الثلاثاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم تيسير الناشف

المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي للسياسة

السياسة مشتقة من فعل ساس الذي فعله المضارع يسوس ومصدره سياسة. وحسب المعجم الوسيط، معنى ساس الناسَ تولى رياستهم وقيادتهم، وساس الأمورَ دبّرها وقام بإصلاحها فهو سائس والجمع ساسة وسُوّاس. وأساسَ القومُ فلانا أمورَهم: ولَّوه إياها. وسوس القومُ فلانا: أساسوه. ويقال سوسوه أمورَهم. إن رياسة وقيادة السائس للناس وتدبيره للأمور تقع في مختلف مناحي الحياة. والرسول (صلعم) كان سائسا أو سياسيا.
هذه هي معاني السياسة التي كانت قائمة في العقود الإسلامية الأولى. ووفقا للعالم ابن عقيل الحنبلي أن السياسة هي كل فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. والأمور التي يقوم السائس بتدبيرها وإصلاحها مرسلة، بمعنى أن التعريف لم يحدّد ماهية هذه الأمور. وبالتالي يمكن أن تكون هذه الأمور أمورا اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمورا تتعلق بالحقوق والواجبات والمعاملات.

والسائس، في توليه لرياسة الناس وفي قيادته لهم وفي تدبيره للأمور وإصلاحه لها، يستند إلى أساس أو مصدر أو مستند من المستندات أو مرجع من المراجع أو مرجعية من المرجعيات. يمكن أن يكون هذا المرجع عقيدة أو دستورا أو قانونا أو فكرا دينيا أو عقيديا أو روحيا أو رأسماليا أو علمانيا أو وثنيا أو قوة عسكرية أو غيرها. ثمة مرجع الشريعة في السياسة، بمعنى أن ثمة رياسة أو قيادة للناس وتدبيرا لأمورهم ترجع أو تستند إلى الشريعة التي هي القرآن الكريم وسنة رسوله (ص). ونظرا إلى هذا المستند فإن السياسة الداخلة في رياسة الناس وتدبير الأمور تسترشد وتستلهم القرآن والسنة. ونصوص القرآن والسنة النبوية تنص على فرائض وواجبات وتشريعات في العقيدة والعبادات والمعاملات بين الأفراد وفي مجال العلاقات الدولية، وتنص على الضروريات التي جاء الإسلام ليحافظ عليها وينميها والتي تقع في مجالات الحياة الدنيا والآخرة، ضروريات من قبيل الدِّين والنفس والنسل والعقل والمال. ومن علوم الفقه الإسلامي السياسة الشرعية، وهي تعُنَى بالعبادات والمعاملات، ومنها المعاملات المالية، ومن ضمنها الزكاة التي ليست عبادة فقط ولكنها فريضة مالية تدخل في النظامين المالي والاجتماعي، وفقه الأسرة والأحوال الشخصية، وفقه الإجراءات والدعاوى والبينات والمرافعات، وفقه الجرائم والعقوبات، وفقه المواريث، والفقة الدستوري، وفقه العلاقات الدولية.

وعرّف علماء الإسلام الخلافة بأنها نيابة عن رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. والآيات من قبيل "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (الآية 48، سورة المائدة)، و"وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون" (الآية 49، سورة المائدة)، و"أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" (الآية 50، نفس السورة) – هذه الآيات وغيرها آيات سياسية بمعنى أنها تقود الناس وتوجههم وتدبر أمورهم.

ونصوص القرآن والسنة هي المصدر الذي يدعو الإسلاميون إلى استناد السائس إليه في رياسة الناس وتدبير أمورهم في مختلف مناحي الحياة. والأمثلة على ذلك الواردة في القرآن الكريم والسنة المشرفة كثيرة. على سبيل المثال، قوله تعالى في سورة البقرة: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم" – بمعنى فُرض عليكم – "الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم". هذه الآية، التي تتعلق بأمر الدنيا وأمر الآخرة أيضا، جزء من مستند الشريعة في سياسة السائس المتبني لهذا المستند في رياسته وقيادته وتدبيره للأمور.

وعنصر السياسة بالمعنى الذي بسطناه موجود في مختلف المجالات بغض النظر عن المستند الذي يستند إليه السائس في تولي رياسة الناس وقيادتهم وتدبير أمورهم وإصلاحها. ذلك يوضح بجلاء أن السياسة بهذا المعنى غير منفصلة ولا يمكن أن تكون منفصلة عن مختلف الأمور أو الشؤون في مختلف مجالات الحياة والمعيشة والوجود. وبالتالي فإن الفصل بين السياسة والأمور في مختلف المجالات يدل على سوء فهم خطير لمعنى السياسة.
وبعض الناس يرتكب سوء الفهم هذا. ومرد سوء الفهم هو أن بعض الناس يخلط بين حضور السياسة في مختلف الأمور، من ناحية، ومصدر أو مستند السائس في تولي الرياسة والقيادة وتدبير الأمور وإصلاحها، من ناحية ثانية.
وينطوي هذا الخلط على خطر كبير لأن عدم فهم انفصال المستند الذي تستند السياسة إليه عن مجالات أو مناحي الحياة الكثيرة التي فيها يرأس السائس الناس ويتولى أمورهم – عدم الفهم هذا يوجد الارتباك والتشويش الفكريين.

والسياسة في المفهوم الإسلامي ليست مدنسة. إنها مرتبطة بالأخلاق الرفيعة الشريفة. في السياسة بالمفهوم الإسلامي لا تبرر الغايةُ الوسيلة. يجب أن تكون الغايةُ شريفة ووسيلة تحقيقها أيضا نظيفة. ليس من المقبول من منطلق المفهوم الإسلامي التوسل بوسائل باطلة لتحقيق الغايات.
ونظرا إلى أن السياسة هي رياسة السواس للناس وتدبير السواس للأمور، ونظرا إلى أن القرآن والسنة يدعوان إلى شرف الغاية ونظافة الوسيلة، فإن السياسة التي تستند أو ترجع إلى الشريعة ترفض فكرة التوسل بالوسائل المدنسة لتحقيق هدف من الأهداف. وبالتالي يتضمن مفهوم السياسة الصدق وعدم المراءاة. وباعتبار الشريعة مرجعا للسياسة فمن الصفات التي يتضمنها مفهوم السائس احترام المعاهدات والتمسك بالمواثيق.
وبالسياسة بالتعريف والمعنى الغربيين يرتبط الغش والخداع والألاعيب والدنس. من الأمثلة على هذا الفكر كتابا الأمير والمطارحات للكاتب الإيطالي ماكيافيللي، المفكر في شؤون الحكم والعلاقة بين الحاكم والرعية، وكتابات المفكر الأمريكي هارولد لوزويل في القرن الماضي. رأى ماكيافيللي أن السياسة تنطوي على الألاعيب والأحابيل والغش والخداع والمراءاة بوصفها وسائل لتحقيق الهدف. ويرى غربيون من مفكرين وسياسيين أن الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى