الاثنين ١٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم هـويدا صـالح

أسئلة القصة القصيرة 1\2

من المهم أن ننبه بداية، أن هذه القراءة، واعية تماماً بفخاخها، فهى من ناحية قراءة لنصوص مختلفة بتناوبها أربعة من المبدعين لا يربط بينهم خيط واحد، سواء من حيث خبرات الكتابة ودرجات نضج التجربة الإبداعية لدى كل منهم، أو من حيث توجهاتهم ورؤيتهم للعالم ، فضلا عن اختلاف نراه هاماً ولم يعد من الممكن تجاهله، يتلخص فى إننا أمام كاتبتين من الإناث، وكاتبين من الذكور، لهذا فالقراءة تتلمس مجموعة من المشتركات بينهم، قد تبدو صعبة ولكنها ليست مستحيلة .

كما يمكن ملاحظة، أن اختيارنا للمنهج النسوى مدخلاً لقراءة النصوص، لا يعنى الانصياع الكامل لشروط المنهج، بل هو بالضرورة يفضى إلى التحرر من الصبغة المناهجية الصارمة، فالنسوية لا تطرح نفسها كمنهج، بقدر ما تسعى لتكون اتجاها، يسعى إلى التحرر من السلطات المركزية القديمة، و التى من أبرزها سلطتى النظرية والمنهج .

ومن ناحية أخرى، فاختيارنا هذا، لا يعنى انحيازاً لكتابات النساء، بقدر ما هو انحياز لمجموعة القيم الجمالية الجديدة ـ سواء عند الكتاب أو الكاتبات ـ التى تنهض على خطاب ثقافى مغاير للخطاب القديم الذى تأسس على مجموعة من المركزيات والثوابت التى أنتجت هوامشها بطبيعة الحال، بما يعنى أن وجهات النظر النسوية، تسعى لاختبار العلاقة بين عدة من الأطراف المتناقضة والثنائيات مثل :

الوعي / اللاوعي

الروح / الجسد

المتحد / المتشظي المركزي / الهامشي

الذكوري / الأنثوي

و لعل توظيف هذه الثنائية في طرح مفهوم للأنثوية باعتبارها الآخر المناهض المفكك للنص، أو هي لاوعي النص، أي العناصر المناوئة للنص الذكوري ـ أى النص الذى يستند إلى مجموعة من الثوابت والمركزيات ـ والذي يستنهض كل ما أقصته اللغة إلي هامش الوعي ويستعيده داخلها حتي كغياب محسوس، والذي يحاول أن يستعيد ملامح من حالة الوجود في مرحلة ما قبل الاغتراب عن جسد العالم ـ أي ما قبل المرحلة الأوديبية ـ واستعادة هذا الأنثوي المهمش لا يقتصر علي الكاتبات بل يتواجد في كتابات الرجل أيضا ويتمثل في كل التقنيات الشعرية من مراوغة وغموض وإحلال واستعارة وموسيقية، وهذا ما أسمته الفرنسية (جوليا كرستيفا ) ( 1 ) : شعرية النص وهي القدرة علي التجاوز عبر الاستعارات وعبر الإفساد المتعمد للغة أي عبر استخدام مبتكر للغة، ومن خلال هذا التجاوز يمكن تقويض هذا النظام اللغوي الأبوي الصارم .
واستعادة هذا المهمش لا يقتصر علي الكتابات النسوية فقط بحسب المدرسة الفرنسية، بل يتواجد أيضا في كتابات الرجال ويتمثل في كل التقنيات الشعرية التي أوضحناها سابقا .

إذن النسوية كما توضح ( أليس جاردن) ( 2 ) تعمل علي إعادة تفسير وتعريف كل ما تجاهلته النصوص الرئيسية أو السرديات الذكورية الكبري، أن تعيد اكتشاف ذلك الآخر المهمش والذي يمثل فضاءً فقد السرد القدرة علي التحكم فيه، ولم يستطع ترويضه، والاسم الشفري لهذا الفضاء هو الأنثوي أو الآخر المهمل، الهامش في مقابل المتن، وعليه تعمل الناقدات النسويات علي خلخلة البني المستقرة ومساءلة كل الفرضيات، والمسلمات .
وفي هذا السياق يمكن توضيح الفرق بين مسميين اثنين هما الأدب النسائي والأدب النسوي إن الأدب النسوي يختلف عن الكتابة النسائية فالأول هو الذي تكتبه المرأة وموضوعه المرأة أما الثاني فهو الذي يشتغل على المرأة كموضوع وقد يكتبه الرجل .

ورغم أن الناقدات النسويات الفرنسيات أمثال (جوليا كريستيفا وأليس جاردن) يعلنّ إفلاس السرديات الذكورية المركزية إلا أنهن لا يرغبن في استبدالها بسرديات نسوية لأن هذا تكرار للهيمنة، وتبادل أدوار بين المتن والهامش، وإنما يسعين إلي تفكيك وخلخلة الخطاب الذكوري والإعلاء من شأن الهامش، أي هامشٍ ومن هذا المنطلق أسعي إلي اختبار النصوص التي أود تحليلها من خلال الاتجاه والرؤية النسوية، فهذه النصوص الأربعة تمثل الهامش، المسكوت عنه ، ومعظم الكتابات الأنثوية التي تتم دراستها عن طريق النقد النسوي لا يُشترط أن تكون لكاتبات نسويات بقدر ما تكون معنية بخلخلة البني المستقرة وأن تلقي بظلال من الشك علي المعني، فهي لا تهتم بالمرأة وإنجازاتها، بل تهتم بالفضاء الأنثوي وبيان لا وعي النص ، والجدير بالذكر أن مصطلح النسوية ظهر للوجود تاريخياً في سياق الثقافة البريطانية ليصف أنشطة الدعاية والتحريض التي قامت بها الجماعات النسائية وبعض جماعات المثليين احتجاجاً علي مسابقة ملكة جمال العالم عام 1970، تقول روزاليندا كاوارد : " إن صفة الانتماء إلي النسوية لا يجب أن تطلق إلا علي اتحاد النساء في حركة سياسية، لها أهداف سياسية " ( 3 )
وبالنظر إلي المجموعات القصصية نجد أن:

 مجموعة قصص ( عن عاقر وأحول ) ( 4 ) لهدي توفيق تنشغل بالمهمش/ الفقير المجتمعي
 مجموعة قصص ( أفق يحتضن الصدي ) ( 5 ) لعادل العجيمي : تشظي الذات المفردة المهمشة أمام السلطة بأشكالها .
 مجموعة قصص ( الميل شرقا ) ( 6 ) لمحمد رفاعي : القرية هامشاً مكانياً بالمقابل مع متن المدينة .
 مجموعة قصص ( بنت سرقت طول أخيها ) ( 7 ) لصفاء النجار هامش الأنثي بالمقابل مع متن الذكورة .

ومن المهم ملاحظة، أن لدينا الآن فرصة، لنصوص منقسمة بين كاتبين من الذكور، وكاتبتين من الإناث، للوقوف على صور المرأة، لدى مجموعة من المبدعين الجدد، ولاسيما، بعد أن قطعت المرأة شوطاً لا يستهان به، فى سبيل إزكاء وتعديل صورتها فى المجتمع من ناحية وفى قلب المشهد الثقافى من ناحية أخرى، وذلك باعتبار إن اختبار صورة المرأة فى الكتابات الجديدة، يوقفنا من ناحية فنية، على تطور درجات الوعى والاستجابة لمجموعة الأفكار الجديدة التى تعمل بحرية بعيداً عن السلطات العتيقة التى من أبرزها سلطة الشكل، وسلطة الخطاب المركزى، بما يعنى إلى أى درجة، ينحرف سؤال الكتابة عن ثوابته القديمة .

ولعل البدء بسؤال الكتابة هو مدخلنا لفحص صورة المرأة بين الكاتبات والكتاب من الجنسين، ماداموا يقتسمون مبحثيا هذا ولو بمجرد المصادفة، التى نظن أنها لا تعمل فى فراغ، بقدر ما هى استجابة لأنساق معرفية وجمالية جديدة تطرح نفسها على الكتابة الأدبية عموما، سواء فى اللغة كأبرز وجوه الشكل، أو التيمات والمقاصد الثقافية كأبرز وجوه الموضوع، وعليه فإن قراءتنا للمجموعات القصصية الأربعة، سوف تتحرك على محورين أساسيين هما :

1 ـ سؤال الكتابة عند كل كاتب،

2 ـ صورة المرأة .

أولاً : سؤال الكتابة

كثير من الكتاب، ينظرون إلي الكتابة علي إنها قلق وجودي نابع من حيرة المبدع أمام الكون، هي انفجار لألغام الذات في وجه العالم، هي تراوح بين الشك واليقين، هي تبحث لها عن مستقر يبدو مستعصيا أو مستحيلا . الكتابة لملمة أشلاء الذات التي تناثرت في معركة وجودية،ويعمل على تسويتها هيكلا، الكتابة وسؤالها تشبه جمرة استقرت بين يديك وفي قلبك، تتحرق لأن تجد من يحملها عنك قليلا لتستريح . إن سؤال الكتابة أكثر حرقة،وأشد إيلاما، ولا تستطيع الحصول على جواب شاف لسؤال الكتابة وجدواه . لكن الكاتب غالبا يجد نفسه مدفوعا إلى المساحات البيضاء لينثر قلقه،وانتفاضاته ضد الرداءة المحيطة بالعالم وشيئا فشيئا يبدأ في اختلاق الأسباب التي تجعل سيرته تحتضن عالمه، تهدأ من تشتت روحه، وكأن الكتابة هي فعل الخلق وإعادة التوازن، لذات تبدو حائرة وقلقة ليس أمام الأسئلة الكبري والبحث عن إجابات، ومحاولة الوصول للكشف الذي هو أول طريق الحقيقة بقدر ما هي الغوص داخل الذات في عالم متشظي ، مشتت للآمال والأحلام، فهي تتحول مع الوقت إلى فعل خالص لإثبات الحضور ومقاومة كل أشكال التآكل والغياب، فيتحول إلي حضور، بل حضور طاغ عن طريق فعل الكتابة، ثمة شيء من خلود يبقى في الإنسان . إن الكتابة مغامرة كشف وبحث ترتاد الوجود بهدف إعادة صياغته من جديد وفق الإطار الدلالي العام للإنسان الذي يفكر، ويتأمل ذاته، ويغوص داخلها يعمد الكاتب في فعل الكتابة إلي جعل الدنيا موضع سؤال .

من هنا تتشعب الكتابة وتتحول من مجرد سواد على بياض إلى نوع من الفلسفة في الحياة،ويتحول الكتاب رغبة في بلورة الأسئلة التي تمنح للوجود معنى حقيقيا، معنى يحرر المبدع ، ويحرر معه القارئ والمهتم،من احتمال التحول إلى مجرد رؤوس وسط قطيع
في الكتابة تبحث الأنا عن هويتها، متحدّثة عن رغباتها وأهوائها وتمثيلاتها الغريزية وما تفتقده في الواقع.وفي فعل الكتابة عن الذات ينشأ التخييل .
الكتابة أيضا قد تمكننا من مسائلة المجتمع، تسعي لخلخلة قيما استشرت وبعنف فيه، وترنو إلي كشف عوالمه الداخلية، تغدو فضاءات النصوص، فضاءات للذات، تقرر الذات في لحظة فارقة أن تخرج عن صمتها وتبوح، أن تواجه العالم بكل متناقضاته، أن تعبر عن انكساراتها وانتصاراتها ، نزواتها وأهوائها .

تبقى الكتابة بشكل عام تعويضا عمليا للتشظي الذي فرض علي ذات المبدع في زمن العولمة والقرية الكونية، وضياع الخصوصية الثقافية، وتشتت الذات أمام ذلك الطغيان العولمي الذي يغيبنا، ويجعلنا مجرد ذوات صغيرة متشظية، لا قيمة لها ولا قوة في توحدها .
ربما تهدف الكتابة إلي الكشف عن بقعة ضوء داخلية، دون الالتفات إلي ذلك السواد الذي يحيط بحياتها . إن الكتابة النسائية العربية ، تنطلق من سياقات واعية بطبيعة القضايا والأسئلة التي تعالجها .

و في مجموعة " أفق يحتضن الصدي "، نرى أن عادل العجيمي لا ينطلق في سؤاله من الواقع، بل تغوص الذات الساردة في الداخل، تبدأ في الحلم، تعوض تلك الخيبات في الواقع عن طريق الحلم، هي ذات تحلم طوال الوقت، تجعل العالم الحلمي، بل الكابوسي بديلا للواقع، ومعوضاً عنه .
إن عادل العجيمي يحيل سؤال الكتابة إلي صورة ذات لا تمتلك هوية واعية تماما وعاقلة ومستقرة، وبدلا من هذا المفهوم يطرح مفهوما للذات كشيء قلق غير مستقر،، فهوية الذات عنده ليست واضحة مستقرة بل هي في حالة تشكيل واختبار .
الذات في هذه المجموعة ذات مقهورة، تعاني من كل أنواع القهر، فتعبر عن رفضها للقهر بالغوص الدائم في الحلم .
وقد يأتي القهر في أشكال عدة :

 قهر السلطة المباشرة
 قهر السلطة السياسية لصورة المثقف .
 قهر المرأة كسلطة أخري مناهضة .

في قصة ( أفق يحتضن الصدي ) التي عنون بها المجموعة نجده يهرب بذاته مما يقهره، مما يمارس عليه، فيغوص في كابوس عميق، تتحول فيه الذات إلي ذات فاعلة بعد أن كانت مفعولا بها ومقهورة :

"تلفت هنا وهناك فإذا بكل السامعين يلتفون حولي، يضربون كفا بكف، يغرقون في الضحك، وأنا أنظر إليهم صارخاً، لكن صوتي غاب في زحمة ضحكاتهم، فأمسكت برأسي ووضعتها في أقرب حفرة حتي غابت أصواتهم، عدت واستخرجتها وأزلت ذرات التراب العالقة برموشي وتأملت المكان ..."
وفي قصة : ( ورم خبيث ) يقدم لنا عادل العجيمي صورة المثقف الذي انفصل تماما عن مجتمعه، ولم يعد بينه وبين هذا المجتمع أي تواصل، حتي أنه فقد الثقة فيه بعد أن ظل يردد ويؤكد وجود أولاد الجان والعفاريت، وحين يسمع الناس خرافاته ينصرفون عنه، ولكنهم يحزنون ويعلنون جنونه، ولا يبقي حوله سوي الأطفال يقول :

" وقف وسط دائرتهم وصرخ : أولاد الجان .. هبطت صاعقة علي الحلقة المتحلقة حول الأستاذ أخرست الألسنة، وأغشت الأعين، فصرخ فيهم، إنهم حولنا .. ازداد الوجوم علي الوجوه، ولف الكون صمت جنائزي وسال عرق لزج علي الجباه، فغطي الوجوه التي ازدادت اصفرارا، فابتلع أحدهم ريقه بصعوبة، وخرج صوته متحشرجا : لا نري شيئا يا أستاذ، واقترب آخر يرتعد : سلامتك يا أستاذ "
ونفس صورة القطيعة بين الذات والآخر سواء كان هذا الآخر، هو المجتمع الذي من الحتمي أن يقوده المثقف / الأستاذ، أو القطيعة بين الآخر المعادي له بصورة مفردة، تلك الصورة نجدها في قصة ( المشهد الأخير ) :

إنه يحدق في بشكل أثار كل مشاعر الانهزام بداخلي فطأطأت رأسي .. لم أتخلص منه بالرغم من كل ما فعلت ......... إحساس جميل أن تكون قاتلا، لقد جاءت الفرصة وحدها .. إنه هو الذي يصوب عينيه نحوي مخترقا ذاتي دون أدني اكتراث .. "
وفي محاولة أخري لفضح صورة المثقف، والسخرية من دوره السيزيفي الذي لم يجدِ يوما، وفضح الواقع السياسي و تهرؤه والسخرية منه، وتهميش دور المثقف يقول في قصة " متعة مسائية " :

" سقط معظمنا مغشيا عليه، بينما لم يسع الباقين إلا أن ألقوا بأنفسهم تحت أقدامه الطاهرة وهو يرفع يديه من عليائه ملوحاً لعدسات المصورين ...فاضت القلوب بالدمع فقد أشفقنا عليه من تلك الهموم الجاثمة فوق صدره كالجبال بسببنا ... إننا نستحق القتل في ميدان عام، فالله قد وهبنا شخصاً بمثل هذه المروءة دون سائر خلقه مع ذلك تري الجاحدين المنكرين للنعمة في تحد سافر للأقدار .. "
ولا تكتفي الذات برصد علاقتها بالآخر، بل تصور أحلامها وآمالها، فهي غامضة أحيانا تلك الأحلام، ورومانسية أحيانا أخري، فالذات تحلم رغم مواجهة الواقع / السلطة، وإن جاء الحلم ضئيلا قياسا بمساحة الكابوسية في المجموعة يقول في قصة " أحلام العصافير " :
" أكدت لنفسي أنني في حلم جميل ... أتأمله أصغي إلي كلماته التي تنغرس في قلبي، وتصير شجراً أستظل به وقت الهجير، هو حتما لا يعرفني .. سأحاول أن ألفت انتباهه لوجودي ............... عندئذ سينظر نحوي وسيوليني اهتمامه، وسيجلسني عن يمينه، فأنظر إلي المحيطين الذين يتهامسون، فتنتابني موجة سعادة لأن هذا التهامس من نصيبي " .

هو لا يحلم بتواصل مع حبيبة ما، أو تحقيق أمل ما، بل هو يحلم بالانتقال من الغياب إلي الحضور، هي ذات مهمشة، تعي تماما أنها في منطقة الغياب، وتحلم أن يكون لها وجود متعين في الواقع .

إن الآخر الذي يسعي أن ينال رضاه و يغازله في هذا الحلم هو السلطة / المركز والمتن، فهنا تظهر بوضوح أزمة المثقف، الذي همشته السلطة عن قصد، وجعلته يتضاءل وينسي دوره الحقيقي في المجتمع، إذن هو هم المثقف الذي يقدمه لنا الكاتب إما في كابوس، أو حتي في صورة حلم بالحضور بعد الغياب . وعند عتبة التمني يقف غضب الشخوص ويخصى الفعل ويتحول الصراع إلى جوف الأفراد وباطنهم .. فالبطل يكره خصمه ولكنه لا يسعى لتوفير وسائل هزمه.. ويترك الوقت ينساب من بين يديه دون أن يحقق ذاته ، ومن ثم يعذبه التناقض بين الرغبة في الفعل وعدم القدرة عليه. بل يحمل مجمل أبطال هذه المجموعة وعيا دقيقا بخلفية لعبة الحياة.. يدركون أكاذيب الساسة وصناع الفقر والجهل.. يهجون المدنية الزائفة ويعلنون موت كرامة الإنسان. لكن وعيهم هذا يقف عند عتبة الوعي ولا يتم تصريفه لسلوك يومي.. لأن ميزان الصراع في صف خصمهم الطبقي

والسؤال الذي داومت المجموعة علي طرحه يدور حول الخيبة والحلم، فأبرزت الحلم الجمعي حول الرغبة في الانعتاق والتحرر من قهر السلطة علي المجتمع، والحلم الفردي الواقع علي الذات سواء كان هذا القهر من المرأة / الآخر أو القهر من الرئيس المباشر أو أي رمز للسلطة .
ودائما يضع الكاتب الذات أمام حلم لا يمكن اختباره، فيتحول إلي كابوس تواجهه الذات باستمرار ولا تقدر علي الفكاك منه . وقد تمكن السارد داخل النص من تنويع بنيات السرد والعزف علي نفس الوتر وهو حلم الذات المتكرر والخيبات الصغيرة التي تقع فيها، وتحويل العذابات والتجربة إلي تخييل حلمي

هدي توفيق وسؤال الكتابة :

وحين ننتقل إلي سؤال الكتابة عند هدي توفيق نتساءل تري هل يختلف سؤال الكتابة عندها عن عادل العجيمي الذي ظهر جليا في بيان صورة الذات وأزمة المثقف وصورته، فهو دوما يقدم لنا صورة المثقف المأزوم،
هل كون هدي توفيق امرأة تكتب سيعطينا مساحة من الاختلاف عند الحديث عن سؤال الكتابة لديها ...
وعند رصد ظواهر الكتابة النسوية نجد بعض الكاتبات مهمومات بالغوص داخل الذات، وجعل الداخل خارجاً، نجد أن الكاتبات في الفترة الأخيرة طرحن ذواتهن بقوة وعمق، نظرا لخصوصية خطابهن الجريء وطبيعة قضاياهن المعالجة، فالخطاب لدي الكاتبة بأي حال يختلف باختلاف نظرتها للواقع، وزوايا رؤيتها للوجود. إنها كتابة استفادت من التحول الذي لحق المجتمع والفكر. إذ أضحى طرحها لقضية الحرية مثلا يكتسي طابع العمومية، بحيث تجاوزت وقوفها عند علاقتها بذاتها أو علاقتها بالرجل لتمتد إلى بنية المجتمع كله. فتجاوزت الصراع المبتسر بين الرجل والمرأة، وعملية إقصاء أحدهما للآخر، وتفتحت علي أفق أعمق، وهو إعادة إنتاج نسق مجتمعي مختلف . والخطاب النسوي في الفترة الأخيرة يمكن أن ينقسم إلي ثلاثة مستويات :
 مستوي أول يمثل مرايا لاقطة لتبلور وعي نسائي حداثي متقدم، فتتخلص الكاتبة من خطاب الأزمة . وتصير كتابتها التعمق داخل الذات، وكشف عوالمها، وقول اللامقول المسكوت عنه، ورصد علاقة الذات بالمجتمع، وعلاقتها بالآخر، وهذه الحصيلة جاءت على خلفية تجذر وعيها بقيمة تجربة الحياة نفسها قبل الكتابة.

 والمستوي الثاني هو الوعي بقضايا مجتمعها، بقضية وضعية المرأة في المجتمع، وفضح القهر الواقع عليها، وبالتالي صارت الكتابة النسوية لا تخوض تجربة الكتابة إلا بناء علي التجربة العميقة، وعدم الخوف برصدها، رصدا عميقا من الداخل . مما أدي إلي إكساب خطابها الأدبي صدقا فنيا وحرارة واقعية، لقد عانت طويلا من إحساسها بالمهانة والانسحاق في المجمع الذكوري.
 والمستوي الثالث هو ألا تعني الكاتبة بخطاب نسوي، ولا تسعي لبلورة علاقة الذات بالآخر الرجل / المجتمع، بل يكون سؤال الكتابة لديها هو البحث عن جماليات الكتابة، وتصير الكتابة مجرد بوح، ورصد للظواهر الاجتماعية، وفي هذه الحالة لو حذفنا اسم الكاتبة ووضعنا اسم الكاتب، لن نتعرف علي هوية المبدع، فهناك بعض الكاتبات من تؤمن أن الأدب إما أدب أو لا أدب، فهل يا تري فعلا يمكن أن يكون هناك خصائص مميزة لكل كاتب، أي هل يتحكم الجنس في خصائص الكاتب أم أن الأدب هو الأدب .

سنري كيف تعبر الكاتبة عن عالمها ؟ كيف تجيب عن سؤال كتابتها .
الذات في مجموعة " عن عاقر وأحول " ذات تغرق في الهم الوجودي العام، الهم غير المتعين بوقائع محددة، هي ذات حائرة، تتقلب بين الحيرة والبحث والتأمل، هي ذات لا تبحث عن جنسانية محددة بقدر ما تبحث عن إنسانية حائرة ومعذبة، تتأمل التاريخ، وتوظف المرجعيات المعرفية التثاقفية، تستعين بالتشكيل وثقافته علي كشف غموض الذات وداخلها الممتلئ حيرة وتيه تقول في قصة ( رسوم متحركة ) :
" كان اللقاء مبهوتا بوحشة الليل وشوق باعه أطول وأطول من لقاءات التوجس والفزع الذي يحولنا إلي قطع صامتة . شعيرات بيضاء وأنت تنظر داخل جسدك وقلبك وتسأل : هل سريعا تستجيب للمشيب داخل مفردات حواسك العافرة مع زمن الطغيان ؟ " .
الذات تعيش تناقضا واضحا ما بين البوح والصمت، والحديث والهذيان، الحضور والغياب، الرغبة في كشف الداخل ، السعي لفعل يعيد التوازن تقول في نفس القصة :

" كان كثير الكلام شكا أنه يعيش هيستريا الحديث والتناقض يوما بعد يوم، ولكنه تناقض يخلق في النهاية حلا نهائيا صحيحا لآراء كثيرة في قضية واحدة، صمت فجأة، فشعرت بهوس الفقد وثبات المكان داخل عيني ، وعقلي لا يحمل شيئا كأن الدنيا رسوم متحركة ثابتة، لا تألف غير حياة مصطنعة من نسيج خارجي لا أعرفه ولكنه مغزول من نسيج يحمل تواجدي الداخلي " .

الذات تشعر بثقل العالم فوق كاهلها، لذا تلجأ للكتابة، فيصير فعل الكتابة معادلا للنجاة، صارت الكتابة مهرب الكاتبة من الثقل / الموت، صارت المخرج الوحيد المضمون للانفلات من ثقل الروح المتعبة تقول في المقطع الأخير من قصة " المسافر الأخير يموت ببطء " :
" مشيت لا أفكر في شيء، أري وهج عيون العربات أمامي ولا شيء آخر، تجاوزت العربة بمن فيها وفي كل خطوة أخطوها أشعر بأن شيئا ورائي يتعقبني ويسعي إلي وأنه سيهاجمني من خلفي يلهث وراء عيوني أينما ذهبت .. لا أستطيع الفكاك منه " .
تتراوح تجربة الكاتبة بين :

 كتابة تسردها في شكل سلطوي متماسك لغة وحكاية، وهذا الشكل يمارس سلطة ذكورية علي وعي القارئ فيأتي محملا بالأفكار والأيدلوجيات .
 كتابة أخري تكتفي فيها الكاتبة بمجرد البوح، تسعي فيه للغنائية، تكتفي فقط أن تبوح .
 يمكن لنا أن نرصد نصا يمثل الشكل الأول المحكم سرديا و هو القصة التي أخذت المجموعة اسمها، ( عن عاقر وأحول )، تقف شخوص هذه القصة على حافة الانفجار في وجه المجتمع.. ولكنها لا تمارس التمرد والرفض، بل ولا تسعي لتحويلهما لفعل في وجه القهر الذي وقع علي البنت .
لقد شكل الأعور حياتها منذ فاجأتها الدورة الشهرية وهو واقف هناك يرقب ألمها وصراخها، وفي لحظة فارقة رأي فيها أنثي تتفتح للحياة، نسي أو تناسي أو أقنع نفسه أنها ليست ابنته .

رأي فيها أنثي تسكت رغبته التي تفجرت بوحشية في تلك اللحظة، ولأن البنت الصغيرة لم تتعود الرفض والتمرد، فقد خضعت خائفة في بداية الأمر لرغباته، ثم تلذذت بها وصارت هي البديل الوحيد لفعل الحياة لديها، فحدث بينهما التواطؤ الذي أدي بهما إلي التحايل بكل الطرق للإبقاء علي تلك العلاقة بين أب وابنته .

القصة هنا ترفض التغير السلبي للعلاقات الاجتماعية والأخلاقية التي لحقت المجتمع. وتحتج على جملة من الأمراض التي أفسدت مذاق الحياة، ومن ثمة فهي تعكس قلقا أصيلا يهدد استقرارها الوجودي لكنها تقف عند حدود التنديد والتبرم.. تحاول الانعتاق من قسوة مفارقة الضغوط المعيشة ووطأة التحولات دون جدوى . إن البنت التي صارت امرأة الآن تتحالف مع عشيقها للإفلات من مسألة التحاليل الجينية التي ستكشف هل الأطفال أولادها من الأعور أبيها أم لا .

وتنتهي القصة بأن تعلن للمحامي أنه يكفيها ويعطيها ما تريد . يحدث تواطؤ تام من الجميع علي استمرار تلك العلاقة المحرمة، حتي المحامي نفسه الذي دبر لها الخديعة للإفلات بجرمها، يعرف ويغض الطرف عن الجريمة .

إن هذا الاضطهاد الجنسي الذي عانى منه بطل هذه القصة وغيره يحيل على اضطهاد اقتصادي واجتماعي يجعل الأفراد يصابون بحالة إحباط تفقدهم القدرة على النقد دون الحديث عن التغيير،ومن ثمة سقوطهم في حالة اغتراب واستلاب حادين. وبقوة الأشياء تتحول المرأة المباحة والرخيصة لدى المهزوم لاسفنجة تمتص تمزقاته وتشنجاته.

وهنا خطورة الجنس كتعويض للإخفاق الاجتماعي لأشخاص وإن كانوا غائبين عن سطح الحكي فهم حاضرين في قلب الأزمة.
.إن هؤلاء الشخوص غير النمطيين في هذه القصة ليسوا سوى تعبير عن الاختلال الذي أصاب الحياة الاجتماعية وضمنها الحياة الجنسية وبالتالي فقدانهم لليقين تجاه الذات والمجتمع وانضمامهم إلى أجيال مغتربة ترى خلاصها في التواطؤ بين الجميع علي استمرار ذلك العفن كنوع من الانتقام من المجتمع الذي حول الجميع إلي أفراد مكبوتين جنسيا ومدجنين سياسيا بل وممزقين بين نداء الرغبة وقهر المجتمع.

ـ والنص الآخر الذي يمثل شكل التفكيك، والهروب من سلطوية النص المحكم، والاكتفاء بمجرد البوح والشجو هو نص : ( منشور العجز ) وهو نص يدل وبعمق عن سؤال الكتابة، بل يتحول فعل الكتابة إلي نص داخل المجموعة، وفي هذا النص تظهر الذات أسئلتها الهامة، فهي ذات مهمومة بالكتابة، تسعي لتبحث عن التوازن النفسي من خلال الكتابة، تخاطب الورق، وترفض العجز المطلق، تبحث للذات عن مخرج من خلال فعل الكتابة تقول :

" هذه محاولة مستحيلة للكتابة أتكلف عناءها وإلحاحها .. لا يمكنني أن أدعي أن في رأسي شيء، فقط أريد أن أكتب، أريد أمن أري الحبر الأزرق وهو متشكل بصيغ وتراكيب وفراغ ......... أنا أقف أمام الورق عاجزا، لقد صار الورق الفارغ بالنسبة لي أحد مفردات العجز " .
إذن تصير الكتابة هي المخرج، ولكن الذات لا تجد من تتوجه إليه، فتقرر أن تتوجه إلي الورق الفارغ، تخاطبه، تستعطفه أن يسمح لها بالكتابة، فالكتابة صارت بديلا للحياة، وتري السكوت كذبا، والبوح صدقا وقوة :

" أعلن أنني أتوجه إلي الورق الفارغ، هاأنذا أتوجه، علي أن أتوجه إلي الورق الفارغ، أريد أن أعبر فوق المعني .. شريط طويل من الأحداث تبدأ من ساحل رأس البر مسقط أول الوحدة والوحشية إلي هذا الكرسي الأخضر الذي أنا جالس عليه ... شريط اختلط فيه كل شيء بكل شيء، وقادتني طبيعة نشأتي إلي دروب ومسالك أعرف أن من يعبرون عليها ينالهم خراب مجيد، وأنهم لا ينالون شيئا، وأن الحياة تظل مليئة عليهم حتي النهاية . عقابهم كامل ومقفل علي نفسه "

نلحظ هنا أن الكاتبة منشغلة بالمعني، والحس الوجودي العدمي، تظل تعيد ترتيب الوجود في تأملية توجهها للسيد الورق، وفي نهاية القصة تخاطب الورق بقولها : " عزيزي الورق .. النصر لك " .
محمد رفاعي وسؤال الكتابة :

وحين نعمد إلي كاتب ثالث هو محمد الرفاعي في مجموعته الميل شرقا، ونبحث عن سؤال الكتابة، سؤال المعني، الخطاب والرؤية لدي الكاتب، فكما يقول رولان بارت "لا يوجد شعب لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في أي مكان من غير قصة"(8). ونحن في هذه الاقتطافات نريد أن نقرأ هذا المخزون بمنأى عن القراءة المسبقة والشمولية، بل نسعي من خلال القراءة إلي الكشف عن رؤية الكاتب للعالم . واستكشاف الخفايا والخبايا التي تمثل الجزء الذي نفتقده في هذه القصص التي تطرح وجود الذات في مجتمع التغريبة / المدينة، ووجودها الحقيقي المتعين في مجتمع القرية .
في مجموعة عادل العجيمي " أفق يحتضن الصدي " نري أسئلة الكتابة تنطلق من منطقة حلمية أحيانا وكابوسية معظم الوقت، فلا وجود متعين للذات، بل هي تسعي في فضاءات تقف علي حافة التخييل دائما .

أما هدي توفيق في مجموعتها " عاقر وأحول " فسؤال الكتابة يتراوح بين البوح وتأمل الذات حينا، وفضح زيف المجتمع وقهره للذات حينا أخري ..
ولا تُعني النصوص في المجموعتين السابقتين بالسرد المحكم، بل سلطوية الشكل والحكايا غير مطروحة في ذهن الكاتبين إلا في استثناءات قليلة في المجموعتين .

هنا عند محمد رفاعي في مجموعته : " الميل شرقاً " نجد الكاتب يقدم سؤال الكتابة من خلال النص السردي في شكله التقليدي، فهو يعتمد بناء الحكاية متكئاً للسرد، بناء الحكاية في تقليديتها، نص محدد الدلالة، ضيق في قراءته، لا يعطي سوي مستوي واحد من التخييل، فالذات تقف فيه في مواجهة المجتمع بسلطويته، الحنين يعتور مشاعر هذه الذات القلقة المغتربة في الزمان والمكان، تستعين بالكتابة للتغلب علي النستولوجيا التي تغربه عن حاضره، وتبعده عنه، تضع مسافة بينه وبين الحاضر، فلا يجد حلا سوي الرجوع للماضي، واسترجاع تفاصيله، ثمة غربة بين الذات وبين الحاضر الذي تمثله المدينة، ثمة أشياء تفزعه، فينقطع تماما عن المكان الآني، بل يسعي لاسترجاع دقائق الماضي وتفاصيله الحميمة، إذن هي النستولوجيا التي تسيطر علي سؤال الكتابة : " وفى تصور قريب، يصبح المكان تمثيلاً للذات سواء كان بمعناه المباشر أو بمعناه الرمزى، مثلما نضع المرأة والمدينة والوطن فى فضاء دلالى واحد " ( 9 ) يقول محمد رفاعي في قصة ( دفء الأمكنة ) :

" ثمة أشياء كثيرة بداخله أفزعته، لا يلمح ما يدور حوله، انقطع تماما عن محتويات المكان "

إذن هو يعود من خلال السرد إلي دفء الأمكنة المحببة للروح، فهو مسكون بالحنين إلي الجنوب، مهما تفرقت به المدن، حتي أنه يصدر المجموعة بمقطع من قصيدة أمل دنقل " حلم الجنوبي " فهنا حلم الجنوبي أن يعود إلي قريته، أن يتلمس الدفء في شوارعها، فوق شواشي نخيلها، بين جنبات حوائطها، فالمدينة بالنسبة إليه غائبة رغم أنها الآني إلا أنه يغيبها قاصدا، حتي أنه يطلق عليها مسمي المدينة فقط دون تحديد لهوية هذه المدينة أو تفاصيلها ، لا تفاصيل هناك سوي سرد تفاصيل الوحدة والانفصال عن الآخر ساكن المدينة :

" حين سكن المدينة كان شتاء، ظل المطر ينهمر، بات يجوب شوارع كثيرة، عشق المشي والسهر والليل، يرميه البرد إلي مواصلة بحثه المضني، يلتقطه مقهي هادئ، يجلس، يطلب كوباً من الشاي، فيعاوده الحنين إلي دفء ذاته المنقوعة في صقيع فجر ليالي الشتاء، يتأمل وجه العجوز المجاوره، يسرح كثيرا، ويحلم بدفء اللحظات، يعاوده الحنين إلي ألفة الأماكن القديمة " .

أيضا الكتابة بالنسبة للسارد هي استرجاع لحظات الحنين، الالتصاق بالماضي وتفاصيله، الاحتماء بالذاكرة ، بكائية حزينة علي القرية التي غرقت مع السد، توجع وأنين، صور مختلفة للفقد يقول في قصة ( فارس ) :

" كنت طفلا في المهد أحبو، محاولا الانفلات من عتبة الدار منضماً إلي الرفاق حين داهمني أبي عائدا من عمله في البر الشرقي دون أن يكمل النهار، صار طعامه في منديل جلس في آخر البيت بجوار الفرن وحيدا، وراح في صمت يرضي عقله، ويمنح لنفسه قسطا من الراحة، ويريح ذاكرته التي أرهقها طوال التجوال ربما يستدعيها اللحظة لينبئه بما يخبئه الآتي .

وقد تكون الكتابة بالنسبة لمحمد رفاعي إعادة اكتشاف الذات، اكتشاف عالمها، رؤية ماضيها من خلال عيون الطفل يقول في قصة ( الميل شرقاً ) :
" الطفل يسير خلف جدته، يعيد اكتشاف ما اكتشفه، ولكنه صعد أعلي المنحدر، استطاع أن يري من بين الضباب الشاطئ الآخر " .
كما يقول في قصة ( خالتي مريم ) :
" سمعت أنين السواقي وغناءها مرهفا عميقا أخاذا مسكونا بالشجن، حملته الريح مع هزات جريد النخلة الوحيدة وشجرة الدوم وحيدة الساق، اللتين كانتا موجودتين بجوار البن ...... الريح الشديدة خفت الآن، انتصب النخيل وأغصان الدوم والشجر هبّ أريج عبقك الفواح، فاق رائحة التمر حنة " .
فالذات هنا تشعر بالحنين لزمن مضي بجماله، ولا يهمها أن ذلك الحنين لامرأة كانت تمثل الفرادة والجمال في مجتمعه، فهي امرأة مسيحية ماتت ويصور طقوس دفنها، في حالة استرجاع تطفح بالشجن، فالذات تحن إلي كل عالم القرية بتفاصيله، بصرف النظر عن الدين، فمسألة الفروقات العظيمة بين قطبي الأمة لم تكن مطروحة في بيئة القرية وثقافتها .

" في الساحة الظليلة سجي الجسد، صلي عليه صلاة آخر عهدها بالدنيا، خارجة منها إلي دنيا مجهولة موغلة فيها، وحيد كما القديسين والمتصوفين ومحطمي بكارة قداسة الأعراف " نري في هذه القصة نظرة الذات اليوتوبية للعالم .

صفاء النجار وسؤال الكتابة :

وحين ننظر في مجموعة صفاء النجار : " البنت التي سرقت طول أخيها " ونبحث عن سؤال الكتابة، إن الكتابة بالنسبة للمرأة فعل التوازن بين الداخل والخارج، بين ذلك الصوت الداخلي الذي يحاول أن يفتح ذلك الداخل الذي ظنته المرأة مفقوداً، نتيجة لعالم القسوة والخوف، وجدت المرأة من خلال الكتابة أضواء صغيرة، تضيء داخلها، شعلة في قلبها تشع، فتحلت بالشجاعة، وغاصت في الداخل، لتخرج لنا اللؤلؤ المخبوء، ذلك المسكوت عنه منذ قرون طويلة، تسرب النور من داخلها، فصار الداخل خارجاً، تحولت وتجلت، وقالت لا داعي للخوف، فقط علي أن أتحلي بالصمود والجلد، فربما لا نعلم أبداً من أين تأتي القوة ( 10 )

إذن يحيلنا السؤال سريعا إلي القصة التي عنونت بها المجموعة، فالكاتبة في نصها هذا وفي معظم بقية المجموعة منشغلة بذاتها الأنثوية، بوضعيتها في مجتمع ذكوري، تلملم تشظيها وضياع الأنثي داخلها من بني السرد المختلفة في هذه المجموعة التي تهجس بروح الأنثي في كل سطر فيها، فهي ترافق نسائها المقهورات في المصنع والمشغل، في المدرسة حيث عالم الطفولة بأحلامه وأمانيه، وفي صفحات كتاب يحمل وردة منسية جفت بعيدا عن روح الأنثي المفتقدة، إلي عجوز تعاني من وحدة قاتلة وتقرر في لحظة أن تموت بعد أن يأتيها ابنها وزوجته ويقرران الاحتفال بعيد ميلادها ، تغوص صفاء النجار في قصصها في روح الأنثي مهما اختلفت وضعيتها في المجتمع، ومهما تعددت أشكال القهر الواقع عليها .

إذن الكاتبة واعية تماما بوضعيتها و مهمومة بالهم الوجودي الذي يؤرق وجودها في مجتمع ذكوري فحل لا يقبل بوجود الأنثي ككائن مستقل، قادر علي مواصلة الحياة دون وصاية، وتبالغ الكاتبة في طرح السؤال الوجودي المؤرق لها حتي أنها تعاقب ( هي الصغيرة خالص ) لأنها استطالت وكبرت ظهرت في صورة بجانب أخيها أطول منه، فتقول الجدة في شبه نبوءة أن البنت سرقت طول أخيها، وتعاقبها الأم التي تميز بالطبع بين البنت الولد، وتتمني أن يكبر الولد ويستطيل علي حساب البنت كعادة كل الأمهات اللاتي يتمنين كل الخير لأبنائهن الذكور علي حساب البنات ، وبالطبع كل الأمهات تمارس القهر علي بناتهن حين يبشرن بالأنثي، فليست الأنثي كالذكر، إرث من القهر تحمله البنات حين صرخة الميلاد الأولي، عقاب أزلي سديمي يمارس عليهن تقول الكاتبة في قصة " البنت التي سرقت طول أخيها "
: تستحثنى عيناها أن اقف إلى جوارها، أن أنطق، أدافع عنها، لا أستطيع، الصمت هواللغة التى احترفت نطقها، فى المرات المعدودة التى انطق فيها، تلفحنى نيران الغضب من وجوه الآخرين، عندما حضر أبوها بعد مولدها بأسبوع، سألنى، فأجبت :
 بنت.
تجهم ولم ينبسط لى بعدها.
وعندما أصبح اخوها الذى يكبرها بعام يستعد لتقديم أوراقه للمدرسة الثانوية وأصرت أن يلتقط لها المصور صورة معه تساءلت: وأنا أمعن النظر فى الصورة:
 هل توجد بنت أطول من اخيها ..؟
وضعتها الجدة فى قفص الاتهام، وأبقت باب القفص مواربا وفى كل لحظة تدفعنى إليه بعد أن تدير وجهها وتتمتم:
 اقلب القدرة على فمها " .
كما تصور الكاتبة القهر الواقع من المجتمع علي الذات الأنثوية ، فها هي امرأة من طبقة فقيرة تعمل في مشغل وحين تتزوج وتنجب، يرفض صاحب المصنع أن يعيدها إلي عملها بعد أن احتلت مكانها زميلة أخري، وعملت علي ماكينتها، وحين تستعطف صاحب العمل يعيدها إليه ولكن في عمل أقل قيمة، فهي تلملم قصاقيص القماش بعد أن كانت تعمل علي الماكينة، وحين تحمل مرة أخري تخفي حملها عن عيون العاملين وصاحب العمل، خوفا علي الرزق البسيط الذي يأتيها من ذلك العمل وكأنها ضبطت متلبسة بجريمة الحمل في الحرام، وليس ابنا ثانيا ستنجبه من زواج مشروع ، وتصور نفسها بإبرة مكسورة ولا يفوتنا لما في الإبرة المكسورة من دلالة تقول في قصة " إبرة مكسورة " :

" حان موعد ولادتها، وتأخر عنها الطلق، قلقها على مرتب الشهر كاملاً يبقى صغيرها فى مكمنه.
تتعاطف معها زميلاتها:

 هي أولى بكل يوم.
وبمجرد أن تفك سلك " العملية القيصرية " تترك لحمها فى حجر أمها، وتطل برأسها من باب المشغل..لكن لا أحد ينتظر . ففتاة أخرى تتشبث بماكينتها.
تترجى المدير، يوافقك:
 دي آخر مرة تتركي فيها العمل. ده مكن داير.
منحنية تجمع القصاقيص، أو منتصبة تحمل أثواب القماش، تتطلع إلى ماكينتها القديمة، أحياناً تتحسسها،وفى آخر النهار قد تمسحها بالقصاقيص حتى فاجأها سرها الجديد.

تتقوقع على نفسها، مخافة أن يشم أحد رائحته، وكلما لمحت الماكينة، أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، ومن خلف زجاج النوافذ العالية، تتفاعل كآبتها مع سحب الخريف المثقلة بدموع مؤجلة."
تواصل الكاتبة عرض ما يعتور قلب الذات الساردة الأنثوية من هموم، حتي لو كانت هموما صغيرة غير مبررة منطقيا، هموم التمسك بسلطة الجسد، وما يمثله من إغواء، هموم الاحتماء بذلك الجسد، البحث عن فرحة الروح الضائعة من خلال البحث عن نظرة التقبل في عيون الآخر، فنري الذات بهمها النفسي تخشي من كل شيء، ويمثل تقبل الآخر لها هو المعادل للحياة تقول في قصة " مطاردة "
" يوم أو يومان ثم تعود تطاردها، ترتدى صوراً جديدة ترواغها حتى باتت تشك فى نفسها.. بينما تسير فى طريقها إلى عملها وتنتقل من رصيف إلى آخر بعيداً عن شمس التاسعة، التقطت أذنها كلمة:

 يا غزال
وقبل أ ن تبتسم لهذه التحية الصباحية التى لا تعنى شيئاً، ولم تتبين من ملامح صاحبها سوى كرشه، أحست أن إحدى ساقيها أطول من الأخرى، للوهلة الأولى لم تلتفت لهذا الهاجس الجديد، غزل الرجل البدين أعاد إليها الإحساس بأن فيها شيئاً لفت نظره، أرادت أن تستوثق وجدت أن قدمها اليمنى تضغط على الأرض بقوة أكثر اليسرى، إذن اليمنى أطول. لعل كعب الحذاء غير متساو، أراحها هذا الخاطر واتهمت نفسها بالبلاهة.

كما يتجسد سؤال الكتابة لدي صفاء النجار في محاولة مستميتة لاستبطان الذات، كشف عوالمها، البوح بلحظات الحلم، ولكن ذلك الزمن القاهر يحول أحلام الذات دوما إلي كوابيس تقول في قصة : " طاولة التشريح " :

" أعوام بالنجاح تصطاد حلمها لكن الحلم يتحول إلى كابوس، وفى الروح خبايا لا تسبر غورها، تبدو لها كنبوءات و إشارات سوداء تشرد بها بعيداً عن الجثث الضاربة فى الزرقة والمائلة للسواد،تشعر بغثيان ودوار يكاد يطيح بها "

لقراءة بقية النص انقر هنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى