الخميس ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
قراءة نوافذ تطل على ديوان
بقلم مــحــمــد زريـويــل

(رائيا يأتيك المديح) للشاعرة آمنة البكوري

ا فتتاح :

اقتضى مني الشعر الانفتاح على عـدة تجارب شعرية بغية القراءة والاستفادة ليس إلا...

وكانت هذه المرة تجربة الشاعرة آ منة البكوري باسم مؤنث . أعـلنت الذات الشاعرة جـنـسها في الديوان، فأخـذ ضمـيـر المؤنث حـصة اللبؤة متكـلـما ومخاطبا وغائبا لا لشيء،وإنما لتطرز الشاعـرة صفـوة المعاني في أحكم المباني، وتـنظم بهاء يعــلـنه المـديح من خلا ل شهد الـكلام، و وهج الكلمات، وهديل المفردات.

إصدار : إن ديوان "رائيا يأتيك المديح.." هو أول إصدار للشاعرة، أبعاده (14×20) سنتيمـتـر و وزنه 110 غرامات من الورق، يضم 14 ( أربع عشرة ) قصيدة وزعـت على مساحة مـــن ا لــقـرطـاس تقـدر بـ 72 (اثـنـتـين وسـبعـين) صفحة . صدر الديوان عن منشورات سايس ميديت الطبعة الأولى 2002. وقريبا سـيصدر للشاعرة ديوا ن ثا ن " سفـيرة المرامي البعـيد" وقفت عليه في قـصيدة " كبرياء " المنشورة بالعلم الثقافي (25 أكتوبر2003)

" تبيت على الطوى

ريحانة الهوى

لكأنها أرج الوليف هفا

ضوع الروح حتى

جفا الجسد مداما ومغنى..

هي.. سفيرة المرامي البعيدة ".

النافذة الأولى: عنوان الديوان

اخـتـلـطت عـلي الرؤى با لنسبة لهذا العنوا ن الجميل "رائيا يأتيك المـد يح" فأدركت الصوا ب
حـسب اعتقادي بالعين المجردة، ثم بالقـلب الذي في الصدر. أتتني اللحظة بموافقة الفرصة، فتأملت بدوري جذر الرائي، وجدته في المعاجم و القواميس بمعان مفتوحة على الإبصار بالعين، أو فيما يرى النائم من الحلم، أو بحساب الاعتقاد بالشيء، والمديح يبقى دائما غرضا شعريا تأتي فيه الأقوا ل مما هي عليه الصفات والأفعال. تحقق نصب الرائي(را ئيا) وفـتح سطحا في سياق الحا ل المفردة التي تبين هيئة المديح الفاعل المعرف و صاحب الحال .
ترى، هل كنت موفقا في مقاربة العنوان،وفتحه كنافذة تطل على الديوان ؟ هذا ما أدعه أنــا الآخــر للآخرين .. وأتمنى أن لا أخطئ الطريق، لأن درب الشعر طويل .

" لست إ ليك بانتماء

وأ نا ما تركتك حارسا للنذور

إلا على مضض...

فامض رائيا...

درب الشعر طويل...

امض مغامرا ... فاتحا ذراعيك للريح

لبكارة الأرض

قد لا يخطئ الطريق (..) " ص (59)

الـنافذة الـثانية : لوحة الغـلاف :

لايمكن أن أتجول داخل الـديوان دون فتح هـذه النافـذة، لوحة الـغلا ف، وهي لـلفنان التشـكـيلي محمد بري، حيث شكـل لي وجه الكتاب موضوع استبصار و تأمل ما دامت اللوحة موضوع عـين .

رمى بي هـوس العشق مباشرة إلى فلسفة الجمال، وبناء الفنون من خلال قراءة بصرية، لا ينفصل فيها الشعر عن الـتشكيل، وفي اللوحة ما يلي :

" لست غادة بحرية

كي يخذلني قريض الماء " ص (53)

" لمحتك تنسلين جهة البحر

تغترفين المتاه والألق الفضي " ص (5)

و في اللوحة عشقـتِ الحروف و الـكلمات العلا، وردد الصدى الأسطرفي اهتزاز، و تلبد الفضاء (..) في لحظة مستباحة . ارتقى الشعر و الغيم في سمو إلى درجة حياة تمتطي صهوة المزن وبعد، جاء الإلهام (الوحي الشعري) من السماء صحبة قطـرات ماء بشهادة طيور محلقة أطربها النغم ..

بقـيت مبهورا أمام تشكيلات الحروف التي لم تختر المسند من المادة، وإنما عرجـت في الأفق الأزرق، هذا اللون الذي استمد وجوده من الطبيعة بكل تمثلاتها الجوية والمائية ... ويرمز إلى الأمل الكـبيــر
و الأفق الجميل . اخترقت الحروف السحب الرمادية الداكنة وهي تتكتم السر الرابط بـيـن مهارة استعمال الفرشاة، وصفاء البياض الخام على المسند . حط الفنان التشكيلي محمد بري على ألوان اللوحة وجعلها تفيض
عذوبة و جاذبية، انـحـنـت لها الريشة بدقة متناهية لتخلط الشعر باللون، تناغم الشعر والتشكـيـل وتوازى الخياران الجماليان، ثم حصل التجاور والتمازج و التحاور وهو ما يوحدهما داخـل الإطار في تعالق وارتباط، وبالتالي نكون قد وصلنا إلى متخيل مركب من شعر وتشكـيـل يقربنا إلى عالم الغموض الشعري في تلاقح وتناغـم، ويحيلنا على سيكـولـوجية الـتذوق الـفني من خلال إبداع يرغـم الشعر على الإقامة الإجبارية داخـل محيط اللوحة، تحت رحمة الـمزن الـمعلقة، والحمام الـمحلق الـذي يبارك نزول قطارات الـغيث الـتي تستقي منها الـقصائد ماءها ـ أي لحنها ـ لتزداد خلودا . يبقى للوحة وجه متميز في الكون، زادها الـخط الـعربي اليدوي رونقا وبهاءً، فأصبح لها إيقاع آخر على وجه الكتا ب .
لن أدع الـفـرصة تمضي دون أن أ شير إلـى قفا الكتاب أ و الدفة الثانية حيث انتصب مقطع من "رائيا يأتيك المديح" الـقصيدة، وكأنه ربة حجال في هودج مـسـاقة إلى ( أوسفالـدو) هذا الإنسان الـذي ضبط الكلمة في كـل تنويعاتها، وأثرى الـوصف الـلــسـاني كوسيلة للتعبيــر، ولهذا يستحق كـل هـذه الالتفاتة ا لكبرى من الـشاعرة خصوصا وقـد ألهمها قصيـدة تحـتاج وحدها لورقة كاملة،وإ ليكم منهـا هــذا الـمقطع:

"يا العابــر بــي ...

عـز طويلا لقاء الـحرف

شح أواره ..

فلا تضلل وجعي كفاية ..

لا تفطمني بالـصمت الـسخيــن..

فقد تناهى للروح صدى الـماء لواذا

وهذا الليل الـمنحجب بظني

الـمتشح بسهدي

لج بعيدا في شملة غـمره ..

و أ نا ما همست لك بالصد إلا قـليلا ... قـليلا

فقل لي

لماذا لم يعد الـشعر يأتي رخاء ..

لماذا لم يعد يشبه الحقــيقـة؟ !..." ص (57-58)

طبعا هذا جزء من كـل و (أوسفا لدو) يشهد بالتأكـيد الـمطلق الـتحكم الـمكين للشاعـرة في تطويـع اللغة بماهرة ، لـتصنع من الـكـلـمة الـصعبة،و المفردة الـوعرة، دهشة جمالية مضمخة بعبـق ا للغة الشعرية المملوءة بالـتموجا ت الـمتناغـمة ...

النافذة الثالثة: القصيدة والتلقي

وأ نت تـفـتح الـديوان تجد إهــداء أول " إلى كـل الـطـيــبــيـن الــذيـن لا يخـطـئهم الـقـلـب " ص(4)

و تجد إ هداء ثــا نيا " إلـــى كــل الــــعــا بــريــن .. الـحـــاضــريـــن " ص (12)، وهــما عربونا كــــرم

و سخاء لــشاعرة من الشواعر اللائي يـتـمـتعـن بموهبة قول الشعر و كـتا بته ...

حــاولت أ ن أ سح القصائد، لــكن المعجم المنفلت، و الكــلمـة الساحرة، والقاموس المفتوح، كلها متاعب ومتع زادتني نـشـوة و لـذة حين وقـفت عـندها وتعددت وقفاتي .. كــنــت أ خشى أن تخونني الكفاية القرا ئية وهي عماد الخوض في يم هذا الديوان الجميـل، و مـهارة الإبحار فيه مــن خليج هذه القصيدة إلى رأ س الأخرى . كانت القراءة / الإبحار محفوفة ببعـض الموا نع التي لا ينفع معها القفز والوثب، لأنهــا تدعوك للوقوف قصد تأمل الحمولة الدلالية للغة في التعبير الشعري، هذه السمة التي لم تتخل عـنها الشاعرة قصد تصفية الصورة الحية للقصيدة وهي ترتدي بردة التصوف الموشاة بخيوط الصفاء وأسلوب الــتمــيـز.

أحجبت الشاعرة و أخفيـتها عن قصائدها ليس بغرض التغــييـب، وإنما لأركز على قراءة القصائـد من داخلها، وفعلا بدا لي الكلام الشعري مرئيا ينبعـث من محراب ناسكة متعبدة تنشـد الأوراد بالمجاز المرسل والتشبيه البليغ والاستعارة التمثيلية، وهكذا مرت قصائد الديوان في تطارق بنفس المكانة المرتفعة للغة التي تحميها الشاعرة وتحرسها،وهي تصر عــلـى عنادها الجميل حتى تجعل القصائد تجــفــل من بين الأنــامل...

تتعاظم الـصعـوبات، و تتعدد العقبات أمام القارئ العادي، مما تجعله أ قــل تـقــبلا و انسجاما مع
القصيدة، خاصة حين تعوزه اللغة عن الفهم، حيث لا يستساغ لديه الأسلوب إلا بمشقة البحث و التحصيل،
و بدوري كـدت أتيه بين الـقصائـد فاستعـنت بخريطة الديوان و بوصلة الشعـر كـي ترشداني إلى لذة القراءة ومتعة التذوق، وسـاعتئذ وجدت الشاعرة تحيا بجميع عواطفها وأحاسيسها في الممكن و المستحيل، وجدتها تتداول لغة العشق و الـتجلي،اللغةا لتي تؤدي إلى اتحاد جميع الـحوا س و تلا حمها في ذا ت شاعرة متصوفة تكــيل الـمديح الـسـا ئغ ليرعش الـفـرا ئص الظمأى.

تتوحد الشاعرة مع الكلمة الـحاضرة، والمفردة الــمختارة، وتنصهر مع الأفعال الـمتعدية بشهادة نون الـوقاية على ياء الـمتكـلم في عدة حالات أكـتفي بهذه الشبكة منها (أ تخـنني ـ هـفهـفـني ـ يسرنمني ـ يسمفنني ـ يـرجرجني ـ تشرنقني ـ امتهنني ـ يدوزنـني ـ ا سـتدرجني ـ ... ) وهذا مقطع من قصيدة " تدعيات نافرة على مخمل أزرق " يقربنا من ثلاث حالات، فـلنقرأ :

" يسـرنمني هذا المساء الـمـتـرجـرج

بشدو خفقه

ومضات ... ومضات ...

تخلع عن وجيب الوهج الـمستحفــر

عـذار الـحلول

قبسات ... قبسـات ...

تـسـمفنـني الكــلـما ت

ترشفني الـعبارات... " ص (13)

يقـف القارئ حائرا لبعض الوقت أمام قصائد الشاعرة آمنة البكوري لأنها تغْني القصيدة لفظا وتثريها صورة حتى يترك المقروء الأثــر في نفس القــارئ ... إنها شاعرة تـقـبض على اللغة، وتضع الـمـفردا ت في الـسطر الشعري بتقديم وتأخـيـر معينين مما يبرهـنان على حـنـكـتها الـنحوية و حبكتها الـتركيبية، وتعلو ميزة الـتقديم و الـتأخيـر بالنص إلى الـمقام الجميل والأ نيق مما يظهر بعض الـنصوص و كأنها عصية عــن الـفهم، لــكــن ضبط الـكلمات الـصعبة بالشكل ، و رش الــنـصوص بالحركات ميزة ساهمت بشكــل كــبير في تحصين القصيدة وسلامة المعجم الشعري من كـل الـتباس .

مكانة المكان:

احتفـت الشاعرة بمدينة تازة مسقـط رأسها حيث (وشجت عروقها إلى عرق ا لثرى)
فصاغت من الشعرماسة تتلألأ بريقا، هي الآن في جيد المدينة ترمز لحب فريد ينبعث من بعيد، ا ختلط
بأحلام ( متاهة) وبوح ( وهادا ت الـتيه) وقطاف (عـــرصات الأمــاســي) وا رتعاش(انغرازات الـدهـــش )

وما ورد بين الأ قـواس من عناوين بعض قصائد الديوان، وها هي قصيدة ( بهاء يعلنه الـقصيد) تشهد لهذه
المكانة، حيث تعددت العلل والحـب واحد.

" لتازة العبور المشرورق بالحـنين " ص (66)

" لتازة الهذيان الكوني الـرخـيم " ص (66)

" لتازة الـســر الـمهـيـب الـمستخفر" ص (67)

" لتازة ابتدار الـنقاء الـمندوف الـمصفى " ص(68)

" لتازة الـرقرقة الـسائـبـة " ص (69)

" لتازة فساحا ت الأهـازيج و الأشعـار " ص(69)

" لتازة أ ن تـلبس طـيلسان الكـــهـوف "ص(70) .

إشــارة جماليـة:

البيا ض والـبعـد الـتشكـيلي و الهـيئة الطباعية، كــلها جماليات حاضرة في تنظيم الـصفحة فضاء النص، وعمارة القصيدة الـتي أبدعـت الشاعرة في بناء أدوارها بأسطر شعرية، وأحيانا بكلمة وحيدة، أو حرف منفرد، مما يثمن توظيف ا لـبياض، واستغلال الـسواد في الفراغ والامتلاء ..

ختم:

أتمـنى أن لا أكـون قد أ فسد ت مقاصد الـشاعرة، لأن الـعمل الإبـداعي الجيد، كلما ابتعد عــن الـتوقع الـمرتقــب إلا وكان أكثر تأ ثيرا ، وما هذه الورقة إلا نتيجة قراءة عاشقة دفعـت بي إلى هـذ ا الـفضول الجميل الذي يعتمد الـقراءة وسيلة وليسـت غاية ، ويبقى النص الإبداعي دائما أكـبرمن قراء ته، وديوا ن "را ئيا يأ تيك ا لمـديـح " أكـبر من هذه الـورقة الـتي تحمل طا بع ا لـعشق و الصفاء المختوم بلون البيا ض، ومدا د العوا طف والإحساسا ت الـقـصية في ( الـكتابة ) ذا ت الاحترا ق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى