الاثنين ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
إلى أحجار الطريق التى تعلق بأحذيتنا فنعتقدها شيئاً كالرفيق
بقلم ياسمين مجدي

حبل

انتقلت معي وحدتي للبيت الواسع الملون على هيئة رجل لا أعرفه يطلقون عليه "بابا"..."بابا" يملأ البيت الواسع بأناس كثيرة يبدأون في المجيء كل يوم في اللحظات التي يذوب فيها الصباح في قدسية الليل.. فيدير مفتاحه الحديدى في ثقب الباب وأسمع وراءه صوت ضحكات تترك آثارها في طريقهم إلى الداخل حتى أن أحد تلك الضحكات ضلت طريقها وجائتني حجرتي يوماً تدعوني لمشاركتهم التدريبات الليلية التي أحضرتني إليها صديقتي لأمارسها بعرق جبينى فأعرف طعم التخلص من سمنة الفقر.

***

أشتباكات قذرة تحدث أمام شباك غرفتي.. يتسلل لي عبر فتحاته مع رقع الضوء أجزاء أجسام تتحرك... أقترب أكثر لأرى فأكتشف أنني لم أكن أحتاج لذلك لأنني على الأقل أسمع سُُبابهم كأنني أري.

جلست أتناول فطوري أنا والفأر في طبق واحد من الخبز واللبن.. أربت على رأسه فيداعبني بأذنيه اللتين سأقبلهما وأنا راحلة من هذا المنزل لربما أحمل في شفتاى من السم الذى طالما هرب منه فأَحتفِظ به كالخزين لأستخدمه في اللحظة المناسبة.

"بابا" يدور بكوب طويل تقريباً فارغ لا يوجد به سوى رشفتين قرمزتين يعوم فوقهم ثلاث قطع من الثلج..يقف عند عتبات الغرف ينحني ويدس بدلاً من مفتاحه عينيه يتأمل للحظات عوالم ما خلف الباب ثم يمضي.. كان "بابا" ظريف معي لم يحاول أن يجبرني على أن أشاركهم حياتهم ولا حتى أن أذهب معهم لزيارات خارجية لأنه كان يعتمد على حياة لتأخذ من لسانه الكلمات وتسكبها في أذني تماماً مثلما جاءت تلك الليلة التى علا فيها السُباب في شارعنا وعانقتنى عناق دافئ لم أكن أعرف أنها تعلمته في منزل "بابا" لأن كل ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظة هو نعلي المدرسي المقطوع الذي يطالعني مع أيام طفولتي.. أجري به في "حوش المدرسة الواسع".. أعطي سندوتشاتى لزميلاتيى.... ألجأ لوضع بعض الألوان التى أسرقها من درج أمي لعلي أبهر الصبيان فتحبنى الفتيات..أعود آخر اليوم أبكي لأنني لم أنجح في الحصول على صديقة...أركل طوب الأرض وحدي فينقطع حذائي.. لا ألحظه لأنني أنشغل بالتفكير فيما يمكن أن أفعله غداً لأجلهن.

جلست حياة على الكنبة.. وحين أبصرت الفأر خافت لكنها بدأت تحاول أن تحبه حين أخبرتها أنه سيرحل معي بخطوات تسبق خطواتي دون أن أعرف أننى سأحمله للموت بيدي ليرفض تناول طبقه الصباحي في ذلك الإناء الرخامي.. يذبل ويخفت أنين صوته ولا يعد يرفع أذنيه بالكرامة التي أعتدتها منه.

لا يلحظ "بابا" أياً من أحزاني... أغضب وأنا أتذكر كلمات حياة عن التبني و العائلة الكبيرة.. عن حياتي التي يجب أن أحصل عليها وأولاد الحلال الكثيرين.. أضربها في كتفها وأضحك :
 تَبَنى إيه يا بت يا حياة و أنا شحطة طويلة عريضة؟!

أقتنع وأرحل معها لأنني أكون بحاجة لأن أري أشياء غير التي أراها من شباكي الأرضى... أو لأنني بحاجة لحياة نفسها لعلها تمحو من حياتي صورة حذائي المقطوع.

أبكي أمام "بابا".. أنحني على قدميه أقبلها..كلمات خائفة أنطقها وأنا أهتف بأمنيتي بأن أصبح مجرد خادمة وأنني لا أريد أن أكون بنت من بناته.

 الحلوة عامله صغيرة؟!

أتعلق بعيني حياة فأراها تخفي وجهها في ضلفة الباب ومن خلفها يطل وجهي من المرآة أبصره وأتسائل هل لم أكن أعرف أم أنني كنت أسعى لاكتساب القدرة على فتح شباك في غرفة أخرى يسكنها أصدقاء يعطونني من الحب أكثر من السُباب الذي كنت أسمعه من غرفتي... يغلق "بابا" خلفه الباب فيختفي وجهي.. يرحل وهو لا يصدقني.

أحمل حقيبتي في اليوم التالى وأمشى أشق الأجساد..ألمح حياة جالسة إلى جوار أحدهم وحول رقبتها عقد ذهبي ثقيل يشبه حبل البنطلون الذي كنا نخلعه منه ونلفه حول رقابنا ثم نُمثل أننا في فرح وأن أحد الشبان الوسيمة يحاول التقرب مننا... تداهمنا المرأة الكبيرة ونحن نفعل ذلك فتضربنا وتطردنا وتطلب من عم سيد فتاتين غيرنا.

أطرق بابها بقوة وأركله مطالبة بنصف أجرتنا فلا تفتح..أبصق عليها وأمضى فخورة بنفسى حينما ألمح نظرة الإعجاب في عيني حياة...بعد أيام تختفي حياة فأعود لسيرتي الأولى أبكي كل يوم عند عودتي من المدرسة..أجري على المرآة لأبصر وجهي لعلي أكتشف سر جلوسي على الدكة الأخيرة وحيدة.

أشب فتصبح ملابسي القديمة غير مناسبة لي تضيق لأنني أفارقها في إتجاه السقف فتتمزق مع الأيام حين تصبح أصغر من أن تحتوى جسدي كله أهرع إلى الشباك أغلقه ومن يومها لا أفتحه حتى لا يبصرونني.. يزداد إحساسي بالفراغ بعدما يرحل القابعون معي كلاٌ بطريقته.. السجن أو الموت.

تعود حياة بعد سنوات تطرق بابي.. أدفعه بقوة لينفتح بصرير يثير القشعريرة, تدخل على نغماته حياة لغرفتي..بكيت وحكيت وصببت في أذنها كل ما عشت كما لو كانت صديقتي..كما لو كانت.

حركت حياة العقد الذهبى حول عنقها وهى تشيح بوجهها بعيداً عني..فَتَحتُ الباب وأنا أجرجر خلفي حقيبتي ووجدت في رأسى صورة لحبل يتدلى منه رأس فأري ورائحة الصابون تحتويني... أصير فقاعة فأنسى حذائى وشباكى ومدينتى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى