الجمعة ١٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم مشارة

لهيب في بونصر

لا أستطيع أن أنسى منظر اللهب و الدخان ، النار تكاد ألسنتها تبلغ عنان السماء ، و الدخان يتسلل إلى حلقك مارا بخياشمك فتكح عيناك تدمعان على الفور ، و الأصوات ترتفع مصطخبة كأنها زمزمة ثم تتبين بعضها بعد لأي : إلى الأمام يا رجال ، ولّى زمن الخضوع ،لا يفرض أحد علينا مرشحا !
و تلتفت يمينا و شمالا فترى أمواجا بشرية في جيئة و ذهاب ، كرّ و فرّ ، بعضهم يحرق و بعضهم يتظاهر ، و آخرون جاءوا ليتفرجوا على الحدث ، أمّا نحن الصغار فأكبرنا الحدث و استمرأنا الفوضى يقول الواحد منا لصاحبه :
 إهرب حتى لا يدهسوننا إن تدافعت الأمواج البشرية !
و قد دفعنا الفضول إلى متابعة هذا الحدث الجلل الذي لم يسبق للبلدة أن عرفته عن كثب ، استبدّ بنا منظر النار العاتية ، و دوي الانفجارات و تدافع الأمواج البشرية ، فذعرنا و شعرنا بلذة عجيبة في ذات الوقت ، فقد أخرج الحدث البلدة من رتابتها و هاهم الكبار أمام أعيننا يحرقون ، يتظاهرون ، يكرون ثم يفرون ، و قد كنا نخافهم إن مارسنا شيطنتنا في الأزقة ، و جاء دورنا لنتفرج !
و المدرسة قد أغلقت أبوابها و كذلك الكتاب و قد مل بعضنا من حفظ ما كتب على لوحه بصوت جهير أو من تلقي توجيهات الشيخ حول رسم الكلمات و قد جلس على مصطبته يملي على الصبيان التحلقين حوله شيئا من القرآن ليكتبوه على ألواحهم ( ثابت، محذوف ، في صدره ، الباء تعيط ( تنادي ) على الواو ..................إلخ
بونصر تلة مرتفعة أول ما يتراءى لك و أنت تدخل زمورة ، ارتفع فيها بناء كأنه ثكنة إشمخرت أسواره ، توحي حجارته بقدم عهده اتخذه الفرنسيون أيام الاحتلال ومصلحة إدارية خاصة ، و ادخروا بعض زواياه لحبس الثوار أو المتعاونين معهم واستنطاقهم أو تعذيبهم فلما استقل البلد اصطنعه أولو الأمر دارا للبلدية ، غير أن البناء احتفظ بهيبته و ذكرياته الأليمة فتحت كل حجر من أحجاره قرت دمعة أو قطرة دم ولا تحتضن الجدران غير الآهات و الحسرات و أنات الأنفس المعذبة ، و كم توترات الروايات بيننا عن أسرار المكان يرويها السلف للخلف فتصطك أسنان المرء و يحمد الله الواحد منا على نعمة الحرية !
و قد جاء موعد انتخاب رئيس البلدية الجديد، زكت قرى قليلة الرئيس السابق وزكت أغلب القرى مرشحا جديدا ، شابا فتيا علقت عليه الآمال و أغرتها كثرتها فجزمت أنه فائز لا محال ، و أعلنت بعد الانتخابات النتيجة ، سقط المرشح الشاب و فاز القديم! ولم يرض الحاضرون عن هذه النتيجة رأوا فيها تلاعبا و استبدّ بهم الغضب فما شعروا إلا و أقدامهم تدخل بهم إلى الدار و أيديهم تتناول أشياءها محطمة إياها ، الكراسي ، آلات الرقن ، السجلات المدنية ، النوافذ و الأبواب و أحرقوا مستودع المازوت فانتشرت حرارة رهيبة ، و تطاولت ألسنة جبارة من نار و دوت صفائح الوقود الملتهبة تصم الآذان و ترعب القلوب ، و كنا نحن الصغار أسفل التلة نأخذ ما يلقيه الغاضبون من أقلام و سجلات إلى بيوتنا أما ما لم نقدر عليه فنعبث به قليلا ... ثم نرجئ أمر النظر فيه إلى حين !!
و قد حاول رجال البلدية منع المتظاهرين من التخريب فما قدروا ، و حاولوا الاتصال بأولي الأمر في المدينة فما أفلحوا ذلك أن الغاضبين قطعوا أسلاك الهاتف وخاف بعضهم على نفسه فلاذ ببيته ، أما الرئيس القديم الجديد فخرج متخفيا ، و أطلق الخفراء طلقات نارية في الهواء فما خاف الغاضبون و لا تراجعوا عن عملهم ، لقد تحولوا إلى قلب واحد يطفح غضبا ، و نفسا واحدة ثائرة و فما واحدا يندد ، و يدا واحدة تدمر و تحرق و انحنى أحدهم على صاحبه :
 قلبي حدثني أن مرشحنا سيسقط ، خصمه له رجال هناك و أشار إلى القسمة !
فرد الآخر :
 مرشحنا نعم الرئيس لولا التلاعب ابن البلدة المخلص، شاب يمتلئ حماسة للعمل .
فقاطعه الأول :
 لعن الله الحظوظ السيئة!
و اعتلى إمام الحي ربوة و كان شيخا فارع الطول ، مكتنز الجسم، توحي حمرة وجهه بالقوة و الصحة و في صوته بعض اختناق غير أن كلامه يأخذ بتلابيب السامع ، و يأسره و ألقى كلمة مدوية على الجمع المحتشد :
 أيها الشعب ...... بارك الله ممشاك و كلل بالغار مسعاك ، لا هوادة بعد اليوم ، هم بالسلاح و نحن بالحجارة ...... و ألقى خطبة طويلة ندد فيها بما رآه الناس تلاعبا و بارك عمل المتظاهرين و دعاهم إلى الاستبسال و زادت تلك الكلمة من حماسة الغاضبين فعادوا إلى الدار يدمرون ما فاتهم تدميره أو يحرقون ما تخلف ، أوحى إليهم حماسهم أنهم أسود في يوم تحول فيه خصومهم إلى أرانب ، فامتدت أيديهم إلى مقر القسمة و كان بناء مجاورا لدار البلدية هو مقر جبهة التحرير ، و قد قيل للمرء أنك تشم عبق الثورة خارجا من ذلك المكان ، و يرتفع الآذان خمس مرات في اليوم داعيا إلى الله الواحد ، وحدة تصطلح على روح المرء وتقر في قرارة ضميره فيسلم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ! و لكن لا بأس أن تمتد اليد إلى هذا البناء اليوم فتعبث بحرمته كما عبثت بحرمة جاره ، و أكمل المتظاهرون عملهم ثم انسحبوا بعد لأي إلى ديارهم وجوههم مسودة من أثر الدخان و أصواتهم مبحوحة من أثر الصياح ، و سواعدهم كليلة من أثر عمل ما أقدموا عليه قبل اليوم و تسلل مع كل واحد شعور بالخوف من عاقبة الأمر فتر الحماس و غلى مرجل الخوف ، لا شك أن الجرم خطير ، و أن الهرم تزعزع منه ، و سيجثم بثقله على روح كل واحد : حتى لينوء بذلك الثقل الزمان و المكان !
و أقبل المساء معلنا انتهاء عمل المتظاهرين و بداية عمل رجال الأمن والمخبرين ، وفي الجو شحوب من الدخان و في الأنف بقايا من رائحة الحريق و في الأفق تبرعم الأسرار فتتعلق بها الأنفس ملقية ألف سؤال ، ترى ماذا يحمل الغد ؟ وما العاقبة؟
و أقبل الغد وئيدا حذرا ، فخف الصبية إلى حيث ألقيت الكراسي و آلات الرقن يعبثون بها ، و يمثلون أدوارا كأنهم عمال البلدية و كتابها و جلس أحد المتعابثين على كرسي فخم دائر فأشار إليه أحدهم :
 حضرته رئيس البلدية .
و خف إليه الصبية يسأله أحدهم سكنا و الآخر وظيفة و آخر مؤونة ، و هو يتغطرس ، و يتحجج و يتعلل و يقهقه الصبية على ذلك كثيرا !
نشط المخبرون و فرض حظر التجول ليلا ، و أحاط العسكر بالدار المحترقة ، وأقيمت الحواجز في الطرقات ، كان العسكر يدخلون إلى الديار سائلين باحثين عن المشتبه فيهم نهارا و ليلا بمعية المخبرين ، و قبضوا على كثير منهم ، و فر البعض الآخر يبيت في الحقول المجاورة أو المغارات و لجأ البعض إلى قرى نائية أو مدنا أخرى غير أن الإلحاح و التنسيق أفضيا إلى القبض عليهم جميعا .
و كان بعض الموقوفين أبرياء ما تظاهروا و لا أحرقوا و عملت الوشايات و الأحقاد عملها فذهبوا ضحايا لها ! و مثل الإمام أمام المحقق فابتدره قائلا : - حضرتك إمام تخليت عن مهمتك في إمامة الناس للصلاة و إقامة الجمعة و الصلاة بالناس في الأعياد و في إصلاح ذات البين ، و تحولت إلى محرض على الفوضى و التخريب بلغتني خطبتك بتمامها .
فرد الإمام برباطة جأش :
 كيف يسقط مرشحنا و أغلب قرى البلدة معه و يفوز الرئيس السابق و ليس معه غير قرى قليلة ؟
 تلك مشيئة الصندوق .
 و لكنه صندوق مشبوه ، و لن نرضى بذلك أبدا . كان الفتى أملنا لم تستفد قرانا شيئا في عهدة الرئيس القديم و استفادت قريته و حلفاؤها ، مللنا من الوعود والمماطلات فما شعرنا إلا و حماسنا يدفعنا إلى التمرد و أيدينا تمتد عابثة بأشياء الدار !
فقاطعه المحقق :
 حماس زعزع الهرم اعتديتم على جلال الانضباط و هيبة السكون و أهنتم حرمتهما سكون الأرض يظلله سكون السماء مجانين أنتم ؟
و قال القضاء كلمته : سنة سجن مع الشغل و النفاذ في حق كل موقوف !
و كان العشرات قد اقتيدوا إلى السجن ،و قد ذرفت الدموع و شهقت الأنفس ، واستشاطت الأخرى غضبا حين اشتمت رائحة دسيسة و انتقام و سجناؤها أبرياء ، ولكن إذا عمت خفت ، فما من بيت إلا و له سجين و ولدت تلك الحادثة تضامنا لا نظير له بين أهالي البلدة .
و أما النساء فصرن يجتمعن كل ليلة في بيت يسرين عن أنفسهن و يتذاكرن أزواجهن أو أولادهن ، و ربما بكت إحداهن أو اغتمت أخرى غير أن رؤية الأخريات تسري عنهن جميعا، و كثيرا ما كانت الإشاعات تسري بينهن سريان النار في الهشيم عن احتمال تخفيف العقوبة و يفرحن قليلا ثم يظهر زيف ذلك ، و احتجن إلى الغناء الحزين فنظمت إحداهن زجلا تذكر فيه الحادثة و تسمي بعض الموقوفين بأسمائهم و تغنيه لهن على إيقاع ضرب البندير(الدف) ، و كان ذلك مجلبة للحزن و النشيج !
و أما المسجونون فما إن اطمأنوا إلى مكان إقامتهم الجديد حتى شعروا بثقل الزمن ورتابة الأيام ، و أحسوا بالحاجة إلى التسلية و إلى الفكاهة يزجون بهما الوقت الثقيل فادعى بعضهم أن مولود بوعافية كان من المحرضين و المخربين و هو من الطلقاء ، وأحضره رجال الأمن ثم أدخل السجن مع المذنبين و كان الرجل يقترب من الثلاثين قصير القامة ، كست وجهه المحمر التجاعيد إذا نظرت إليه لفت نظرك أنفه القصير الغليظ الواسع المنخرين حتى لتقول أن هذا الأنف لا ينسجم مع تقاسيم الوجه و أذنان كبيرتان كأنهما عروة إبريق ، و كان يأتي من الأفعال و الأقوال ما يبعث على الضحك والاسترسال فيه حد القهقهة ، بسيط الأحلام ، بدائي الحاجات ، لا تتجاوز طموحاته حد بلدته ، و الدنيا بسيطة فلم يعقدها الناس ؟ و الحياة سلسة كأنها عين السويقة تجري مطمئنة في يسر فلم يجعلها الناس مصطخبة و من وراء ذلك الاصطخاب القلق والغضب و البغضاء ؟ كان فقيرا لا يفقه قراءة و لا كتابة ، يأوي إلى كوخ يضمه وعائلته بعد أن ينهي عمله في المرعى مصطحبا معه إلى بيته عنزاته و جديانه و في جرابه بعض الأعشاب هذه لمداواة الإسهال و هذه للقيء و تلك للمغص يلبي بها طلبات الجيران ، و قد كان راضيا بنصيبه من الحياة ، قانعا باليسير الذي يدفعه له الناس لقاء عمله ، يوزع النكتة و يختلق الافتراءات و لكن الافتراء البريء الذي لا يحمل أذية !
وقد أحبه الناس و ادخروه للحظات العصيبة يسرون به عن أنفسهم ، و ربما عبث به البعض الآخر و اتخذه هزأة دفعا للملل و مجلبة للأنس في مودة عجيبة !! وهاهو الرجل اليوم يجد نفسه بين جدران السجن ، مذنبا و قد حكم عليه بالسجن و لا مناص من الصبر و هو بين إخوانه الذين لعنهم و لعن ذلك اليوم المشؤوم الذي أحرقت فيه دار البلدية ....
و كان أهل البلدة يأتون مرة كل أسبوع يزورون المساجين يحملون سلال الخضر والفواكه ، و من لم يقدر على ذلك أعانوه ، و قد أهدى إلى مولود مرة ديك مشوي ، وكان من عادة المساجين أن يقتسموا الأطعمة أو يتبادلوها غير أن الرجل لما رأى الديك أخفاه و أقسم على أن يكون من نصيبه لوحده جزاء وفاقا لمكر أصحابه به ، و حاسبه بعضهم على ذلك فرد عليهم :
  كتكوت صغير ، كله عظام لا يشبع صبيا . وقهقه السجناء على ذلك طويلا ورويت النادرة في البلدة !
و مر العام و خرج المساجين إلى دنيا الله و كان عيدا في البلدة ، رآهم الناس أبطالا أبوا الضيم و تمردوا على الإكراه ، و دفعوا من أعمارهم عاما طعاما لجدران السجن ، وقد جلس كل واحد في بيته في إعزاز لا نظير له يتلقى التهاني و الهدايا و تلقى مولود التهاني كغيره و حمد له الناس السلامة و أثنوا على صبره و الكل يعلم أنه كان كالأطرش في الزفة !
و حكى السجناء لأبنائهم و ذويهم عن ليالي السجن و طرائفه و عاد كل واحد إلى شأنه القديم .
و قد استأنف الراعي عمله ، عاد إلى قطيعه راضيا من الغنيمة بالإياب و قد سر بعودته القطيع و آنس برفقته يرعاه سجين سابق تزلزل الهرم من فعلته !!
و تكر الأيام و الناس يكادون ينسون الحادثة فلا يذكرونها إلا لماما ، و قد مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما ، لا تعجب إذا قلت لك أن رئيس البلدية اليوم هو ذلك الفتى، أما مولود بوعافية فقد واصل نشاطه بدأب و تقدم به العمر قليلا لكن صحته تدهورت واصطلحت على بدنه العلل ، أصيب بفتق فما انقطع عن عمله و لا عالج نفسه و أنّى لفقير مثله بتكاليف العلاج ؟ و الرجل لا يكاد يقيم أوده و أود زوجته و أولاده ، لقد أحب عمله و قطيعه و وجد في رحاب المراعي صفاء و فطرة و سكينة عزت على غيره في أزقة البلدة ، ملأ رأيته برائحة الشيح والخزامى فظلت تلك الرائحة تجذبه إلى فضاء الله الرحب حتى قضى ذات يوم بين قطيعه في المرعى ، أما أولاده فهم مضرب المثل أدبا و همة و سمعة طيبة بين الناس ، و قد تعلم بعضهم حتى نال درجات جامعية !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى