السبت ٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

الطريق الشاق نحو الكتابة

أحيانا يرسل لي بعض الكتاب من الشباب محاولاتهم الروائية والقصصية الأولى ، وفي كل مرة أتناول فيها نصا من تلك النصوص أقرأه ممتلئا بالشعور بأن أحلام وعقل وروح شخص ما أمانة بين يدي ولو للحظة قصيرة. ومن هذا المنطلق أتحدث إلي الكاتب الذي غالبا ما يفاجئني بأنه لا يتوقع سوى النجاح ، وسماع قصيدة طويلة في امتداح العمل تخلو من أية ملاحظات جدية بشأن الموضوع أو الطريقة أو اللغة. ولا شك أن كل كاتب بحاجة ماسة إلي الإطراء والمديح، أو كما قال لنا يوسف إدريس ذات مرة : الكاتب مثل المقرئ إذا لم يسمع في الصوان من يقول له : الله يا مولانا الله ، فتر صوته وباخ وصار قبيحا !

لكن الكاتب في الوقت ذاته بحاجة ماسة أيضا إلي كل كلمة صادقة. وعادة فإن الذين يتوقعون نجاحا سريعا لا يثيرون في نفسي سوى الشك في أصالة مواهبهم . تكفي نظرة على حياة كبار الكتاب لنعرف مدى الفشل الذي تدربوا عليه عبورا إلي الكتابة . إن ما نذكره الآن عن سرفانتس أنه كاتب عظيم فحسب ، ترك عملا خالدا هو " دون كيشوت " ، لكننا لا نتذكر طريقه الشاق إلي الكتابة ، وأنه قبل دون كيشوت كتب ونشر مجموعة من القصائد تعد من أردأ ما عرف الأدب الأسباني من شعر مكسور‍‍‌‍‍، حتى أن لوب دي فيجا وكان من كبار كتاب المسرح أشار في خطاب له إلي أنه " ليس في أسبانيا شاعر أسوأ من سرفانتس " !
وبعد فشله في الشعر اتجه سرفانتس إلي المسرح ، فكتب أكثر من عشرين مسرحية لم يكتب لواحدة ‍‍‍منها النجاح ، وأخيرا حاول أن يكتب قصة من قصص الرعاة ، فلاقت الفشل أيضا . وحين بلغ سرفانتس عامه الثامن والخمسين كان رجلا محطما خائب الأمل ، وبدأ يكتب دون كيشوت َ‍! لم يحظ سرفانتس بذلك النجاح السريع الذي يتوقعه بإلحاح كتابنا من الشباب ، لكنه تدرب على فشل طويل نحو الكتابة .

أما أونوري دي بلزاك صاحب الملهاة الإنسانية وغيرها من الروائع ، فلم يسمع حين قدم أول مسرحية له إلي أحد أساتذة الأكاديمية الفرنسية سوى العبارة التالية : " قم بأي شيء في المستقبل ما عدا الكتابة الأدبية " ، وفي غضون ثلاث سنوات ألف واحدا وثلاثين كتابا من قصص المغامرات وظل مجهول الاسم ومحاطا بالديون وهو يناهز الأربعين ! اسكندر ديماس الأب كتب عشرات المسرحيات والقصص التي لم تر واحدة منها النور . وكان كلما رفض ناشر أن يقابله يكتفي بالابتسام للسكرتيرة قائلا : " شكرا يا آنستي لست ممن تخور عزائمهم بسهولة ، سأمر ثانية ". وعندما كتب الأديب الفرنسي العظيم جوستاف فلوبير روايته الرائعة " مدام بوفاري " لم يلق أي إعجاب ، وعلى العكس من ذلك وصفه النقاد في حينه بأنه خطر على المجتمع والأخلاق ، وألقت الحكومة الفرنسية القبض عليه بتهمة ترويج الأدب الخليع ، وحاكمته ، ثم حكمت ببرائته . لكن النجاح السريع لم يكن من بين أهدافه .

وقد تبقت من الروائي ناثانيال هوثورن رواية واحدة هي " الحرف الأحمر " التي صور فيها خطيئة الحب ضد العرف الإجتماعي ، وخطيئة العرف الإجتماعي ضد الحب ، لكنه لم يكتب تلك الرواية إلا بعد أن قطع طريقا طويلا من الفشل ، واجتياز الفشل ، نحو الكتابة ، حتى أنه عندما بلغ الثامنة والثلاثين لم يكن سوى : " شخص عديم الجدوى إلي درجة تبعث على الرثاء " . هذه القصص وغيرها عن معاناة الكتاب العظام ستجدها في كتاب " أعلام الفن القصصي " الصادر عن سلسلة ذاكرة الكتابة بالهيئة العامة ، ترجمه وراجعه أستاذان كبيران هما عثمان نوية ، ومحمد بدران ، وهو كتاب من الستينات يعاد طبعه . وليس القصد من كل تلك الحكايات أن النجاح السريع مستحيل ، فقد سطع نجم يوسف إدريس ما أن نشر مجموعته القصصية الأولى " أرخص ليالي " ، وهناك حالات كثيرة مماثلة ، لكن تلك تظل حالات استثنائية ، أما القاعدة العامة فهي أن الكتابة تحتاج إلي صبر وتواضع ورغبة حقيقية في التعرف إلي النواقص وإرهاف السمع إلي كل ملاحظة ، كما تحتاج إلي إنجاز أكبر قدر ممكن من الفشل ، لكي ينجح جزء ما من الكتابة ويظل مقروءا . أما تعجل الثناء وكلمات الإعجاب فإنه لا يثير سوى القلق بشأن أصالة الموهبة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى