الأحد ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
ظلال الحلم في رواية:

الحلم المزدوج لدينا سليم.

ميلود بنباقي

تهدي دينا سليم روايتها الحلم المزدوج إلى المغتربين , و إلى أبنائها, فلذات كبدها. تخص من بين أولئك المغتربين : صارم , بطل الرواية. و إذا صح أن هذه الشخصية واقعية, ما دامت مخصوصة بإهداء, جاز لنا القول إن هذا العمل يدخل ضمن خانة رواية السيرة الغيرية , على غرار روايات أخرى كثيرة تمتح مادتها التخييلية و الحكائية من السيرة الذاتية.

إنها سيرة صارم, العراقي المنفي, الباحث عن حلم صعب التحقق في وطن عربي يموج بالظلم و الاستبداد و خنق الحريات الفردية و الجماعية. مثقف يكتوي ببرودة المقاهي و الأرصفة و ذل المنافي. يكتفي بقصائد شعرية يحشو بها جيوبه, فتحتل موقع الأوراق النقدية. يرسم خطوط أوهامه العريضة في حجرة ضيقة, معتمة و رطبة, تكتنفها الأمواج من الجهات الأربع في مدينة ليماسول القبرصية...حيث لا أثر للغة الضاد. لغة أضاعها هناك يوم اضطر للعمل بنصيحة جلاديه المرة: أرض الله واسعة. أضاعها في يوم ماطر

و بارد, زحف فيه مشيا على الأقدام, نحو الحدود الفاصلة بين العذاب و النجاة, حدود بلاده .هاربا بجلده و أفكاره و قوافيه.

في المنفى الرتيب, يتردد في خاطر البطل صوت مجلجل , هو صوت الماضي المتجدد في كل لحظة و حين: "ما فات قد مات" يتردد على إيقاع عنيف لطبول الرحيل التي ظلت تصم أذنيه حتى آخر يوم في حياته. لكن الماضي لا يموت أبدا , فهو حاضر في الآن , باق للغد. يتمادى في ملاحقته و يعيده سنينا طويلة للوراء, فرصة تغتنمها الرواية لاسترجاع مولد صارم و طفولته الشقية.

فقبل أن يتجاوز الأربعين يوما من ولادته, يشتد به مرض ذات الرئة الخبيث. فيظن أبوه أنه " توفي من أربعة أيام أو أكثر". يحمل معوله و ييمم وجهه شطر المقبرة ليدفنه " حيا" . لكن حدس الأم لا يخطئ! تهمس في أذنيه قبيل لحظات قليلة من " وأده": "إبك يا بني, أرجوك أن تبكي, لم يبق لك سوى لحظات".

يخجل عزرائيل من توسلها فيتراجع, و يصيح الأب بزوجته: " ما بك يا امرأة! أ لم تسمعي صراخه؟ لقد وهب الله أخيرا الحياة لصارم". كانت تلك هي ولادة صارم الحقيقية. ولد ـ ككل حلم جميل ـ في

مقبرة !

يعود السارد العالم بكل شيء في فعل الاسترجاع هذا لنهر دجلة حيث يغرق جزء غير يسير من طفولة البطل. يرجع صارم الطفل مبللا للدار, فتخشى عليه أمه من الزكام و من بطش ذات الرئة من جديد, و الجرح الأليم لم يندمل بعد في ذاكرتها. تحذره من مغامراته, فينهرها أبوه مرخيا العنان لشغب الصبي

و حماقات طفولته, لعل جسمه يقوى. أو لعله , بصلابته, يسبي ألباب الصبايا.

لكن الأب سيرحل دون أن يتخلص فتاه من وهن و نحافة ورثها من والدته. و ستبقى صورته, بتناقضاتها و تضخماتها, متربعة على عرش ذاكرة البطل, مختزلة مفارقات الحياة الاجتماعية و تضارب القيم. فهو باني الأمنيات و هادمها, يدفع و يوقف, يرفع الأقنعة و يزيلها...إنه يلخص واقعا ثقافيا و اجتماعيا

و سياسيا حافلا بالقهر و الاستبداد, يتخذ أبناءه فزاعات تقي الحقول مناقير الطيور و ينحت تماثيل يسجد لها الآخرون ," بإرادته يصبحون رواد أمة و بسببه يرفسون كالحمير".

يغيب الأب إذا, فيعود الصبي لحضن والدته الدافئ, ينهل من أنفاسها علاقة إنسانية مفقودة. يسترجع ما ضاع من طفولته بسبب ذلك "العجوز". غير أن دلال الصبا ينقضي بسرعة, فيجد البطل نفسه في مفترق طرق خطير, و يكتوي بنار سؤال يقض مضجعه: " أيهما أكون؟" , و في الأخير يقرر" أن يكون صانع حكايات". فتغضب أمه و تجفل من هذا الاختيار.

يمضي في طريق " تختلف فيه الآراء", طريق شعر" يحيي ذكراه لو مات" و يعفيه أو يحرره من أن يكون شبيه أبيه, لعنته الوجودية.

تندلع الحرب العراقية الإيرانية, فيفقد صارم خيرة رفاقه و يأخذ للخدمة في الجيش تسعة أعوام رغم توسلات أمه: " أرجوكم لا تأخذوا مني وحيدي...ما زال دون العاشرة من عمره" . كانت مهمته إحصاء جثث الضحايا بعد المعارك, و هي مهمة شاقة مضنية, إذ كيف يحصي جثثا صارت بحجم حصاة؟ و كيف يتعايش مع الأطراف المبتورة و الأشلاء المسحوقة؟

في آذار من العام 2003 سيعيش البطل لحظة فارقة في حياته, إذ و هو في منفاه, تندلع الحرب على العراق و تتساقط بيوت الفقراء تباعا تحت وقع الصواريخ و ضربات الطائرات الرعناء. ها هنا يفقد قدرته على المقاومة و يعجز عن الاستمرار في الحياة, فيسلك طريق الاحتضار. يهمل نفسه و يزهد في الأكل

و النوم و يغرق في وحدة مطبقة و يأس قاتل. يرتاد المقاهي متصيدا أخبار الحرب و الوطن قارئا في عيون المغتربين أحوال الناس هناك خلف الحدود.

ها هنا أيضا سيتقمصه حلم العودة. شد المنفيون الرحال نحو بغداد و بات الحلم حقيقة. لكن صارم لا يستطيع أن يعود بسرعة, فهناك ما يشده إلى المنفى: شموس. و هناك ما يعيق رجوعه: سؤال حارق يتعقبه: " ماذا فعلت في الغربة؟"

أخيرا يقرر العودة على صهوة دراجة هوائية يمخر بها عباب الصحراء. أراد التنصل من الذكريات رويدا رويدا, رغبة لا تتحقق على متن حافلة أو سيارة. عاد دون أن تغمره فرحة حقيقية لسبب بسيط هو أنه نال حلمه" أخيرا".

عاد من غربة المنفى إلى غربة الوطن. من منفى الخارج إلى منفى الداخل. وجد المكان مغايرا فسأل السابلة و قد اعترته حالة شك غريبة: " هل هذه ساحة الميدان يا أخي؟ " إنه أمام غربة مزدوجة بعثرت أركان حلمه المزدوج: غربة المكان أمام الذات, و غربة الذات في مكانها الحميم.

اصطدم العائدون ببؤس الواقع و فظاعة المعيش. فهذا عائد من عمان لم يجد بيته, لأن الصواريخ سبقته إليه. و هذا جاء من لندن, نفرت منه زوجته و لم يعرفه أولاده. و ذاك عاد من الكويت فلم يجد لأسرته أثرا و لا خبرا. و ذاك جاء من أستراليا , بات الليل بطوله يحاول التقرب لأطفاله فلم ينجح.

يخضع صارم لمطاردة جديدة, مطاردة الذاكرة و حصارها. حصار الذات للذات. تباغته في زحمة اللقاءات و ساعات الوحدة. يسأل وجوها تحيط به: " من أنتم, لماذا لم أعد أذكركم؟" نسي وجوها لا يمكن نسيانها بتلك السرعة و أرقه سؤال ملح: لماذا أجهضت ذاكرته؟

يغترب من جديد, داخل ذاته هذه المرة. يحتار ماذا و من يكون, و لا يعرف أي شيء يرضي ابنتيه و لا أية صورة تريدان أن يكون عليها. تجيبه ابنتاه بالصمت فيستحلفهما بالله أن تعفيانه من هذا العقاب الرهيب الذي أفقده صبره.

يبحث عن الخلاص, عن "جلاتيا" التي أمضى سنوات عصيبة محاولا نفخ الروح فيها. فينبهه أحد أصدقائه للحقيقة المرة: إنها غير موجودة, فيحتج بأنه راقصها ذات يوم. يجيبه ذلك الصادق: " بل راقصت ذلك العباب".

ينطوي على أوهامه, فيراها في ردائها الأسود. لكنه لا يستطيع الإمساك بها. أخذها مركب يصارع ريحا غاضبة عصفت أيضا بأوراقه و رسائله الشعرية و أحلامه المقتلعة من جذور الذاكرة. إنها نهاية المثقف المأساوية.

تكسر الرواية رتابة الحكي التصاعدي بأحداث متفرعة, و تخفف هيمنة البطل على أحداثها بشخصيات تحول مسار السرد و رؤية السارد. تستأثر شموس بحيز وافر من اهتمام السارد. نطالعها و هي تستعد لزفافها الذي وئد قبل أن يكتمل. فقد جاءت دورية للشرطة و "زفت" لها خبر مقتل شقيقتها على يد زوجها, مخلفة طفلين يتما غدرا." أفرغت ثياب عرسها من الحقيبة...و نامت تستقبل الريح بصمت الميتين".

يقيم البطل علاقة عاطفية محمومة مع هذه الشخصية التي يختلط فيها الواقعي بالأسطوري و تتحول صفحة بعد أخرى إلى رمز يهرب كلما اقترب البطل منه. لقد أسبغ عليها أوصافا لا تليق إلا بالمجرد المحلق بعيدا في سلم القيم. فجنسيتها جميع الشعوب, و أوصافها عصية على التحديد. طاغية/ انتهازية/ متسامحة/ مؤرقة/ اشتراكية/ رأسمالية/ دكتاتورية/وديعة/متحررة/إقطاعية.

إنها "كائن" أسطوري يبني البطل على أوهام القبض عليه مملكته الخاصة, و يرسم على هدى ظلاله طريقه إلى الوطن الحقيقي. علاقته بها مبنية دائما على الفراق السريع و السفر المتجدد. " لماذا أنت حزين يا صارم؟ / حزين لأني سأفارقك بعد لحظات". تودعه بسرعة سالكة طريق العودة إلى وطن آخر: وطنها. إنها ضريبة أنسنة الرمز و ترويض الأسطورة.

تستأثر ساجدة(أخت البطل) بحيز أقل من الحيز الذي استأثرت به شموس. بعد خمس سنوات من غربته تسافر إليه في منفاه. تتعرف عليه بصعوبة, إذ كان وقع المنفى قاسيا على ملامحه. تفاجئها صورة معلقة في غرفته, صورة "حبيبته". تسأله مدهوشة: " لكن...أنسيت أن لك زوجة؟"

جاءت ساجدة لمعالجة السرطان المستشري في جسدها, لكنها لم تصارح أخاها بذلك. لم ترد أن تفيقه من حلمه. كان"غارقا في حياة أخرى".حياة الترف في كوكب العوز و الفقر المدقع.حياة الحقيقة من خلال ما تتيحه مساحة أوهام مضللة. صار لرسائله عنوان, و جفت عيناه من دمع الأسى و راح القلب يسبح في غرام جارف.

حققت ساجدة رغبتها في رؤية أخيها للمرة الأخيرة و عادت بدائها القاتل لتسلم الروح لباريها. يعيد هذا الحدث الأليم(موت ساجدة) البطل لموت قديم رآه بأم عينه في الجبهة. دنا منه كثيرا و لم يتراجع إلا إشفاقا على أمه من لوعة لا تحتملها إن هي فقدت ابنها الوحيد.

يتشظى الحلم في صفحات الرواية ليصبح حلما بأضعاف لا حصر لها. يبتدئ حلما مزدوجا و ينتهي حزمة أحلام بألوان و أسماء مختلفة. حلم السفر/حلم العودة/حلم اللقاء/حلم الحب/حلم الوطن/حلم السراب/الحلم المنفلت/الحلم المتحقق/الحلم المتكرر/الحلم الفردي/الحلم المشترك/...

تختار دينا سليم لروايتها هذه لغة رمزية و جملا قصيرة تضمن إيقاعا سريعا تحتل فيه الفواصل أماكن أدوات الترقيم الأخرى. إنها رواية تتوجه لقارئ متمرس لا يستعجل الوصول للمعنى و لا يبحث عن حكاية جاهزة يمسك بمسارها و اتجاهاتها دون جهد.

رواية تقرأها و أنت تنزف عرقا.

ميلود بنباقي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى