الثلاثاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم هيثم جبار الشويلي

ذات الرداء الأسود

يا الهي ما لحظي العاثر هذا، اغلب الذين يجلسون إلى جواري أصحاب الكروش الممتلئة والجيوب الفارغة، سواء جلس بجانبي أو جلس على الكرسي المقابل لي، أتساءل بيني وبين نفسي لماذا لم تجلس إلى جانبي شهريار الصباح كي أتبادل معها أروع القصص أو بدر البدور لتحملني معها إلى قصر والدها السلطان أو بنت اللورد روتشيلد لتحملني معها إلى القنصلية البريطانية، اغلبهم ممن تزاحم أجسادهم ملابسهم، كما أتذكر احد الذين جلسوا على الكرسي المقابل لي شخص تتدافع أزرار قميصه متناحرة فيما بينها واخص بالذكر تلك الأزرار التي تقع وسط قميصه.. كانت تعاني اختناقاً عظيماً حيث كان يجهدها... كان هذا بالنسبة لي مشهداً يومياً بدأت أسأم منه.

الحافلة تنتظر قدوم زبائنها التي اعتادت عليهم يومياً، كنت أول من يستقل الحافلة الصغيرة، وكالمعتاد أيضا كان أول الجالسين إلى جانبي شخصُ يضايقني بجسمه المترهل بادرته قائلا: يا هذا كان الأجدر بك أن تخصص لك مقعدين لتجلس عليهما بمفردك، كي تأخذ راحتك، حتى لا أضايقك أنا.. قال: كلا على العكس من ذلك، فأنا مرتاح جداً.. ندبت حظي مرة أخرى ولعنت هذه الرقعة الجغرافية التي ستكون عما قريب منجماً لأصحاب الكروش المملوءة، ها هي الحافلة توشك على امتلاء مقاعدها، لكن بقيت الكراسي المقابلة لي، كانت تلك الكراسي من حصة اثنين من النساء وكان ثالثهم رجل أعور الثياب..عفواً، اعور الوجه.. عفواً، اعور العينين، ها هي الحافلة تنطلق وسط زحامٍ مروري كثيف، كانت تجلس إلى جوار الرجل الأعور امرأة عجوز أكل الدهر عليها وشرب، بيدها كيس لمجموعة من الأدوية القديمة، الكيس بالٍ تماماً، تجلس إلى جوار المرأة العجوز، امرأة في الأربعين من عمرها على اقل تقدير، لكنها كانت تضاهي الفتيات في سن العشرين، من محاسن الصدف أني أقابلها تماماً في الحافلة، أنا الآن أمامها وجهاً لوجه، بدأت أمعن النظر فيها جيداً، لحاجبيها وقعٌ خاص بالنسبة لي، حيث ينمو شعر حاجبيها بشكل غير منتظم وغير طبيعي، شعر حاجبيها يتبعثر هنا وهناك، وهذا ما شدني إليها، توفرت في ذهني تساؤلات..لماذا لم تزين حاجبيها؟! لكني رأيته في كثافته ونموه غير المنتظم أجمل من تلك التي تجلس ساعات أمام المرآة لتظفر بجمال ورونق حاجبيها، تفحصت عيناها وتذكرت السياب الذي يغفو الآن على ضفاف شط العرب..تذكرته حين قال:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبتسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجه المجداف
وهنا ساعة السحر

نعم أيقنت بأنها ساعة السحر، من فمها رأيتها... تُتمتم ببعض الكلمات، لان الطريق محفوفٌ بالمخاطر والآفات، فوق شفتها ينمو بعض الشعر الخفيف، كان يزينها.. كما يضفي رونقاً جذاباً وجمالية فائقة الوصف على فمها الباسم، ضوء الشمس الذي يداعب ويناغم الشعيرات الناعمة يضفي عليها لوناً أشقر، ذاك الشعر الذي اتخذ من اعلى الفم مكاناً ليطل به ويغازل شفتيها الجميلتين، في لحظة ما حاولتَ لملمة نفسها، رأيت خصلة من الشعر الملون تغطيه بقطعة من قماش سوداء، أيقنت بأنها تخفي جمالاً لا نظير له لرجل يقبع خلف الكواليس، أجمل ما فيها رداؤها الأسود الذي يشع بياض جسدها من خلاله، كل معانيها يصعب وصفها بأدق التفاصيل كان صوت المذياع يصدح قوياً ومدوياً بترتيل للقرآن الكريم، وأتذكر كان بالتحديد عند قراءة الآية ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، كان الرجل الأعور ينظر لنا بامتعاض كبير على أساس أن الآية وضعته موضع الريبة والشك بالنسبة للجميع، كنت عندها أضع يدي على خدي أمعن النظر بها كثيفاً، بدأت تبادلني نفس الشعور، انسابت مني نظرة شيطانية لتمزق الجدار الفاصل بيني وبينها، اصفر وجهها وارتعدت فرائصها وتزحزحت من مكانها قليلاً، أصابني الخجل نوعاً ما، إلا أنها سرعان ما استعادت ثقتها بي، حتى عاودتُ النظرة مرة أخرى لكنها لم تكترث لي، أدارت وجهها نحو نافذة الحافلة الأخرى وغاصت في صمت كبير، ثم التجأت إلى حقيبة كانت تخبئها تحت ردائها الأسود، أخرجت منها قصاصة من ورق وقلم، استترت بعباءتها وبدأت تكتب شيئاً ما، بعدها وضعت القلم في حقيبتها وأمسكت بيدها تلك القصاصة الصغيرة، أحسست بأنني أنا من سيمتلك تلك القصاصة لأنني أنا المعني بها فكنت على يقين بان في تلك القصاصة أحد وسائل الاتصال التي من خلالها سوف اتصل بها على انفراد بعيداً عن الرجل الأعور الذي كان يراقبني طوال الطريق وعن صاحب الجسد المترهل بالشحوم الذي ساعد على مضايقتي طوال الطريق، كنت أظن في تلك القصاصة رقماً للهاتف أو عنواناً لبريد الكتروني، فأسرعت في النزول من السيارة، نظرت إليها ونظرت إلي، كانت تحاول إعطائي القصاصة الصغيرة، مددت يدي لأخذ تلك القصاصة من يدها، لامست يدي يدها، أحسست بصعقة كهربائية انسابت في جسدي لتشله، عندها أيقنت بأنني أصبت بشلل رباعي تام، لم أتمالك نفسي، تسمرت قدماي عند باب الحافلة، عند نزولي من الحافلة رمقتها بنظرة أخيرة... رفعت يدها لي لتودعني، بادرتها برفع يدي لها، مازلت انظر للحافلة حتى اختفت وتوارت خلف كثبان الحافلات وأسراب الدخان المنبعث من المركبات التي تسير في الشارع، أسرعت لان أرى أيّ وسيلة اتصال تركتها لي، إلا أنني صدمت لما رأيت مكتوب بها "عزيزي وولدي ما زلت صغيراً على تلك النظرات الصبيانية، قلبك اصفى من تلك النظرات الشيطانية، فإنها ليست لك، أما بخصوص الجمال الذي أحاول عدم إظهاره فتذكر قوله تعالى "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن...". عندها شعرت بالخجل كما شعرت به لأول وهلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى