الأربعاء ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم حسين أبو سعود

الشعراء والموت في الغربة

وهكذا يموتون في المنافي الواحد تلو الآخر

يموتون هكذا بلا ضجة، إنهم كما يقول المثل الصيني ولدوا فتعذبوا وماتوا، فالإنسان اذن قصة قصيرة، ويقال إن الشاعر ناظم حكمت جاء الى حلب وسرعان ما غادرها لظروف طرأت فقال : ما أن اتينا حتى رحلنا، فليبارك الله حلب.

الموت حق، ولكن الموت غريبا وحيدا يختلف عن الموت بين الاهل والمعارف والاصدقاء، وان كانت النتيجة واحدة، ومن الصعب على الانسان ولا سيما الشاعر ان يترك هذه الدنيا المليئة بالمباهج وهو الذي طالما تغنى بجمالها وسحرها ومحطاتها وباقي تفاصيلها، فيترك المباني والمغاني وهذه الساعات المزدانة بالدقائق والثواني.

مرة اخرى ان الموت حق، وانه قدر شعراء العراق ان يموتوا بعيدا عن ارضهم وتغسل اجسادهم بغير مياه دجلة والفرات، ولكن العزاء في ذلك بان شعراء العراق الكبار تخطوا الحدود الوهمية للبلدان ودخلوا الى العالم الارحب الاوسع وصاروا معروفين في جميع انحاء الوطن العربي والعالم، فهم ان ماتوا فاجسادهم الى التراب ( منها خلقناكم واليها نعيدكم) واما ارواحهم فتعرج الى السماء ولا جنسية في السماء، وتبقى اثارهم في قلوب المحبين والعارفين في جميع ارجاء المعمورة.

وانا شخصيا ضد نبش القبور واعادة الجثامين، فما كان يضر جسد كمال سبتي مثلا الذي مات وحيدا في شقته في احدى مدن هولندا وطلب ان تعنون رسائله بعده الى السماء ان يدفن في تلك الارض بين ازهار التوليب ويكتب على شاهد قبره : هذا الغريب هو شاعر عراقي عاقر الكلمة ورسم لوحات رائعة بالقلم والقلق المستمر، فيقف اهل المدينة والسياح دقائق حزن على قبره ثم يودعونه بزهرة برية ملونة وهكذا تتكاثر الازهار عنده ثم تاتي الاطيار لتنوح عند الغرباء.

هكذا نحن شعراء وغير شعراء ندفع الثمن الباهظ للغربة، وقد روى لي احد الاصدقاء انه رأى في احد مساجد لندن جنازة يُصلى عليها بحضور ثلاث رجال وأمراتان وطفل، فسأل عن هذا الغريب المسجى المحفوف بذل الاستخفاف، فقيل انه عراقي بلا أهل ولا عشيرة، وقبل فترة اسقطت زوجة احد العراقيين جنينا لانثى مكتملة التكوين، فاخبرته الممرضة بان ادارة المستشفى ستتولى دفن الجنين، فوافق الصديق باعتبار ان الاجنة لا تحتاج الى غسل وكفن وصلاة جنازة، لكن زوجته رأت جنينها في المنام تعاتبها قائلة بلهجة عراقية أصيلة ونبرة مخنوقة بالعبرة : ( يمه ليش تخلوني وحدي او شلون خليتوني وحدي ) فقام الزوج بعد ذلك بالذهاب الى المستشفى وانهى اجراءات استلام الجسد الصغير وتوجه به الى مقبرة للمسلمين لوحده لولا ان التحق به شخصان فيما بعد ليكونوا ثلاثة لا رابع لهم، وهكذا حتى الاجنة تعيش هاجس الغربة والمنفى وتخاف من لسعات الوحدة.

لتتلقف ايدي الملائكة نازك الملائكة وباقي الشعراء وكان من المفروض ان تحصل الشاعرة على التكريم اللائق لها في حياتها ولكن العادة عندنا جرت ان نكرم المبدعين بعد يأوون الى النسيان في بعض الحفر، كما جاء في احدى قصائدها.

ليظل الجواهري في الشام ولتنام نازك في ثرى القاهرة بسلام حتى ينهض العراق من خرابه ثانية فتعاد شعائر الدفن مرة اخرى في القلوب، فلنا اليوم شغل شاغل في دفن احبتنا الذين يسقطون يوميا بفعل مجهول،يا لله وهذا المجهول كم هو جبار وعنيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى