الثلاثاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم حسن المير أحمد

"فنون" الثرثرة!!

بين حين وآخر، أجد نفسي مدفوعاً بحشرية تغذيها طبيعة مهنة المتاعب التي ابتلينا بها، على الرغم من جمالياتها، إلى لعب دور المراقب الدقيق لبعض الظواهر قديمة كانت أم حديثة.. ثابتة راسخة أم طارئة راحلة، فأعد أسلحتي الخفيفة والثقيلة التي لاتتجاوز الحواس الخمس التي أمتلكها مثل بقية الكائنات الناطقة، وأشحذ ذاكرتي وأوسّع قدرتها الاستيعابية لتخزن ما تلتقطه بدقة حول الأمر الذي احتلّ قمة اهتمامي لسبب أو لآخر!!

في الآونة الأخيرة شدتني ظاهرة الثرثرة، وخاصة عند النساء، التي بدأت تأخذ حيزاً واسعاً من أوقاتهن في أي مكان، حيث لاتهدأ الأفواه والألسن عن الحركة ولايمكن أن يعمّ السكون، ولو للحظة، في الحيّز الذي توجد فيه أكثر من امرأة واحدة!

واقتحم هذا البلاء أماكن العمل بقوة، بحيث لاتجد امرأة تجلس وراء مكتبها لأكثر من عشر دقائق متواصلة لتنهض بعدها إلى زميلتها أو زميلاتها وتبدأ حفلة ثرثرة جوفاء لا معنى لها ولا قيمة لمضمونها، وغالباً ما تتناول مسائل سخيفة لا دخل لطرف من أطراف تلك الحفلة فيها؛ فيهدرن الوقت ويعطلن الإنتاج من دون أي إحساس بالخطأ الذي يقترفنه!!

وللثرثرة أضرار كثيرة، فعلى المستوى الفردي تسيء للشخص "المسجّى على المشرحة" وتجعل الآخرين ينفرون منه، وربما تقود إلى مشكلات تقوّض العلاقات الأسرية والاجتماعية، كما تنسحب تلك الأضرار أحياناً على المجتمع ككل، فالمرأة الثرثارة قد تخرق أسرار بلدها من دون أن تقصد ما يعرض الأمن القومي للخطر، وكلنا نذكر قصة المحظية الأثينية "ليون" حين قطعت لسانها لتمنع نفسها عن إفشاء أسرار المؤامرة التي جرت بين "هيرموديس" و "أرستوجيتوس"، ما يعني أن المرأة الثرثارة لاتستطيع السيطرة على ما تبوح به، وهذه طامة كبرى!!

إذاً فثرثرة النساء قضية شائكة لها فنونها، وهي عميقة الجذور، ما دفع بالمتخصصين إلى البحث عن أسبابها الفيزيولوجية والنفسية، لعلهم يجدون طريقة ما للحد منها، وفي هذا الإطار أثبتت دراسة علمية ألمانية أن متوسط عدد الكلمات التي تنطقها الأنثى في اليوم الواحد يبلغ عشرين ألف كلمة، بينما لايتجاوز العدد لدى الذكر سبعة آلاف كلمة.. ومن هنا يمكن أن نتخيل حجم ما نسمعه من أكاذيب وأضاليل، تماثل كرة ثلج كلما تدحرجت ازداد حجمها وتنامت وأضحت أقدر على الأذى.. ويرى زميلنا الروائي السوري عبد النبي حجازي في إحدى مقالاته الصحفية أن ثرثرة النساء تقل فقط في شهر فبراير (شباط) لأن أيامه أقل من بقية الشهور، وهذا اكتشاف يحسب له!!

وتصدياً لهذه المشكلة العويصة، فقد فرض قانون في منطقة ألمانية عقوبة على السيدات الثرثارات اللواتي يضيّعن الوقت في الحديث مع الجارات أو زميلات العمل، ويهملن شؤون الحياة الأساسية، وحبذا لو طبق في مختلف أنحاء العالم وخاصة في بلداننا العربية، لعلنا نتجنب الكثير من الأزمات التي تخلقها الثرثرة!!

ومما لاشك فيه أن الثرثرة مذمومة منذ زمن بعيد إذ يعج تراثنا الأدبي بمقولات تحذر منها وتركز على أهمية أن يكون الكلام المتداول بين طرفين أو أكثر مفيداً مختصراً، يعبر عن الحالة بعينها ويبتعد قدر الإمكان عن الأحاديث الفارغة، فقد قيل: أفضل الكلام ماقلّت ألفاظه وكثرت معانيه. وقال أبو العتاهية:

الصمت أليق بالفتى
من منطق في غير حينه
 
لا خير في حشو الكلا
م إذا اهتديت إلى عيونه

وقال منصور الفقيه:

تعمّد لحذف فضول الكلام
إذا ما نأيت وعند التداني
ولاتكثرنّ فخير الكلام ال
قليل الحروف الكثير المعاني.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى