الخميس ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد بروحو

اللحن الأخير

استيقظت على شروق يوم خريفي . مددت يدي لأفتح نافذة غرفتي المحاذية لمخدعي . أبى الباب أن يفتح . الجو بارد في الخارج ، قطرات الندى الليلي ، تبلل الشبابيك الحديدية ، فتزيدها برودة . شغلت المذياع لاطلع على الأخبار الصباحية . كلمات تتدفق متزاحمة بين شفتي . يكسرها صوت المذياع يمتد اللسان يسبكها لتخرج سليمة .

في ركن من غرفتي كانت هناك زهرة بنفسج ، هيأتها في أصيص لتحيا ، لكنها ذبلت بعدما حجبت عنها بناية فرعونية ضوء الصباح وهوائه . عصفورة تسقط داخل غرفته. خذلت حين بحثت عن شربة ماء حاولت الانفلات خارجا لم تستطع. ترتطم بحائط الغرفة مرات حين كررت فماتت في غربة. بغرفته في الجانب الآخر من البيت داخل فضائها الموحش كان يجلس وبين يديه قيثارة. يصنع لحنا. يعزف ألحانا لكبار الملحنين ) بيتهوفن ( و )موزا ر ( . تداعب أنامله أوتارها كما يداعب الحنين دواخله والنوم جفونه. يذكر حين كان يعزف لها موسيقى ) فلامي نكو (. تملأ فرحتها خواء الغرفة. تحت ضوئها الناعس يحتل مكانا يرتب أنغامه على نوتة يثبتها في ورقة . تتأوه القيثارة نغما كما تتأوه أنفاسه حسرات على فراقها. فيصعد العزف فضاء الغرفة ، يلامس أشياءها معلقة على الجدران. مبعثرة فوق سجاد يبسط بشكل فوضوي. لمسات أنا مله لأوتار القيثارة. نظراته صوب النوتة. دندنة لمعزوفة حزينة. لحن يحكي من خلاله قصة حياة وموت. كانت النغمات في وحشة الغرفة، تنساب سجية تلامس سمعي فيهتل لها دمعي وفيا. فأحس بعذابه. بوفائه . تبكي غمامة الخريف لبكائه كلمات أنينها نغمات تتشظى على عتبة الموت.

يذكر حين كانت تغازله بنظراتها. بضحكاته . بلمساتها . يجمع خيوط سراب فينسج صورة الحياة . يحبك قصة عشق للحبيب . نثرتها الأيام برتابتها .لم يعد له من وفاء غدا هذا اللحن.

منهمك في خلقه. شاحب الوجه، سقيم الجسم . ضاعت نبرات صوته ، تجمدت أجزاء جسده. لا تتحرك إلا عينيه و أنامله. هو لا يريد إلا ذلك. يشخص ببصره إلى ورقة النوتة ويداعب بأنامله أوتار القيثارة . يعزف هذا اللحن ودموعه تنهمر على خديه . إحساسه هو الذي يعزف وقلبه هو الذي يحكي. تتكلم جوارحه عبر لحنه الأخير هذا . توسط خشبة المسرح كل الأضواء مسلطة عليه . عمد أن يجلس و ظهره للجمهور ، يريد إخفاء حزنه . إنه الآن يحكي قصة فراق حزينة بأنغام معزوفة لحن أخير. الصمت يطبق على القاعة كل أضوائها منطفئة إلا أضواء الخشبة .

تتردد عبر فضائها من قيثارته جمل موسيقية . أكمل العزف. أضيئت القاعة ، حين استدار لم يكن هناك أحد يستمع إليه كانت القاعة فارغة إلا من طيف أسود يحتل مقعدا في الصفوف الأخيرة.

في ذاك المساء قصدته زائرا غرفته تجاور غرفتي. وجدت بابها نصف مغلقا طرقته بلطف لكني لم أتلق جوابا. دلهت الغرفة بتردد . كان يرقد فوق سريره والقيثارة على يمينه والنوتة فوق صدره والعصفورة ميتة تحت فراشه ناديته لم يستجب لي ، اقتربت منه حركته جثة . سويت القيثارة وعزفت اللحن . حين تركت الغرفة وجدت جمهرة من الناس محلقين باصرين نحوي ، في عيونهم دموع وفي نظراتهم حسرات و على شفاههم بسمات حزينة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى