديات والجراحات والمآسي والأحزان، وهي تنهال على الشعب الفلسطيني من كل حدب وصوب. إلا أن هذا الشعب ما زال واقفا، لم تلن له قناة، ولا طأطأت رأس، ولا نالت منه الأيام منالا.

ويحار الكاتب منا، وهو يحمل القلم ليكتب عن هذه الذكرى، وما تفرزه كل طالع شمس ونهار. عن ماذا سيكتب؟. عمن سيكتب؟. هل هناك شيء لم يكتب عنه الكتاب؟. وبرغم هذا وذاك، فسوف نظل نكتب عن كل ما يخص القضية الفلسطينية وإفرازاتها وتداعياتها ومستجداتها. عن خدعة العملية السلمية. عن أكذوبة رؤية الرئيس بوش الإبن حول الدولة الفلسطينية. عن مهزلة خارطة الطريق. عن أسطورة الضمير العالمي. عن سذاجة لعبة التهدئة. عن صمت الأشقاء المريب. عن فقدان العمق العروبي القومي. وأخيرا لا آخرا عن شعب القضية الذي لا يقهر، وهو يجر خطاه الدامية في طريق الآلام.

في الذكرى السنوية الأربعين لحزيران، نعرج على العراق. نقرىء أهلنا الفلسطينيين هناك السلام. نرفع أيدينا إلى السماء، سائلين العلي القدير، ولا نسأل إلا إياه، أن ينشلهم من نار الأحقاد التي أصبحوا في مرماها. إنهم هناك يقتلون بدم بارد، يعتقلون، يطردون من منازلهم غصبا وقسرا. ينفون إلى مخيمات جديدة، تذكرنا بمخيمات النكبة الأولى. وشتان بين الحالتين. تلك كانت على أيدي المغتصبين. وهذه على أيدي من يفترض أنهم الأشقاء العرب.

في الذكرى السنوية الأربعين لحزيران، نقف أمام مداخل مخيم نهر البارد في طرابلس لبنان. نسمع دوي قذائف المدافع والصواريخ والمتفجرات، وهي تدك مباني هذا المخيم. نرى الآلاف من سكانه يهربون من جحيمه، يبكون شهداءهم الذين قتلوا دونما ذنب اقترفوه، يحملون جرحاهم، يتساءلون بحسرة عمن فقدوهم من الأهل والأحبة. نسمع صيحات الأمهات والزوجات والأخوات والأطفال، وقد ضاقت بهم السبل هائمين على وجوههم. وسؤال كبير كبير بحجم المأساة الفلسطينية: لماذا وألف لماذا؟.

ونعود إلى ربوع الوطن المحتل. ها هي النيران تعصف به من كل حدب وصوب. الأولى نار الإحتلال الذي كثف ممارساته القمعية على الأرض الفلسطينية، عبر اجتياحاته التدميرية للبشر والحجر والشجر. لقد قتل واعتقل، دمر وهدم، جرف الأرض، صادرها، أقام عليها مستوطناته وطرقها الإلتفافية، وجداره العازل.

وها هو يشن حربا لا هوادة فيها على كامل التراب الفلسطيني. طائراته الحربية، مروحياته القتالية تصطاد الفلسطينيين دون رحمة. قذائفه، صواريخه تنهال على المنازل الآمنة والمتاجر والسيارات، تفجرها، تقتل من فيها. جرافاته لم تهدأ يوما. شهيتها الشرهة مفتوحة على التجريف والهدم والتدمير. وها هي حواجزه، تحيل الأراضي الفلسطينية إلى معتقلات وسجون. ها هي حصاراته وإغلاقاته وأطواقه الأمنية، لا تنفك تحيل الحياة الفلسطينية إلى جحيم تصطلي بناره ليل نهار.

إنه الاحتلال الذي أفرزته السياسات الإسرائيلية التي لا ترغب في تأسيس سلام عادل ومشرف مع الفلسطينيين. إنها السياسات التي ما زالت تشهر لاءاتها في وجه الحق الفلسطيني في الأرض والدولة والقدس، وقبل هذا وذاك تنكر حق العودة الذي أقرته الشرعية الدولية عبر منظومة من قراراتها.

والنار الثانية، نار الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، واستباحة الدم على أيد فلسطينية. إنها نار الفلتان الحضاري، وبعض منها الفلتان الأمني الذي فت في عضد المواطنين الفلسطينيين، فأوصلهم إلى شفير هاوية اليأس والإحباط والنظرة السوداء للمستقبل. ويشهد الله أنه ما كان إلا صراعا على المناصب وكراسي الحكم، وليس لوجه القضية الفلسطينية التي تئن تحت وطأة هذا الإلتفاف عليها من أبنائها.

والنار الثالثة، يوقدها هذا الحصار السياسي الإقتصادي الدولي الظالم للشعب الفلسطيني، تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وينصاع له الإتحاد الأوروبي، والكثير من الدول الأخرى الدائرة في الفلك الأميركي، والتي تدعي أنها المجتمع الدولي.

لقد أفرز هذا الحصار اللامبرر تدهورا خطيرا في الإقتصاد الفلسطيني، الذي هو أصلا هش العظام. لقد تدنت معيشة الفلسطينيين إلى مستويات غير مسبوقة، وازدادت أعداد من أصبحوا دون خط الفقر. وإذا ما أضيف إلى هؤلاء قرابة مائتي ألف موظف، باتوا منذ ما ينوف عن عام بدون رواتب، فإن المشهد الإقتصادي الفلسطيني، وما يتبعه ينذر بأحوال كارثية بعيدة المدى.

في الذكرى الأربعين لحزيران، يعيش الفلسطينيون مرارة المتغيرات العربية التي حجمت القضية الفلسطينية. لقد انسحب الأشقاء العرب من ساحتها، وتركوا الشعب الفلسطيني وحده قائما في مهب التحديات التي تكالبت كل القوى المعادية له على تكثيفها، بغية النيل منه، ومن ثوابت قضيته التي فقدت دون أدنى شك بعدها القومي. وليت الأمر يقف عند حدود صمت الأشقاء وتخليهم. لقد ساهمت الأنظمة العربية في تكريس حصار الفلسطينيين، وانصاعت هي الأخرى للإملاءات الأميركية.

هكذا هو حزيران الأربعون، يطل على الفلسطينيين بشجونه وأشجانه. يسافر بنا من النزوح إلى النزوح، من الذكريات الأليمة إليها. لقد حط هذه المرة رحاله في الأراضي الفلسطينية، يفرغ حقائبه المثقلات بالأسى واللوعة على ما آلت إليه الأحوال. ها هو يوقد شمعة عامه الواحد والأربعين، وما زال يتسرطن في جسد الأمة العربية بعامة، والشعب الفلسطيني بخاصة، يقرع أجراس مخاطره التي لم تلامس مسامع العرب الغافين الساهين اللاهين.

كلمة أخيرة، لقد مضت ستون عاما على نكبة الشعب الفلسطيني، وأربعون على احتلال كامل ترابه. وعلى مدى هذه الأعوام العجاف التي حرمته نعمة الأمن والأمان والسلام في وطنه، لم تفت الأيام في عضده. لم ييأس. لم يتخل عن ثوابت قضيته. لم يترجل عن صهوة نضالاته لاستعادة حقوقه المشروعة. لم تثنه التضحيات الجسام عن المضي قدما إلى صباح وطن، لا تغيب عنه الحرية. إنها القضية الفلسطينية لا تموت، وتبقى إرثا تتناقله الأجيال. إنه الشعب الفلسطينيي يهتف في الذكرى: ما ضاع حق خلفه مطالب. والشعب الفلسطيني هو المطالب. والقضية هي الحق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى