الأربعاء ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

الفوضى كنمط حياة يومي

رغم العديد من المسميات التي ارتبطت بالفوضى في الأدبيات السياسية المعاصرة والتي بدأت بالفوضى الخلاقة وانتهت بالفوضى الهلاكة، فإنها في النهاية لا تعبر سوى عن وجود نوع ما من الاضطراب، سواء رأى البعض فيه بعض الجوانب الإيجابية، أو رأى البعض الآخر فيه بعض الجوانب السلبية. فالفوضى لا تعبر في النهاية سوى عن نظام ما مستمر ومتواصل له قواعده المتفق عليها، والتي قد ترتبط بقوانين رسمية مجتمعية منصوص عليها مسبقاً، أو قد ترتبط في الوقت نفسه بمجموعة أخرى من القواعد العرفية المتعارف عليها مجتمعيا وثقافيا. فالفوضى ضد النظام والثابت والمحدد سلفاً.

ورغم ذلك فإن الفوضى قادرة على أن تشكل لنفسها نمطاً خاصاً بها قادراً على فرض حالة من القبول والثبات، وربما التجديد أيضاً. وهذا النوع الأخير بالغ الانتشار في العديد من المجتمعات العربية، وعلى رأسها تلك التي تتحدث ليل نهار عن مشاريع التنمية والتقدم والنمو والازدهار، والتي ليس لها من شيئ تفعله سوى اجترار ماضيها التليد، الذي يصبح بمرور الوقت مجرد ثرثرة فارغة ليس لها من معنى أو قوام. واللافت للنظر هنا أن هذه الفوضى تصبح بمرور الوقت هى البديل عن القوانين الرسمية والبديل أيضاً عن الأعراف المجتمعية المتعارف عليها؛ بمعنى آخر تصبح نمط حياة يومي، يمارسه البشر ليل نهار، بدون أن يقفوا عنده، أو يلفت حتى أنظارهم.

وقبل أن نقف عند الأسباب المختلفة التي تؤدي إلى هيمنة هذا النوع من الفوضى، وتحولها إلى نمط حياة يومي يشتمل على كافة ممارسات المواطنين، علينا أن نحدد المقصود بالفوضى. يمكن القول هنا بأن الفوضى هى كل سلوك أو ممارسة أو مشاعر يمارسها البشر بشكلٍ فجائي غير منضبط ومضاد للقوانين واللوائح وبنية القيم المتعارف عليها مجتمعيا. وفي هذا السياق يجب التنويه هنا بأن الفوضى غير الإبداع من حيث كون الأخير تجاوز للمتعارف عليه في إطار الإيجاب والضبط والتقنين، كما أنه أيضاً يتم بناء على ما سبقه، مراكماً عليه ومتجاوزاً له. بينما الفوضى هى تفتيت للبنى والقوانين والأعراف في مسارات غير منضبطة، وبطرق عبثية مضادة للبنى المجتمعية ومؤدية إلى ضعفها واهترائها.

هناك مظاهر عديدة ترتبط بالفوضى المجتمعية، تبدأ بالجوانب الرسمية الملموسة والمحددة وتنتهي بالجوانب المعنوية الانفعالية والنفسية. فالتصريحات السياسية العبثية التي تتحدث ليل نهار عن الواقع العربي المعيش بلغة بعيدة تماماً عما يحدث على أرض الواقع فوضى في مجال السياسة. والحديث عن الازدهار الاقتصادي ليل نهار في واقع تصل فيه معدلات الفقر لمستويات غير مسبوقة فوضى في مجال الاقتصاد. والممارسات اليومية العبثية في الشارع العربي، وفي الكثير من العواصم العربية الكبرى، فوضى تصب في مجال الممارسات الاجتماعية بين البشر.

ونمط الفوضى الأخير هو أكثر أنماط الفوضى خطورة من حيث اشتماله على مساحات واسعة من البشر من ناحية، ومن حيث حجم التأثيرات السلبية المرتبطة به من ناحية أخرى. فمن خلال هذا النمط تتشعب دائرة الفوضى وتغزو كافة مؤسسات الحياة بدءا من الأسرة مروراً بالعمل وانتهاء بالشارع. وبسبب هذا التوسع والتشعب في الممارسات الفوضوية عند هذا المستوى يضحى أكثر المستويات خطورة وتأثيراً على كافة المستويات المجتمعية الأخرى. ويبقى السؤال الأكثر أهمية هنا: كيف تنتشر الممارسات الفوضوية مجتمعياً؟ وكيف تنتقل من مستوياتها الفردية إلى مستوياتها المجتمعية الشاملة لتصبح نمط حياة يومي ومعتاد؟

تبدأ الممارسات الفوضوية مرتبطة ببنية فساد واسعة، فالفساد هو التربة الخصبة التي تنمو من خلالها الفوضى وتتعمق وتتجذر مجتمعيا. وبهذا المعنى تصبح الفوضى تحديا للبنى والقوانين المتعارف عليها وخروجاً عليها. فحينما يفعل كل فرد ما يراه مناسباً له بغض النظر عن أضراره الاجتماعية يصبح المجتمع ساحة للممارسات التي تضرب بالقوانين والأعراف الاجتماعية عرض الحائط. تزداد الفوضى في رحاب الفساد، وتجد لنفسها مأوى رحباً وسياقاً متسعاً من الاستمرارية والاستقرار والتراكم.

وبمجرد أن تبدأ تلك الممارسات الفوضوية فإنها تنتقل كالعدوى من سياق لآخر ومن مؤسسة لأخرى ومن منطقة لأخرى ومن شارع لآخر. فالبشر بشكل عام ضد النظام، حيث تلعب القوانين والعقوبات دوراً كبيراً في تطبيق النظام والقضاء على الفوضى والتجاوزات المرتبطة بها. وبمجرد أن تبدأ تلك الممارسات فإنها تنتقل إلى الآخرين، لتصبح الفوضى هى السياق العام الذي يعيش الجميع من خلاله، ويتعاملون مع بعضهم البعض في رحابه. وهنا تنبع خطورة الفوضى من حيث أنها تستطيع أن تؤسس لنفسها سياقاً بنيويا مجتمعيا يمكنها من فرض آلياتها من ناحية وتحقيق قبول واسع المدى بها من ناحية أخرى. واللافت للنظر هنا أنه بعد فترة من تلك الممارسات الفوضوية تصبع الفوضى شيئاً عادياً في حياة البشر، شيئاً من صميم حياتهم اليومية، لا يلفت أنظارهم، ولا يستدعي منهم النقاش والجدل، ناهيك عن المقاومة.

وهنا تكمن مخاطر الفوضى في أنها تشكل لنفسها قواعدها الخفية الصارمة التي تفرضها على البشر، بحيث تصبح هذه القواعد مقبولة، بل ومستحبة. فالمتابع على سبيل المثال، لفوضى المرور في الكثير من العواصم العربية، يندهش للكيفية التي يتعايش بها البشر في الحياة اليومية، ضاربين بعرض الحائط كل القوانين والأحكام والقواعد والأعراف الاجتماعية المختلفة. وفي سياق الفوضى الحتمي والصارم والحاكم، يصبح من الصعوبة بمكان على أى فرد أن يرفض هذه البنية ولا يتعامل معها. فكل من يرفض بنية الفوضى، أو يرفض التعامل معها، والانخراط ضمن قواعد اللعبة والأحكام الخاصة بها، مثير للفوضى وضد النظام ومبدد للخطط والتصريحات والطموحات المختلفة.

في حياتنا العربية العديد من أنماط الفوضى المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والعاطفية، أنماط وأخلاط شتى من الفوضى التي استطاعت أن تؤسس قواعد راسخة لها، وتجتذب المزيد والمزيد من الأتباع والمريدين والممارسين. وهو الأمر الذي يستدعي خلق مناخ جديد مضاد للفوضى، يحفز على الإحساس بها، ويدعو لمقاومتها ورفضها، والعودة للأسس النظامية والقانونية الحقيقية المنصوص عليها رسميا ودستوريا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى