الاثنين ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
شوقي بزيع في ديوانه «لا شيء من كل هذا»

القصيدة المشرّعة على أسئلة الوجود

عابد اسماعيل عن الحياة

يبدو أنّ قصيدة الشاعر اللبناني شوقي بزيع لا تحبّ الخوض في المجهول، أو التحليق في فضاءات التجريد، وإن كانت تميل إلى التكتم على أسرارها، وإخفاء الكثير من بياضها خلف مفرداتها. ذلك أنها قصيدة مرئية، تحكمها بداية ونهاية، وتسبح بثقة نحو شاطئها، بخاصّة أنّها لا تخشى الكشف عن موضوعها، بل نراها تستنفر أدواتها الفنية من مجاز واستعارة وإيقاع للإحاطةِ بفكرتها، والإيقاع أخيراً بقارئها. فضلاً عن أنها قصيدة شفّافة، تكاد تخلو من التعقيد أو الإبهام، تنفتح على أسئلة التاريخ والحياة، متأمّلة بتلك الأحاجي المزمنة كالزّمن والموت والكتابة. قصيدةٌ نبضُها غنائي، وروحها رعوية، وفلسفتها تنطلق من الواقعي إلى المثالي، جاعلةً المحسوس جسراً للعبور إلى اللانهاية. أما بنيتها فتقوم على دعائم كلاسيكية كتناغم الشكل والمضمون، والتوازن البلاغي بين الجمل، وتآلف الدال مع المدلول، والعناية بكيمياء الإيقاع، المتأتي مباشرة من استخدام التفعيلة، واللعب على تنويعات العروض، ما يجعل أسلوب بزيع برمّته يتسم بأناقة مدروسة، يضمر مهارة في النحت، ووعياً بأهمية الدور الذي تلعبه البنية المجازية والإيقاعية في ابتكار الفضاء المعرفي للنص.

هذه الخصائص تتجلّى بوضوح في ديوان الشاعر الجديد «لاشيء من كلّ هذا»، الصادر حديثاً عن دار الآداب في بيروت (2007)، حيث تتنوّع مواضيعه وتتشعّب، فتارةً نرى الشاعر يمجّد الطبيعة ويتغنىّ بجمالها الصافي، كما في قصيدته الافتتاحية «ثلج العام 1958» التي تمسك بلحظة بيضاء متعالية، وتصف لوحةً أخّاذة ترسمها الطبيعة، حيث «في ذاك الضّحى الثلجي/ كان يطيبُ للنفناف/ أن ينحلّ/ مثل حمائمٍ بيضاءَ/ في أبدية التكوين»، وتارةً نجده يرثي العالم من حوله كما في قصيدة «تحت أيّ السقوف سأغفو إذن؟» التي تأخذ القارئ في رحلة عبثية إلى جحيم الحرب الأخيرة، لتصف الدمار المادي والروحي الذي لحق بقرية الشاعر المهدّمة.وهنا يتجاوز المتكلّم في القصيدة دور الشاهد أو الدليل، ليصير نفسه الحدث والضّحية معاً: «رحتُ أمشي،/ كأني الجنازةُ والميتُ/ والقبرُ». ويطاول الرثاء قصيدة أخرى بعنوان «خلود تنجح في امتحان الموت» تصف موت فتاة في ريعان الصبا، ويتركُ موتها جرحاً غائراً في جسد الطبيعة، فالزّهرُ تعوّدَ أن يضبط عقربَ ساعتِهِ «على إيقاع مشيتها»، وهنا يعترف الشاعر بعجز اللغة عن ترجمة شعوره بفداحة الخسارة، معترفاً بأن «لا ماءَ في الكلمات/ كي أدعو الرثاءَ إلى جنازتِها». هذا النمط الغنائي، الموغل في ذاتيته، يدمج السّردي بالدرامي، ويعرّي الذات أمام اللغة، نسجاً على طريقة الشعراء الرومانسيين، ومنهم الشاعر الإنكليزي الكبير ويليام وردزورث، الذي لطالما رثى موت الجمال في الطبيعة، بخاصة في سلسلته الشعرية المعروفة بقصائد «لوسي»، حيث نراه يبتكر فلسفة جديدة للموت، عبر الإيحاء بأن الفتاة «لوسي»، في موتها، انتصرت على الفناء، وبأنها صارت جزءاً لا يتجزأ من دورة الفصول، تماماً مثل «خلود» التي يصفها بزيع بقوله: «أنثى من قصاصات الغيوم/ ومن ثغاء النبع في الوديان». ولا يتردّد الشاعر في كتابة المرثية الذاتية أيضاً، كما في قصيدته «الخمسون»، المتكئة على شطح فلسفي، والمستفيدة من حفرٍ سيكولوجي هادئ في طبقات الذات، من خلال تركيزها على موضوعة الزّمن العابر، وهنا ينظر الشاعر في مرآة ذاته، ليرى رجلاً يطل مثل «شرفة قديمة على سفوح نفسه»، وقد غزاه الشيبُ، واعتلاه القنوطُ، حائراً بين الأنا وقناعها: «ذلك الذي يراه الآن في المرآة/ ليس وجهه تماماً/ بل قناعُ ما أضاعهُ/ من الوعود».

وعلى رغم هذا التنوع في الديوان، وتأرجح الهاجس الشعري بين الذاتي والموضوعي، إلا أنّ ثمة خيطاً خفياً يجمع بين النصوص، ويجعلها تلتئم في منظومة فكرية متجانسة، يلخّصها حنينُ الشّاعر إلى فردوس مفقود، ورغبته في استعادة البراءة الأولى، عبر تنظيف العمر من آثار خطوات الزمن الثقيلة: «فقط رغبتي في الرجوع/ إلى أي مهدٍ/ يسلّيني كالمياه على ضلِعهِ/ كي أصفّي حسابي مع العمر/ في لحظة حاسمة». والمفارقة هنا أن الشاعر يدرك أن هذه الاستعادة للزمن مستحيلة، وهي ليست سوى حدث لغوي صرف، يتحقّق آنياً في فضاء كلمات بيضاء مخاتلة. وهنا بالضبط تتجلى محنة الشّاعر الذي يعي استحالة القبض على الأشياء في الزمن، ووقوع الكائن فريسة للانتظار الدائم للوجود، ما يجعل المعنى ذاته نهباً لرقصة الدال والمدلول، مبثوثاً في ماهية الاختلاف، قائماً عند تلك الحافة التي يسمّيها ديريدا الإرجاء «Difference» أو الاختلاف. وفي هذا الصدد يشير بزيع إلى محنة اللغة التي لا تقوى على الخروج من دوامة الاختلاف، حيث تظل رهينة للازدواجية القائمة بين الواقعي والمتخيّل: «وهل تدركُ اللغةُ الآن محنتَها/ وهي عاجزةٌ عن تقصّي الفوارق/ بين الحقائق والأخيلة؟».

بين الحقيقة والمجاز

هذا الجدال المضمر بين الحقيقة والمجاز يكاد يشكّل ثيمة مركزية في الديوان. فالثلج، مثلاً، في القصيدة الافتتاحية، يرمز إلى لحظة جمالية خارقة، شاهقة في بياضها، واضحة في محوها، بل إنه يقذف الناظر خارج ذاته، لتذوب الأنا في الكلمات، تاركةً وراءه أثراً لغوياً عابراً، نرفوه بإبرة الذكرى، ليصبح الثلجُ نفسه أجمل «في التخيّل منه في ذاك النهار». هنا نجد أن القصيدة تنطلق من وضوح المرئي إلى هلامية الفكرة، وتتحدّد حركتها الدلالية بين حدّي الحقيقة والمجاز. فالثلج الهاطل ليس سوى عتبة نعبر منها إلى علوّ الاستعارة التي يختزنها بياض الكلمات الهاطلة: «ولكن/ ثَمّ خلف مساقطِ الكلمات/ وهي تهيمُ/ فوق الصفحة البيضاء/ ثلجٌ لا يكفّ عن الهطول».

هذا الحنين إلى فردوس أبيض نلمسه أيضاً في قصيدة أخرى في عنوان «حنين»، حيث يتعزّز أكثر هذا النسق الدلالي المتحرك، فالمرأة التي ينتظرها الشاعر في «ذلك الركن القصي من الكتابة»، تظهر أولاً في القصيدة بفعل قوّة «التحديق»، لكنها سرعان ما تختفي كطيف، ليغادر المتكلّمُ المكانَ، «كي تأتي القصيدةُ في غيابي». وكأن المرأة تغيبُ أو تختفي حالما ينظرُ إليها العاشق، في فعل تراجيدي قائم على ازدواجية النأي والتداني: «فلا امرأة هناك/ سوى ما يستحيلُ بقوة التحديق/ هيئةَ ما نحبّ». هنا يستعيد بزيع مأساة أورفيوس في الأسطورة اليونانية، حين تعاقبه الآلهة بفقدان حبيبته، يوريدس، بعد أن رمقها بنظرة محرّمة، فتختفي وتُنفى إلى عالم الظلال المكفهرة. وحبيبة بزيع تحضر فقط لكي تغيب في إهاب لحن أو استعارة، وتقترب فقط لكي تنأى وتبتعد، وبين الاقتراب والنأي يتحقّق شرط المتعة الفنية، وتتشكّل بؤرة النص الداخلية وفقاً لجدلية الخفاء والتجلي التي تحكم آلية عمل النص الأدبي بحسب موريس بلانشو في مقالته الشهيرة «تحديقة أورفيوس».

هذا الاختفاء، الذي يعقبه حضورٌ، يتكرّر أيضاً في قصيدة «سحابة صيف» التي لا يراها الناظر إلاّ في عبورها، أو اختفائها، فالسحابة سرعان ما تتلاشى، ويبدّدها نسيم الصيف، لكنها تعود لتحضر في شكل مجازٍ لغوي، و «تظلّ ماثلةً هناك/ فوق أرض الاستعارة وحدها/ منهوبةً كعبارةٍ/ شاخت/ ولا زمنيةً كالطّيف». نلحظ هنا أن المحسوس الذي تجسّده سحابة الصيف يتلاشى ويتبدّد، متحولاً، بفعل الاستعارة، إلى لحظة جمالية، طيفية، لا زمان لها ولا مكان.

الحياة واللغة

في قصيدة «خلف دموع الشتاءات» يرثي الشاعر وجه حبيبةٍ غاب، ويسأل: «أين هو الآن؟» لتأتي الإجابة في شكل صدى يختمُ القصيدة: «ربما لم يفق بعدُ من نومِهِ/ تحت شمسِ القصيدة». مرة أخرى، تحتضن الاستعارة الوجود، ويقف المجازُ حائلاً دون وقوع الأشياء في الغياب. والشاعر بزيع يعي قوة الفن في مقاومة الفناء، ولذلك نراه يشرع قصيدته على أسئلة وجودية كبرى، فالجمال قد يشيخ في الواقع، لكنه يظل فتياً، شاباً، نضراً، في القصيدة. هذه الثيمة تؤكّدها بشكل لافت قصيدة «الأعمال الكاملة» التي تسلط الضوء على جدلية التواري والمكوث، أو اللغة والحياة. فالشاعر يترتب عليه «أن يقايض بالمفردات السقيمة/ فردوسَ أيامه الزائلة»، أو أن يقتل «الحياة» كي يربح» اللغةَ»، أو، في شكل أكثر دراميةً، أن «يخون المسمّى/ لكي يربحَ الاسمَ». هذا الإدراك يورّث الشاعر كآبة خفية، فخيانة المسمّى عتبة للإقامة في الاسم، أو لمعاقرة هباء الكلمات، وهنا يتعزّز وعي الشاعر الحداثي بالفجوة القائمة بين الفنّ والواقع، ما يجعله يشكّك في جدوى الهروب إلى اللغة ذاتها، كما هو حال قصيدة «عندما يصبح الحبر أعمى» حيث يطرح الشاعر سؤالاً مؤرقاً: «ما الذي تستطيع الكتابةُ أن تفعله؟/ هل تردّ الحياة إلى نبتة فارقتها الخصوبة؟». والمفارقة أنّ الشاعر يدرك أن لا خيار أمامه سوى الإقامة في الكلمات، فهي صليبه وخلاصه، وبفضلها يخترع عوالمه، ويشيّد قصوره، وخلف أسوارها يودّع عشاقه، أو يرثي موتاه، وفيها يحيا حياته، في لعبة غامضة، فاتنة، قوامها اللذة والألم معاً.

إنّ القصيدة المرئية التي يكتبها شوقي بزيع تجعل منجزه أكثر تفرداً، ورؤيته الجمالية أكثر ارتباطاً بحركية الحياة. كأنّ الشاعر يتعمّد الإقامة في الحدث، مبتكراً توازناً فنياً حاذقاً بين ضرورات التجربة وشهوات المتخيل.

عابد اسماعيل عن الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى