الاثنين ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
قصص تسترجع دفء الزمن الفلسطيني المفقود

«دروب جميلة» لأكرم هنية ...

محمد برادة - الحياة

ليس بدَهياً أن يتمكن كاتب فلسطيني يعيش في أتون كوارث الاحتلال والصراعات الداخلية والوضع السياسي الخانق، من أن يبدع نصوصاً تتعدى إطار الواقع المباشر وامتداداته النضالية ذات الأبعاد الغيْريّة. لكننا، لحُـسن الحظ، نجد في الأدب الفلسطيني الحديث نماذج كثيرة لإبداع يستبطن التجارب عبر رؤية جمالية ودلالية تستوعب المستويات المُـتقدّمة للكتابة في مجال التحقّق العربي والعالمي.

ونجد في مجموعة قصص «دروب جميلة» لأكرم هنية (دار الشروق 2007) قصصاً تجمع بين الأبعاد الغيْرية والذاتية ضمن مفهوم يراعي خصوصية الكتابة الإبداعية، ويبتعد عن التوظيف الاختزالي للوقائع والأحداث والمواقف المُـشكّلة لطبقات الواقع. على مستوى البناء، نجد أن قصص المجموعة يغلب عليها شكل أقرب إلى الكلاسيكية، يراعي تسلسل الأحداث وإنضاج الحبكة، من خلال لغة سلسة وتعبير دقيق واضح. إلاّ أن هذا البناء لا يحول دون إبراز النغمة المُميّزة والرمزية الحاملة أكثر من دلالة. وهذا العنصر ينقل القصص المُـتصلة بمأساة الوطن الضائع وسوءات الاحتلال (وعددها ثلاث)، إلى مستوى يتعدّى الفضح أو الإدانة، ويسمح برسم تضاريس تحيل على تعقيدات الواقع كما تتبدّى من خلال التفاصيل. يتجلى ذلك مثلاً، في قصة «كان ذلك قُـبيْل موتنا» التي أمسكتْ بلحظة ما بعد قيام السلطة الفلسطينية في غزة والضفة، مع استمرار هجمات قوى الاحتلال وقصفها للأبنية والمرافق العمومية. ويأتي السرد على لسان مسؤول في السلطة يعمل مديراً لأحد السجون، ويجد نفسه مُستقبلاً لصبحي، صديق طفولته وشبابه الذي رفض مهادنة العدوّ، وأصرّ على متابعة المقاومة بغض النظر عن مدى ملاءمة ذلك لميزان القوى وسياق المرحلة. وكان اللقاء بين الصديقين فرصة للمُكاشفة وتوضيح جوهر الخلاف بين موقفيْهما، هو خلاف الاتجاهيْن الأساسييْن في الساحة الفلسطينية. لكن قصف الطائرات الإسرائيلية لبناية السجن أودى بحياة الصديقيْن معاً، وجلا الحقيقة عارية: «كان بإمكاني، وأنا ملقى على الأرض أنزفُ دماً، أن أرى صبحي، على مسافة غير بعيدة مني، غارقاً وسط بركة من الدماء. تلاقتْ عيوننا للحظةٍ، كان ذلك لحظة موتنا» (ص 36). فعلاً، لحظة الموت التي شملت الجميع من دون تمييز بين الاتجاهات، أبرزتْ لا جدوى الصراع الاستباقي على السلطة، وعبث تصعيد الاحتراب الداخلي.

إلى جانب القصص الثلاث التي تستوحي مأساة الاحتلال والتهجير ومحنة الشتات وهي: «زمن حسّان»، «كان ذلك قُبيْل موتنا»، «دروب جميلة»، تتناول القصص الخمس الأخرى المكوّنة للمجموعة، تجارب ذات طابع إنساني يتصل بمُعضلة المرض والشعور بالوحدة، ولحظات الحب وهي تواجهُ محكَّ الزمن وتقدُّمَ العمر.

ولعل قصة «ترانزيت الأطياف الشاحبة» هي أجمل نموذج لتصوير مفعول الحب في النفس البشرية المُـتغيرة بحسب مراحل العمر، وتبدّل سياق انبثاق العواطف وتعرُّضها للبرودة والتلاشي. في هذه القصة، يلتقي السارد صدفة في مطار روما امرأة تشبه ملامحها تلك التي اكتشف معها، وهو في السادسة عشرة، أسرار الجنس والجسد وحلاوة الحب الذي لا أفق له. لكنها أنكرت أن تكون هي المرأة التي كان يعرفها. ومع ذلك قبلت دعوته الى أن يكون دليلها لاكتشاف روما خلال الليلة التي اضطرا إلى قضائها في تلك المدينة منتظريْن رحلة اليوم الموالي. وتُـوّجت السهرة بليلة غرام أشعلتْ الشهوة في الجسديْن، وأكدت للسارد الانطباع بأن المرأة هي رفيقة تجربته الأولى عندما كان في أول الشباب. ومع ذلك رفض أن يطرح الموضوع من جديد لأنها رفضتْ الحديث في الموضوع. وفي صباح الغد، وعند لحظة الافتراق وبعدما اجتازت المرأة المجهولة الهوية، بوابة النفق باتجاه الطائرة، تلفتتْ لتناديه باسمه، مؤكدة أنها فعلاً معلمته التي قادت خطواته الأولى على طريق الجنس والحب. عندئذ قال السارد: «وعندما بدأتْ تغيب عبر البوّابة، كانت صور النساء اللواتي عرفتهنّ تتوارد أمامي بسرعة شديدة، وجوه تصطفّ بجانب بعضها، واضحة التفاصيل تنطق بوهَج حيوات صاخبة ومُلوّنة عشتُها، ثم تبدأ بالتلاشي رويْداً رويْدا حتى تصبح صوراً ضبابية شاحبة مثقلة بالغموض».

على رغم تبايُن فضاءات القصص، ما بين نابلس، رام الله، يافا، القدس، القاهرة، الكويت، روما... فإن القارئ يستطيع أن يستشعر ملامح من «الوحدة» الكامنة وراء تعدّد الثيمات والفضاءات. وتعود تلك الوحدة إلى أن كل قصص المجموعة مسرودة على لسان ضمير المتكلّم؛ وهو ما يضفي على السارد طابع الراصد للأحداث والمشاعر من زاوية شخصية، تأويلية، متباعدة عن وجهة نظر السارد العليم بكل شيء. وبتعبير آخر، يوحي تواتُر السرد عبر ضمير المتكلم المُـتعدّد في أوضاعه الاجتماعية وسمات شخصيته القصصية، بأن العين اللاقطة واللغة المعبرة إنما تصدران عن رؤية تعايِن وتسجل وتتأمل وتغوص في التفاصيل، ولكن مع الحرص على أن تتعامل مع مُـكوّنات القصة الدلالية على قدَم المُساواة من دون إيثار أو مُفاضلة. من ثم، فإن اللحظات المُستبطِنَة للذات وتلاوين الأحاسيس، تتصادى مع المحكيات المتصلة بمحنة ضياع الوطن وممارسات الاحتلال الإسرائيلي. ويكون دور السارد - ومن ورائه الكاتب المُفـتَـرَض - هو ان يشعرنا ضمنياً بالتحام الذاتيّ بالغـيْري عبر التبايُن والتمايُز، وعبر المسافة التخييليّة التي تُحوِّل الوقائع إلى معادل موضوعي يُجسد ويسند المشاعر والانفعالات ضمن مسافة جمالية تعلو على المباشرة والاستنساخ.

لو أردت أن ألخص طبيعة الرؤية الكامنة وراء قصص هذه المجموعة، لقلتُ إنها استعادة لدفء زمن مفقود، اقترن بالحب والشباب وما يُضفيانه على النفس من جرأة وتطلُّع إلى فهْم الجسد وإثبات الذات. وتتجلى هذه الرؤية بوضوح أكثر في قصتيْ «ترانزيت الأطياف الشاحبة» و «في البحث عن الزميلة ندى»، حيث تتفرّع عن الحدث والحبْكة تأمّلات أسيانة، وحيث نسمع صوتاً داخلياً يسائل الزمن والجسد وما تبقَّى في القلب من صُبابة العشق والافتتان بالمرأة، إلا أن السارد لا يفعل ذلك تحت وطأة النوستالجيا، وإنما يظل مشدوداً إلى حاضر يُدرك جيداً أنه مُغاير للماضي، ومع ذلك لا يستطيع أن يتجاهل دفء تلك اللحظات التي واكبَتْ تشكُّل وعْيه وأمدّتهُ بذكريات مضيئة تُسْعفه على السُّرى في ليْل بهيم. ونفحة الحب نفسها تطالعنا في قصة «دروب جميلة» التي تحكي، عبر التاريخ والترميز، قصة عيسى اليافاوي مع محبوبته «جميلة» التي أضاعها سنة 1948 عندما قصف العدوّ يافا واضطر سكانها إلى الهجرة. غير أن عيسى ظل طوال أربعة عقود متشبثاً بحبه لجميلة، مواظباً على كتابة الرسائل إليها، مع أنها كانت قد لقيتْ حتفها حين هربت مع عائلتها من يافا. والسارد الذي يحكي لنا قصة عيسى وجميلة، يقرر أن يبتدع حبيبة يراسلها ويعبر عن عواطفه التي يستمدّ منها القدرة على تحمُّل الحياة في المنفى.

استطاع أكرم هنية، في مجموعته «دروب جميلة»، أن يستثمر خبرته القصصية التي تراكمتْ منذ ثلاثة عقود، ليُبلور معالم نص قصصي يتميز بالوضوح شكلاً وتعبيراً، معتمداً على رؤية ذات أبعاد جمالية تتيح التعامل مع مختلف الموضوعات والتجارب من دون تمييز بين ما هو ذاتيّ وما هو سياسي، ما هو حميميّ وما له طابع جماعي مشترك. ومن هذا المنظور، تعلو أدبية النص القصصي على مرجعيته «الواقعية»، لأنه يتدثّر بغلائل الصور والكلمات والأخيلة، ليمُدنا بجسور تنقلنا إلى فضاءات تتخصص وتستقل بذاتها من خلال تلك الرؤية التي يصدر عنها الكاتب والتي تختار شساعة النص التخييلي، بدلاً من كتابة تتوخى المواجهة والفضح المباشريْن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى