الاثنين ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

اتهام نازك الملائكة بأنها خائنة للعراق..

مجرد إثارة أم وقاحة؟

بمجرد أن لمحني صديقي وزميلي عبدالكريم حشيش، وأنا أدخل مكتبي في الراية، اندفع ليحييني وعلي وجهه إمارات الغضب، حيث اصطحبني إلي مكتبه.. ماذا في الأمر؟.. أشار بيده إلي جهاز الكمبيوتر، وهو يقول: أنظر إلي ما هو مكتوب عن الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي نعرف أنك تعشق روائعها منذ أن كنت شاباً صغيراً!.. كان عبدالكريم حشيش قد تابع موقع إيلاف الالكتروني، كما هي عادته، لكنه توقف - مصدوماً ومغتاظاً - أمام مقال بثه إيلاف وفيه اتهام لنازك الملائكة بأنها خائنة لوطنها - العراق، لأنها أوصت بأن يدفن جسدها بعد رحيلها عن عالمنا في تراب مصر!!.

لكي أخفف من غضب الصديق والزميل، تظاهرت بأني لم أغضب، لكن عاصفة غير مرئية من الغضب كانت تجتاح أعماقي، وقلت علي الفور: .. وماذا سيفعل كاتب هذا المقال في إيلاف إذا توفي فجأة في لندن أو في أية مدينة أوروبية أخري، طالما أنه يقيم خارج العراق هو أيضاً.. ماذا سيفعل إذا لم تتح الفرصة لنقل جسده ليتم دفنه في العراق؟.. هل سيحاسب نفسه وهو في القبر الأوروبي، وهل سيحاكم ذاته باعتباره خائناً للوطن؟!.

إذا كان عبدالكريم حشيش قد نبهني الي مقال خضير طاهر الذي بثه موقع إيلاف فإني تنبهت الي مقالات أخري بثها هذا الموقع، من بينها مقال لكاتب أحترمه وأقدره هو عبدالقادر الجنابي، لكن عنوان مقاله جاء سخيفاً، ولا يحمل أي ملمح من ملامح الذوق: نازك الملائكة ولقيطها: قصيدة النثر ولم أتوقف عند قراءة مقال عبدالقادر الجنابي، بل اندفعت لأقرأ تعليقات القراء التي تشتمل علي ستة وعشرين رداً، وكان الرد الأول رقيقاً ومهذباً في التعامل مع العنوان السخيف للمقال، حيث قال علي سلمان في رده بالحرف الواحد: ليس لي من الاهتمام بالشعر إلا ما ندر.. ولكن عنوان المقال أثارني في يوم تشييع الراحلة نازك الملائكة لأتوجه لكاتبه ببعض الكلمات أتمني أن يتسع صدره لقراءتها.. ألم يكن من الأفضل أن تحتفظ بمقالك حتي تمر الأيام الثلاثة الأولي بعد وفاة الشاعرة.. فللميت حرمته فكيف إذا كان - شئنا أم أبينا - شخصية ثقافية كانت لها سمعتها المتميزة في العراق والعالم العربي.. أليس حقاً لهكذا شخصية أن تؤجل أي تصفية للحسابات الثقافية معها لبضعة أيام؟.. .

أما القاريء الذي رمز لنفسه باسم عربي عراقي فقد وصف المقال بأنه تافه، وقال بالحرف الواحد: المرحومة نازك الملائكة مؤسسة الشعر الحر الرفيع المستوي الذي ينتمي إليه القباني مثلاً، وهي غير مسؤولة عن التدهور اللاحق في الشعر كقصيدة النثر، مثلما أن المتنبي غير مسؤول عن بعض الشعر العمودي الركيك.. رحم الله نازك الملائكة وأسكنها فسيح جناته وألهم أهلها ومحبيها الصبر والسلوان ..

هذان ردان من بين الردود الستة والعشرين التي كتبها أصحابها من القراء تعليقاً علي مقال عبدالقادر الجنابي نازك الملائكة ولقيطها: قصيدة النثر ، وأعود الآن إلي المقال الذي كتبه خضير طاهر، والذي يتضمن اتهام نازك الملائكة بأنها خائنة للعراق، وهو اتهام لا أساس له ولا دليل، ومنه نتأكد أن النفوس المريضة تحب أن تبث سمومها باستمرار، لأن طبيعتها لا يمكن أن تتغير، إذ لا يمكن للأفعي أن تكف عن الفحيح، ولا يمكن للعقرب أن تتوقف عن اللدغ!!.

طاهر هو والد خضير كاتب المقال الذي تتجلي من سطوره مظاهر القبح لا الطهر، كما تفوح من كلماته رائحة العنصرية ضيقة الأفق، حيث رأي هذا الكاتب أن وصية نازك الملائكة بدفنها في القاهرة بعيداً عن وطنها كشفت عن كراهية واضحة للعراق، وتفضيل القاهرة عليه، وبكل حماقة وسخف حاول الكاتب أن يشكك في الانتماء الوطني للشاعرة العربية العراقية الكبيرة، وأشار إلي أنها من أبناء طبقة ارستقراطية، يهرب أفرادها من الوطن، كلما نشبت فوق أرضه حروب!!.

لا يستحق هذا المقال الغادر وغير الطاهر في سطوره وكلماته عناء الرد عليه، ولكني أود أن أشير إلي ما يعرفه كثيرون، ممن قد ينسون هذا الذين يعرفون، ربما نتيجة لزحمة الشواغل الحياتية اليومية.

علينا هنا أن نتذكر أن شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري يرقد منذ رحيله عن عالمنا في ضريح قريب من مسجد السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهذا المسجد في دمشق، وليس في بغداد، كما أن الشاعر الرائد الكبير عبدالوهاب البياتي يرقد في ضريح فوق جبل قاسيون الذي يشرف كذلك علي دمشق وليس علي بغداد، فهل هذان الشاعران العراقيان الكبيران - الجواهري والبياتي - قد خانا الوطن الذي ينتميان إليه لمجرد أن جسد كل منهما قد ووري الثري خارج أرض العراق؟.. إذا كنا سنقيس الأمور بهذا الشكل الأعرج المعوج، فإن خيانة الشاعر الرائد الكبير بلند الحيدري لا بد أن تكون أكبر وأفدح، لأنه - وهو المسلم العراقي - يرقد في مقبرة بعيدة عن أية أرض عربية، لأنها موجودة في لندن - عاصمة الإنجليز الذين كانوا يحتلون العراق وسواه فيما مضي؟.. وعلينا أن نتذكر كذلك أن الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو يرقد أيضاً في لندن، ولكن لم يتهمه أي كاتب فلسطيني - من طراز خضير طاهر - بأنه خائن لوطنه فلسطين!!.

وإذا كان الذي قام باتهام نازك الملائكة بأنها خائنة للعراق، يريد شهوداً يؤكدون له أن الجواهري والبياتي قد خانا الوطن قبلها، فإني مستعد للاعتراف بأني يوم الخميس 6 يوليو - تموز سنة 2000 قد قمت بزيارة ضريح كل شاعر منهما في دمشق وليس في بغداد، وكان بصحبتي الصديق الشاعر السوري عبدالقادر الحصيني الذي كان خير رفيق ودليل في الوصول - بعد عناء - إلي موقع كل ضريح.

أريد الآن - وقبل خاتمة هذه السطور - أن أشير الي ظاهرة عامة ملموسة، ويعرفها الجميع بالطبع، وتتمثل في كثرة المواقع الالكترونية، وهي تختلف فيما بينها بطبيعة الحال، لكن من هذه المواقع مواقع لا تسعي إلا الي الإثارة في أي مجال كان، من الإثارة الجنسية الي الفضائح السياسية، ومن اختلاق قضايا لا أساس لها إلي محاولة الوقيعة بشكل منظم بين أبناء العروبة من خلال اللعب بعواطف البسطاء فيما يتعلق بالمذاهب والمعتقدات والانتماء لهذه الدولة العربية أو تلك، أو لهذه القبيلة أو تلك، وفي تقديري أن هذه الظاهرة العامة الملموسة هي كارثة حقيقية.

المشكلة التي تتطلب علاجاً فعالاً وحاسماً تتمثل في أن أحداً لا يحاسب أحداً، وذلك لأن كثرة المواقع الإلكترونية يدفعها لأن تتنافس فيما بينها علي كسب مزيد من القراء الذين يرتادون فضاء الانترنت، وهنا تلجأ مواقع معينة الي الإثارة، وإلي زرع الفتن وإعداد المكائد والكمائن، وإلي أن يتم اكتشاف العلاج الفعال والحاسم، سنظل نقرأ اتهامات من طراز اتهام الشاعرة العربية العراقية الكبيرة نازك الملائكة بأنها خائنة للعراق لمجرد أنها ترقد الآن في تراب مصر!!.

مجرد إثارة أم وقاحة؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى