الأحد ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم حسين أبو سعود

الطفل العراقي... وقفة عاطفية

عندما يتوزع صوت الاذان ساعة الفجر في الفضاء يمغط النيام أجسادهم، وليس للفقراء إلا أن يفيقوا ويتهيئوا بعد الصلاة للبحث عن الرزق لسد الرمق اليومي، ولاسيما طبقة العمال غير المهرة يتجمعون في أماكن معينة بانتظار من يأتي لياخذ معه مجموعة منهم خاصة لاغراض البناء، وهذا المنظر العادي يتحول الى لوحة مأساوية عندما نجد بين الواقفين اطفال او شبان في عمر الزهور تتطلع عيونهم إلى فرصة عمل يومي، والحسرة تعبث بأحلامهم الوردية عندما يشاهدون أطفالا آخرين يتوجهون الى المدارس بملابس نظيفة حاملين معهم كتبهم وكراريسهم.

على ان المجالات التي يعمل فيها الأطفال تتعدى مجال البناء لتشمل جميع مرافق الحياة، والطفل العراقي باوضاعه الرثة وهو يتجول بين السيارات وسط الشوارع المزدحمة والزوايا المليئة بالنفايات، يفعل ذلك منذ تأسيس الدولة العراقية ولم تتحمل اي حكومة من الحكومات التي جاءت وذهبت عن طريق الانقلابات مسئولية الطفل ولم يرحمه احد، بل ان هذه الحكومات اهملته وظلمته وجنت عليه حتى جعلت منه صباغ احذية وبائع علك ومتسول محترف وعرضة للانحراف والاغتصاب والإجرام، مع أن حق الطفل محفوظ في الشرائع السماوية وفي المذاهب الأرضية، وصار توفير الرعاية والحماية له مسطورا في الدساتير والقوانين وأما حال صغار العراق في الرزية لم تختلف عن حال الكبار بحال من الأحوال، وحتى العاب الطفل العراقي بسيطة يخترعها لنفسه من علب الشخاط و (تايرات البايسكلات) والطيارات الورقية، فصارت طموحاته محدودة للغاية مع ان ذكاءه لا ولن يختلف عن ذكاء الاخرين في دول العالم الاخرى الذين يخوضون الحروب الوهمية خلف لعبة البلاي استيشن، إلا أن الطفل العراقي كما يقال حظه مايل وهو المنتمي إلى بلد النفط والخيرات وبلد الاضرحة والزيارات وبلد الزراعة و(التجارات)، وقد اضرت به الحكومات حتى شربته عقائد الحزب الواحد والتصفيق للرؤساء وعلموه اناشيد الجندية، وتم تعويده على اصوات الانفجارات والحروب وأثار الحصار حتى تجرع سم الاحتلال وصار يعاقر اهوال التفخيخ والقتل اليومي، ووصل الأمر إلى زرقة هذه الأيام بحقن الطائفية والقومية والحزبية، وحتى تجار لعب الأطفال استهدفوه ولم يرحموه فصنعوا له المسدسات والرشاشات والدبابات البلاستيكية، وأغروه على شرائها، فوجهوه إلى العنف بدلا من توفير العاب التسلية البريئة والمشجعة على الاستكشاف لاسيما أن لعب الأطفال فيها فوائد جمة يتوخى منها الإتيان بنتائج ايجابية عن طريق كسب مهارات جسمية وعقلية وذهنية.

وليس هذا فحسب بل وصار له من التهجير نصيب فاجبر على مرافقة والديه الى خارج الحدود بحجة التبعية او بداعي الهروب من سطوة النظام والتوزيع في ارض الله الواسعة فلم يبق في العالم منطقة لا يوجد فيها طفل عراقي وبعضهم وصل إلى المدن المضيئة وصار يتمتع بحقوق الطفل وبعضهم توزع على ارصفة المدن في دول الجوار معرضا نفسه لمختلف انواع البلاء، وقد رأيت مرة في السيدة زينب بدمشق طفلا متورد الخدين في صباح شتائي بارد ينظر الى المارة يستجديهم صبغ احذيتهم مقابل مبلغ بسيط يخفيه عن اهله ليشتري به سندويتش فلافل يسد به رمقه ويدفع عن تقاسيمه آثار الشحوب، وقد يسرح خياله وهو يمسح الاحذية فيتخيل لعبة جميلة يداعبها بأنامله، وقال الطفل الجميل الذي كان يسعل من آن الى آن انه يتيم عراقي اضطر للعمل لمساعدة امه المريضة المفجوعة.

والحقيقة هي ان الطفل طفل سواء كان عراقيا ام صوماليا او هنديا تجمعهم البراءة والطهر وقد قدرت منظمة العمل الدولية في عام 2005 عدد الاطفال العاملين في العالم بــ 250 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 – 14 سنة يتركز 61% منهم في آسيا، ولكن وضع الطفل العراقي له مزايا مأساوية خاصة فهوالذي حُرم في بلده حتى المياه الصالحة للشرب وشبكات الصرف الصحي المناسبة، وقد حدث في العراق تراجع ملحوظ في معدلات التحاق الأطفال بالمدارس في مختلف مراحل الدراسة وان 22% من اطفال العراق لم يلتحقوا اصلا بالمدارس، وقد ذكرت منظمة رعاية الطفولة التابعة للامم المتحدة بان هناك اكثر من خمسة ملايين طفل يتيم في العراق و900 الف معاق، وان أكثر من ألف طفل قتلوا وأصيبوا بسبب الألغام والذخائر الغير منفجرة لعدم استطاعتهم تجنب مثل هذه الأخطار، فضلا عن الاعداد المتزايدة ممن يعانون سوء التغذية الحاد والمزمن، وباختصار نقول بان جميع الاوضاع المأساوية التي يعيشها العراقيون تنسحب بالضرورة على الاطفال بصورة مباشرة.

أقول أن الطفل العراقي يختلف في بعض احواله عن اطفال الدول الفقيرة الاخرى لانه ضُرب من قبل حكومته بالأسلحة الكيماوية وتعرض للإشعاعات الضارة وزج بآباء الأطفال في حروب عبثية بدءا من حركات الشمال ثم حرب إيران ثم الكويت ثم أمريكا ثم حرب العراق على العراق، مما نتج عنه قتل واسر وإعاقة أعداد كبيرة منهم ترتبت اثارها القاسية على أبنائهم، وتكدس الطفل العراقي في الملاجئ والمخابئ اثناء الغارات، وصار الآن هدفا بسيطا لعصابات الخطف الذين يطالبون بالفدية فضلا عن أنهم يشكلون لقمة سائغة للجريمة والمخدرات والعنف والبغاء، وليس هذا فحسب بل قامت عصابات التكفير وحثالات الشقاة الجناة العتاة باستهداف مدارس الاطفال وتفجيرها في جرائم يندى لها الجبين الإنساني.

فالطفل العراقي يحتاج اذن الى رعاية خاصة بعد الظروف الصعبة التي مر بها من خلال سن تشريعات خاصة لحمايته، والمسئولية في ذلك لا تقع على عاتق الحكومة العراقية لوحدها بل ان على المجتمع الدولي وعلى راسها امريكا عليها ان تقوم بدور اساسي في ذلك، وان القوى التي تتدخل في افغانستان والصومال والعراق عليها أن تضع الأطفال أيضا نصب عينيها وتوفر الحماية المطلوبة لهم، وتحشد الطاقات والإمكانات لدفع الفقر والجهل والامية والبطالة والجريمة عنهم، والتركيز على التوجيه الاجتماعي والارشاد الثقافي وأشغال المدرسة والمسجد والحارة بمثل هذه المهمات، علما بان المجرمين الكبار كانوا يوما أطفالا وان هؤلاء الأطفال قد يكونون غدا في دائرة الإجرام.

وعلى الدولة الاستفادة من القوانين المتبعة في الدول الأخرى الخاصة بحقوق الطفل وإقامة المزيد من الملاعب والنوادي ودور الحضانة ورياض الأطفال وقاعات الألعاب وإبعادهم عن الشوارع ومخاطرها وانتزاع مظاهر العسكرة من الحياة اليومية والاهتمام بالمناهج، فالطفل العراقي حالة خاصة ويحتاج الى اعادة بناء مع التاكيد على الجوانب العلمية والاخلاقية والتربوية في شخصيته وتنمية خياله وتحفيزه على الإبداع وإنشاء مكتبات خاصة ثابتة وسيارة للطفل.

وفرض التعليم الالزامي حتى المرحلة المتوسطة على الاقل، كما ان هناك ضرورة لتنظيم عمالة الأطفال وتهذيبها خاصة وانه لا يمكن في العصر الحاضر ولا في المستقبل القريب منع هذه الظاهرة بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها اكثر الاسر العراقية ولكن يمكن تشغيلهم في اعمال تتناسب مع طاقاتهم واعمارهم وتكوينهم الجسدي، ولا أكون مبالغا لو أقول بان الطفل العراقي يحتاج الى وزارة خاصة كما تم استحداث وزارة للمهجرين لكي تتولى متابعة شئون الطفل العراقي (المظلوم) بالتنسيق مع الوزارات الخدمية الاخرى للدولة، لان الطفل اصلا بحاجة الى رعاية وان افضل العبادات هو حب الأطفال كما في الحديث، فالطفل يعني الحياة باجمل صورها فهو اليوم ببهجته وهو الغد بإشراقته، وان هذا المخلوق الجميل يحتاج إلى حنان ودفء ورعاية وميزانية سخية، فالأطفال هم الربيع والورود والسلام وكل شئ جميل، ومن حق اطفال العراق ان يعيشوا كما باقي الاطفال في العالم مع أننا لا نطمح ان يصل مستواه الى مستوى الطفل الهولندي مثلا الذي تم تصنيفه على انه اسعد طفل في العالم، ولكن يجب ان ياخذ نصيبه على الأقل.

وإذا أُريد بناء العراق يجب بناء الطفل العراقي، ولتحقيق ذلك يمكن الاستفادة من خبرات العراقيين الموزعين في دول العالم فان لديهم الافكار والامكانات العلمية والفكرية الكافية لوضع برامج توعية سليمة خاصة بالطفل.

والطريف باني قرأت خبرا نشر مؤخرا مفاده ان الاطفال البريطانيين هم الاكثر تعاسة وبؤسا بين أطفال العالم المتقدم، وان المراهقين في بريطانيا هم الأكثر تعاطيا للكحول والتدخين والمخدرات، وقد امتص هذا الخبر (الصادم) الكثير من اليأس الذي يحيط بمستقبل الطفل العراقي، ولاسيما أن بريطانيا هي من اغنى دول العالم، فيما استطاعت جمهورية التشيك التي لا تصنف ضمن الدول الغنية تحقيق مستوى افضل لاطفالها قياسا بالدول الغنية الأخرى.

ولا بأس ان اختم بقصة احد الشخصيات العراقية الناجحة الذي ذكر بأنه قد قضى طفولة يائسة بائسة، ابتدأت بمحاولات الاطفال الاصحاء ممارسة دور(الشقاوة) في المحلة لغرض السيطرة على الاطفال الآخرين ومرت بمراحل صعبة منها الفقر المدقع للعائلة مما دفع الوالدة إلى إجباره على بيع (اللبلبي والباجلا) في الصباح الباكر ثم العودة لاخذ الكتب والذهاب الى المدرسة، وكان الطفل يعطي الكثير من اللبلبي (للمشترية) حتى ينتهي بسرعة ولكن والدته التي كانت تنظر اليه بنظرة ملئها الحنان والاحساس بالذنب تقنع بأي مبلغ يأتي به ولو كان قليلا، ليس هذا فقط بل كان يجد صينية من مواعين المحلبي بانتظاره عندما يعود من المدرسة فيضطر وسط الاحراج الشديد من اقرانه الى حملها والجلوس في زاوية بالمحلة ينتظر بيعها والاطفال الاخرون يسرحون ويمرحون ويلعبون، وإذا ترك الصينية ليلتهي بلعبة او فعالية يأتي الأشرار ليعبثوا أو يأكلوا المحلبي بدون دفع فلوس، وكان الانكسار يصل عنده الى اعلى درجاته إذا جاءت كرة طائشة وبعثرت ما في الصينية ومرغتها بالتراب، وذلك ليس لان أمه ستعاقبه بالضرب وانما لان ذلك سيزيد في انكسار قلب أمه التي كان يعشقها، وما كان عليها ان تفعل وهي المراة التي لا معيل لها ولا ضمان اجتماعي توفره الدولة للمعوزين، إنها لقمة العيش وما أصعبها، وإنها البراءة التي عبثت بها يد الزمان، وانه الثمن الفادح الذي يدفعه الاطفال لأمر ليسوا مسئولين عنه.

فرعى الله الطفولة نهرا عذبا، وحفظ اطفال العراق واطفال العالم من كل مكروه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى