الثلاثاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد عطية محمود عطية

أبواب

[ 1 ]

ضغط على أطراف قدميه .. شد جسمه الضئيل لأعلى .. ترك مقود العربة الحديدية ـ المحملة عليها بالة كرتون قديم ـ للحظة ، انحشرت فيها أصابعه في تجويف ما بين أسنانه ولسانه .. انطلقت صفارته صوب زميله ، المترامي لبصره ، عند نهاية الشارع المكتظ .
واهنا خرج الصفير . زاعقا أتاه صوت آلة تنبيه سيارة من خلفه .
هبط كعباه إلى الأرض . دفع عربته إلى الأمام ، منحنيا بها ؛ لتحاذي الرصيف .
عاودت قدماه الارتفاع بمشطيهما ، وعيناه على مدي رؤيتهما …
توقف باعثا بصفيره الآخذ في القوة ، والمتقطع .
اندلع صـوت من داخل أحد المحلات زاجرا إياه . أوقف صفيره . أشاح بيده . عاود دفع العربة وسط الطريق .حينما لمح زميله يتباعد ، توقف .. ارتقي بأطرافه مرة أخرى .. بعث بصفيره ، متتابعا .. زاعقا بأقصى ما لديه .
من على الرصيف ، ومن داخل المحلات ، ومن خلف مقاود السيارات .. تدافعت عليه الأصوات .. تدفق السباب .. لكن صفيره ظل يتصاعد بلا كلل حتى التفت زميله ، وتواصل صفيرهما معا …

[ 2 ]

يمر كل يوم .. في الشارع ، والشوارع المجاورة …
في موجات دفعة لفرنه المتنقل ـ المحمول فوق العربة ـ تطرد مدخنته دخانها الخابي ؛ فيعمل على إذكاء النار …
يتصاعد الدخان .. يملأ عنق المدخنة .. يخرج .. يلف الأهرامات الثلاثة ، الملتصقة بظهر الفرن الأسطواني كثلاث رايات مشرعة . يغطي الكفين (الخمسة وخميسة) المتصدرين لمقدمة الفرن .. ينتشر في الجو ممتزجا برائحة الكيروسين المحترق .. يزكم الأنوف .. يخنق الصدور .. يتسلل زخمه عبر النوافذ والشرفات إلى الداخل .

في مقابلة الريح .. يتحول الدخان ناحيته .. يتفرق حول لفظ الجلالة المثبت أعلى الباب الصغير للفرن . يلفح وجهه ؛ فيغمض عينيه .. تتابع دفقاته سباقها نحو رنتيه .
يسعل .. يحشرج بصوت مبحوح .. يتنحنح .. ثم يعلو صوته مناديا على (بضاعته) المشوية .

[ 3 ]

تعالى صياحه ، مناديا .. مبددا صمت الزقاق …
تحت ذات البيت ، توقف بسلته .. أسدلها على الرصيف المكتنز . انتظر صوتها اللاذع ، الممطوط .. يأتيه من الداخل :
  " انتظر .. قليلا "
ترقب طلتها ، اندفاع صدرها الممتلئ نحو جدار الشرفة ، يلازمها قطها السمين . يتربع على حافة الجدار .. تتخلل أصابعها فروته الوثيرة ، ومن يدها الأخرى تهبط سلتها (الخوص) .

هيأ نفسه لمماطلتها .. جهّز كميتها المعتادة من السمك .. احتجز منها قليلا .. رتب كلماته المعهودة .
سيفرغ في سلتها ما جهز . لن تقنع به . سيتعلل بغلو الأسعار .. سيظل يصعد برأسه .. ينزل بها ، مرارا ؛ حتى تتمكن عيناه من غزو ما بين نهديها ، ولو للحظة …

سيعطيها ما تطلب ، ويزيد . ستمنحه فوق الثمن بعض الضحكات .
طال انتظاره ؛ فارتفع بعينيه .. وجد ذات القط وحيدا .. ضامرا .. ينبطح على ذات الجدار .. يتشمم ـ في لوعة ـ رائحة السمك الفائحة من السلة .

[ 4 ]

تراجعت يمناه ـ المختبئة في جيب جلبابه ـ أومأ محركا رأسه في اتجاه الشاعر الواسع …
لم يفلح (صبيه) في تحديد المكان .

انتصب واقفا ، مكورا قبضته المختبئة . تصدّر بطوله الفارع باب محله . جذب ، بيسراه ، الصبي من ياقة قميصه ، مادا رقبته بانحناءة نحو صدره .. مشيرا ـ برأسه وعينيه ـ في نفس الاتجاه .

حملق الصبي في اللاشئ مغمغما …
ازدادت الأصابع التصاقا بالكف . انكمشت ذراعه اليمنى إلي جنبه . قبضت يسراه على ياقة القميص بشدة . سحبه معه إلى خارج المحل متجها ببعض خطوات …

مع اندفاع جسم الصبي ـ في قبضته ـ ومقاومته المضغوطة ، اهتز جسمه .. تراخت الذراع اليمنى.
بلا وعي .. انسلت يمناه من جيبه .. انفلتت أصابعها الواحد تلو الآخر ـ من أسر قبضتها ـ تنقصها (سبابة) .. انضغطت رأسه أكثر إلى صدره .. امتدت ذراعه ـ مرتعشة ـ لتلاصق رأسه ، وتشغل يده ـ مفرودة ما بها من أصابع ـ الحيز أمام عيني الصبي مصوبة نحو المكان .

[ 5 ]

على ناصية شارع السوق .. لفظته الحافلة .. تخلل أنفه نسيم البحر .. راحت عصاه تتحسس خطاها في لهفة .. تطوحت رأسه فوق رقبته يمينا وشمالا ، كأنما تصغي أذناه إلى صوت ما .

إلى كتف أول مار استند .. طلب منه اصطحابه إلى أحد الأزقة المتقاطعة مع الشارع …
رفع عصاه عن الأرض .. ضمّها تحت إبطه .. شد رأسه ورقبته ؛ فاستقامتا مرتفعتين إلى الأمام .. التحم ودليله بزحام السوق .
حين اجتازا أول تقاطع .. فاجأته رائحة الفسيخ المملح .. ابتلع ريقه الجاف ، ومضى متمتما :
 يا مسهل …
عند التقاطع الثاني .. انفجر صوت بائع الطماطم الأجش ، مخترقا صخب الشارع المعتاد .
تحسس عصاه .. همس ضاحكا :

 لن تنجو من جنونك حتى تتخلى عن بيع هذه المجنونة .
من ناصية التقاطع الثالث .. هجمت عليه روائح الفاكهة مجتمعة . رفع ساعديه إلي رأسه . قلوظ عمامته . ربّت على كتف دليله . دعا له . علا صوته متهللا :
 ها .. قد وصلنا .
ومضى .. تتحسس عصاه خطاها في ثبات إلى داخل الزقاق .

[ 6 ]

في صمت يحوي ضجر الحر الخانق ، يطرحون سجاجيدهم (المبرومة) من على أكتافهم ، الملبدة بالعرق .
تلتحم السجاجيد بتراب الشارع .. يتوالى فردها .. الأكبر ، فالأصغر ، فالمشايات والدواسات على الأجناب .. تتراص أطقم الفرش المغلفة عليها .. ينتشرون حولها .

يحوم كبيرهم حول المنظومة متفحصا ، متمما .. يرتكن بيمناه إلى جانب الحائط . تستقر يسراه إلى جانب خصره . تتابع عيناه المتطلعتان أجواء الشارع .
يبدءون في نداء جماعي .. يرن .. تتساقط من كلماته الحروف متسارعة .. تلحق منها الآذان ما تبقى منغما.
من الشبابيك الواطئة تتطلع رؤوس حاسرة ، ومستترة . من الشرفات ـ المطلة منها أرتال الغسيل المنشور ، والمفروشات المتهيئة لهواء يتجدد ـ تتدافع الأبدان (الرخوة) .. ترتكن إلى جدارات تتدلى منها أغطية الأرض المتهالكة منها ، والمتماسكة .
تتفحص أعين . تمتد سبابات . تتداخل رنات الأصوات المتباينة .

على هوامش الأسئلة .. تثار أحاديث جانبية .. مجادلات …
من بين صمت متفرج ، وانسحاب بعد اطلاع .. تطفو مفاوضات مجهدة للشراء .
………
………
يبدءون في (برم) ما تبقى من سجاجيدهم .. تلتحم بأكتافهم . يتأبطون الأطقم .. المشايات والدواسات .. يطبقون عليها . يعاودون الانتقال في صمت .

[ 7 ]

وسط كتل الأبدان المنحشرة بالحافلة …
تزج به الكرة الزجاجية الشفافة ، الساكنة لما بين صدغه ورقبته من جهة ، وذراعه المحوطة عليها من جهة. تتمايل مع تمايل ذراعه .. تسكنها لفافات الحلوى ـ بيضاء وعسلية اللون ـ متلاصقة ، تعلو حتى الفتحة الدائرية المشطوفة للكرة .. تبرز منها متراصة . يلتقط أنفاسه . ينطلق صوته الرخيم :

" عسل أبيض .. وحليييب "
بطوله الفارع ، ومن خلف نظارته الطبية الممسوحة بعناية .. يتخطى بعينيه الصفوف المتراصة على الجانبين ، ورؤوس المتزاحمين بالوسط المتماوج .. المتأرجح مع تأرجح الحافلة .
محاذرا أن تنزلق منه الكرة ، وبجانبه الرشيق .. تنفلت قدماه بخفة . يبلغ قرص منتصف الحافلة المفصلي . تواصل عقيرته ناعمة ممطوطة .
" جوز الهند .. وزبيييب "
يطيب النغم المنفلت من زحام متبلد . تنفلت البسمات من وجوه ضجرة متأففة .
تتململ يده على الكرة .. ثم تثبت . ينطلق ، قيد خطواته ، في زحام نصف الحافلة الأمامي . يرفع يده الطليقة ، يمسح بها العرق عن جبهته .. يخفضها .. يخرج بها ، من حواشي سترته وجيوبه المنتفخة ، لفافة صغيرة وأخرى كبيرة .
يتناقلهما بين أصابع يده بخفة . يرفعها . يكمل :

" صغير وكبير .. عاللسان بيدوب "

ترمقه الأعين ملبية . تظل يده الطليقة تدخل في حواشي سترته وجيوبه المنتفخة ، وتخرج ، بينما الأخرى قابضة علي الكرة .
قبل أن ترسو الحافلة بمحطتها التالية ، يتخطى الأبدان عائدا .. يكرر مقاطع ندائه .. يؤمّن على كرته .. ثم يتحسس أسفل ظهره ، المتسرب إليه بعض الألم .
يهبط . تهبط كرته من على كتفه آمنة . يعاود التقاط أنفاسه ، تجفيف عرقه . يتأهب للالتحام بكتل أخرى ، بحافلة أخرى قادمة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى