الاثنين ٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم أحمد محمود القاسم

الجانب العقائدي في نظرة اليهود إلى مدينة بيت المقدس

مع أن الكتاب المقدس لدى اليهود، يعترف بوفود العبرانيين على القدس، وهي معمورة بالكنعانيين/سكانها الأصليين-إلا أن "أورشليم" قد أخذت في العقيدة اليهودية، موضعًا مركزيًا، دون بقاع ارض، التي عاشوا فيها أطول، مما عاشوه في القدس. أول ارتباط عقائدي لليهود بالقدس، يأتي من الوعد الذي قطعه الرب، كما يورد العهد القديم-بأنه (سيعطي هذه الأرض لإبراهيم ولنسله من بعده)، ومن ذلك قوله):وأعطي لك، ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكًا أبديًا). (سفر التكوين: الإصحاح : 17 : 8).

لكن إقامة سليمان للهيكل- في الرؤية اليهودية- قوى الوضع المركزي العقائدي للقدس في ديانتهم، خاصة، أن هذا الهيكل أو المعبد-حسب عقائدهم-هو المكان الوحيد، الذي يتنزل فيه الرب، وكان يضم تابوت العهد، فأصبح تبعًا لذلك، يمثل مركزًا يربط السماء بالأرض.

صار الموقع عندهم، يمثل "رمزًا للحقيقة التي تحافظ على حياة الكون كله.. بحيث يتعذر على العالم الدنيوي أن يظل قائما بدونه"، بل إن الإحساس بالفردوس الذي طرد منه آدم وحواء، لا يتم إلا في هذا الموضع.. وأكثر من ذلك، كان الحجيج والمصلون من اليهود، يطمعون في أداء طقوسهم هناك، وأن يتجلى لهم الرب (يهوه).

ازدادت مركزية القدس في العقلية اليهودية، عقب الشتات البابلي، وتدمير الهيكل عام 586 ق. م، ذلك أن التغريب الإجباري ألقسري، يزيد الضغط على حفظ الهوية الخاصة، ويتضاعف تبعًا لذلك التمسك بتراث الآباء وبالمجد السابق، " ونظر الإسرائيليون إلى التدمير البابلي للمدينة والمعبد، على أنهما نهاية العالم، إذ تخلى الرب (يهوه) في رأيهم، عن مدينته، وتركها حتى صارت صحراء. ارتبطت فكرة العودة اليهودية إلى الأرض المقدسة، بفكرة عودة (يهوه) نفسه إلى معبده وهيكله، وذلك بإعادة بنائها، وبدا ذلك في سفر(حزقيال ) برؤيته، بتخريب الهيكل، ثم شروط العودة، وبناء الهيكل، وعودة الرب (يهوه) إلى هناك، (سفر حزقيال: الإصحاح 43 وما بعده). عند جدار المناحة أو حائط (المبكى) والذي هو في الحقيقة حائط (البراق)، يقوم اليهود بأداء طقوس البكاء، على الهيكل الذي هُدِّم.

أما أهمية مدينة بيت المقدس، حسب المصادر اليهودية، فلها عدة مؤشرات، وقد كثرت المصادر، ابتداءا بالكتاب المقدس، والتي تتناول المدينة، من أحد الجوانب، أما هذه المؤشرات فهي:

الأول: أن الكتاب المقدس العبري (التوراة)، يذكر القدس باسمها صراحة، حوالي سبعمائة مرة، كما يذكرها باسم صهيون، والذي يشير إلى جبل المعبد أو (الهيكل)، وإلى المدينة العاصمة في وقت متأخر، وبالتالي، إلى الأرض المقدسة ككل، حوالي (150) مرة، لكن هذه المئات من الإشارات إلى القدس، أو صهيون، لا تشكل، إلا قمة جبل الجليد للكتاب المقدس، فالإشارات الضمنية، لا يمكن حصرها، تشير الأدبيات اليهودية التالية للكتاب المقدس، إلى الأهمية المركزية للقدس.

الثاني: أن الأدبيات الحاخامية، كالتلمود (المدراش)، مليئة بالإشارات الصريحة والضمنية للقدس، ولكن ما هو كتاب التلمود ؟ يعرف (التلمود) باللغة العبرية باسم (المدراش) وهو كتاب سري، وضعه الحاخامات اليهود خلال فترة زمنية، امتدت ما بين 400 الى 600 عام، شرحوا فيه التوراة، وهناك حوالي عشرين مجلدا ضخما، يضمه التلمود، والتلمود قسمان:

1-قديم واسمه:(المشنة الاورشليمي): ونعت بالاورشليمي، لأنه تم تأليفه في مدينة أورشليم (القدس).

2-جديد واسمه:(الجمارا البابلي): وكلمة الجمارا وتعني (التكملة)، ونعت (بالبابلي)، لأنه تم إعداده في مدينة بابل، وهو شرح (للمشنة)، وأول طبعة كانت للتلمود البابلي عام (1520م)، وهو يتضمن الكثير من التهجم على المسيحيين والديانة المسيحية، مما أثار غضب المسيحيين في العالم، ما دفع اليهود الى طباعته مرة أخرى، خالي من التهجمات، وتركت الصفحات التي بها تهجم، بيضاء، بدون كتابة فيها.
في التلمود، تظهر العنصرية الصهيونية وروح الاستعلاء، على الشعوب، فاليهود، هم شعب الله المختار، وبقية الشعوب (غوييم) أي حيوانات، وقد نعت العرب في التلمود، بأوصاف حقيرة جداً.

التلمود، هو كتاب مقدس عند اليهود، إن لم يزد عن التوراة قداسة، فهو يساويه. وقد طبعت إسرائيل من التلمود (6000) نسخة، وكل نسخة تتألف من (35) جزءاً، وكان يوزع على اليهود فقط، عن طريق الحجز المسبق، وهم يعتبرونه كتاباً سرياً، لا يجوز بيعه لأحد.
الثالث: كذلك الطقوس اليهودية الكلاسيكية، مجرد أخذ عينة سطحية ومختصرة من أية مواد متوفرة، يعكس أهمية القدس ومركزيتها في الحياة اليهودية، خلال ثلاثة آلاف عام، منذ حكَم الملك داوود للمدينة، وجعلها عاصمة لمملكة إسرائيل الموحدة.

نتيجة لاعتبارهم، القدس العاصمة القومية وأرض المعبد، والمكان الوحيد الذي يمكن فيه القيام بالعبادة القرابينية المذكورة بالكتاب المقدس، فقد حظيت القدس والمعبد عندهم، بمكانة مقدسة، خاصة في القانون اليهودي.إذا تفحصنا جانبا محددًا في القانون اليهودي، و هو مكونه الأرضي، والذي يطلِق عليه الحاخامات:الأوامر المستندة إلى الأرض،(أرض إسرائيل)، وتأكيده على القدس، أن الشريعة اليهودية (الهلاخاه)، تعتمد بصورة نهائية، بشكل مباشرة أو غير مباشرة، على التوراة المكتوبة، والتي تحتوي-حسب فهم الحاخامات- على (613) أمرًا، أوحى الله بها إلى موسى والإسرائيليين في سيناء، هذه الأوامر، ليست موجهة إلى اليهود فحسب، لكن إلى الأمة اليهودية بصورة جمعية، إلى شعب إسرائيل (بني إسرائيل).
منهج الحياة الدينية الموصوف بهذه الأوامر، ملزم للأفراد، في كل مكان وزمان، بالرغم من ذلك، هناك العديد مما هو قومي في صفته، والذي لا يمكن أداؤه إلا في أرض إسرائيل أو ما لا يمكن أداؤه، إلا من خلال العبادة الكهنوتية في المعبد بالقدس، من هذه الواجبات الدينية:

1-توطيد الأرض، وبناء المعبد، وتشييد مدن للمأوى، وجمع الشعب كل سبع سنوات، حيث تقرأ التوراة علنية.. الخ -هذه الواجبات، هي قومية في طبيعتها، فالإنسان اليهودي بنفسه، لا يمكنه أداؤها.

2-الأوامر المتعلقة بالزراعة، والسنة السابعة للتحرير، واليوبيل، كل ذلك، لا يمكن أداؤه أو تطبيقه، إلا على أرض إسرائيل.

3-طقوس التطهر والقرابين، وكذلك الحج، لا يمكن أداؤها إلا كجزء من العبادة الكهنوتية المحددة بمعبد القدس، وربما يكون أحد الأمثلة الصارخة على مركزية مكون الأمة/الأرض في الحياة اليهودية، هو ما ورد على ألسنة حاخامات التلمود:

(على الشخص، أن يحيا دائمًا في أرض إسرائيل، حتى في مدينة ذات أغلبية وثنية، عليه ألا يحيا خارج هذه الأرض، حتى في مدينة ذات أغلبية يهودية، لأن من يحيا في أرض إسرائيل، يماثل شخصًا له رب، ومن يحيا خارج الأرض، يشابه شخصًا ليس له رب" (التلمود البابلي، كيتوبوت 1006).

مع أن معظم التاريخ اليهودي، يتضمن التسعة عشر قرنًا الأخيرة، فان الأغلبية العظمى من اليهود، تعيش خارج إسرائيل، لكن اليهود اعتبروا أنفسهم دائمًا بأنهم منفيين، خارج أرضهم، وقد صلوا من أجل استعادة أرضهم، إن الحتمية الإقليمية، خاصية مركزية في الحياة اليهودية منذ بدايتها في العهد، بين الرب وإبراهيم ونسله. كلمات القصة بالكتاب المقدس تقول:

قال الرب لإبراهيم: (اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظّم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعِنَكَ، ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض) (سفر التكوين-الإصحاح الثاني عشر 1: 3). وحينما رحل إبراهيم وأسرته إلى أرض كنعان، "ظهر الرب لإبرام وقال:

(سوف أعطي هذه الأرض لنسلك). بعد ذلك عرض الرب لإبراهيم الأرض كلها وقال:

(لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها، ولنسلك إلى الأبد، وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض، فنسلك أيضًا يعد، قم، امشِ في الأرض طولها وعرضها، لأني لك أعطيها) (سفر التكوين 12: 15 -17).

الأرض أيضًا، مكون مركزي للإثبات التالي لهذا الوعد، كمباركة الرب لإبرام، وتغيير اسمه إلى أبراهام: (وأعطي لك ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل أرضِ كنعان، ملكا أبديا وأكون إلههم) (سفر تكوين 17: 8). كيف استحوذت القدس على مكانتها الخاصة في تدرج تاريخي، نحو زيادة أهميتها، لتصبح المركز القومي والديني في الحياة اليهودية؟ .

يقول الباحث اليهودي روفائيل جوسب (محاضر الفلسفة اليهودية الحديثة)، عن مدينة بيت المقدس، والأهمية الروحية لها، من وجهة النظر اليهودية:

إن مركزية القدس في الشريعة والتاريخ اليهودي، هي التي منحت المدينة، منزلتها الروحية، لأنها كانت عاصمة الوطن، حينما تمتع باستقلاله، فقد احتوت على الإلهام القومي والروحي معًا، إن المركزية السياسية البادئة بداود وسليمان، ركزت على القدس، وكذلك كانت في نفس الوقت،

المركزية الدينية للعبادة في المعبد. كلمات أشعياء وميخا لها أهمية معاصرة وأخروية:

("لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب).

مع التدمير البابلي للقدس ومعبد سليمان عام 586 ق. م. واجه اليهود في المنفى البابلي، مشكلة جديدة وهي، كيف يعيشون حياة دينية، رغم فقدان القدس، كمركز قومي وديني لهم؟
عبرت المزامير ببلاغة، بكلمات أصبحت نوعًا من العهد اليهودي بالولاء:

(على أنهار بابل، هناك جلسنا، بكينا أيضًا، عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا، لأنه هناك، سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا، سألونا فرحين قائلين:

رنموا لنا من ترنيمات صهيون، كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة!!).

(تشكحني يميني إم شكحتك يا يوروشاليم---) أي:(إن نسيتك يا أورشليم، تنساني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرح) (المزامير 137: 1 -6). لهذا السبب فإن الاحتفال بأقدس عيدين في مناسبات اليهود هما:

1-يوم الصيام، في يوم الكيبور، أو يوم التكفير.2-عيد الفصح عند اليهود.

يشتمل كلاهما على ترديد عبارة: (العام القادم في القدس).

لهذا أيضًا، يتوجه اليهود، عند الصلاة، في كل مكان في العالم إلى القدس. يقول الباحث اليهودي روفائيل جوسب، (محاضر الفلسفة اليهودية)، عن الرمزية المتعددة، لمدينة بيت المقدس:(أصبحت القدس تدريجيًّا، ترمز لمستويات أكثر من المعاني في اليهودية، فإنها تمثل الوحدة السياسية للوطن، كعاصمته القومية، ورغم أن هذه العملية، تمت بشكل تدريجي وبمقاومة شعبية، فإن القدس، أصبحت تمثل العبادة الحقيقية لله، حيث اختفت بها المذابح، وأماكن العبادة الوثنية، أما حينما دمرت القدس، فإنها غدت مركزًا روحيًّا يرمز إلى الولاء اليهودي للتوراة، والحنين، للبعث الديني والقومي.

أحد المجالات الأولية التي تمثل بها الرمزية اليهودية العقائدية للقدس، كانت الطقوس، مثال ذلك، فإن أحد البركات السبع التي يُبتَهل بها في احتفال الزواج، توضح بروز القدس الرمزي:

("فلتكن هذه التي لا أطفال لها، سعيدة ومسرورة، بأن أطفالها مجموعون معًا، في غمرة الفرح، مبارك أنت أيها الرب، الذي جعل صهيون يبتهج بأطفالها... إلهنا، اجعل أصوات السعادة، وأصوات البهجة، أصوات العريس، وأصوات العروس، تسمع في مدن يهودا، وفي طرقات القدس.. " وينتهي احتفال الزواج عادة، بكسر العريس لزجاج، كذكرى لتدمير القدس، وبالتالي فإنه حتى في أقصى لحظات السعادة، تبقى كلمات المزامير محققة (إن لم أفضل أورشليم، على أعظم فرحي)". على النقيض من ذلك، فإن طقوس الوفاة في اليهودية، حينما يقوم شخص بالحداد على وفاة أحد أفراد عائلته، فإن الذين يعزونه يرددون هذه الكلمات:

(عزاك الله، مع أولئك الذين يقومون بالحداد، على صهيون والقدس).

إن الطقوس اليومية المعتادة، متخمة بإشارات عائدة على صهيون وإعادة القدس. فعبادة الصباح، تنادي بوحدة الإله، بأمل، أن الإله سوف يشرق بضوء جديد على صهيون، ويجلب السلام من الأركان الأربعة للأرض، ويجعلنا نسير بسيادة على أرضنا، أما في الصلاة الوسطي فتتلى ثلاث عبارات كهذه: (عد برحمة إلى القدس، مدينتك، أعد بناءها كبناء أبدى، حالاً في يومك.. مبارك أنت، بالرب، يا باني القدس، فلترى أعينُنا، عودَتَك الرحيمة للقدس. الرب يباركك، يا من يعود بحاضره إلى صهيون). حينما تخرج أوراق التوراة من حافظتها للقراءة العلنية، فإن مجموعة من آيات الكتاب المقدس تتلي، وهي تشتمل على:(الأب الرحيم، أفد صهيون بجميلك، أعد بناء حوائط القدس.. لأنه من صهيون تخرج التوراة، ومن أورشليم كلمة الرب). يشهد السبت والأعياد الموسمية الكبرى، حجًّا جماهيريًّا للقدس، وتعكس الصلوات الخاصة الإضافية، والتي تتلى في هذه المناسبات، التركيز على القدس، والتي يتم الشعور بها بشدة. أحد أكثر العبارات تعبيرًا، نجدها في الصلاة، التي تسأل الإله أن (يرحم صهيون، لأنه بيت حياتنا). وهكذا يلخص شعور الحاخامات، بإحساس حقيقي، أهمية القدس في اليهودية، باعتبارها (بيت حايينو) أي بيت حياتنا، مهما كانوا على بعد منها.

لأنها كانت تعتبر، البيت النهائي لليهود، فإن تدميرها كان ولا يزال لليهود المتدينين، سببا للحداد العميق، فباستثناء يوم الكيبور (يوم الغفران) حيث صيامه لمدة أربع وعشرين ساعة متصلة، يهب التوبة والنقاء، فإن أيام الصيام الأخرى لليهود، ترمز إلى الحداد، على تدمير القدس في مراحل متطورة، مثال ذلك: اليوم الوحيد الآخر الذي يصام، لأربع وعشرين ساعة في العبادة اليهودية، وهو اليوم التاسع من شهر الصيف، حيث تم في هذا اليوم نفسه، تدمير المعبدين، الأول والثاني، بفارق زمني مقداره ستمائة عام.

بكلمات النبي أشعياء: (افرحوا مع أورشليم، وابتهجوا معها يا جميع محبيها. افرحوا معها فرحا، يا جميع النائحين عليها) (أشعياء 66: 10).
أدبيات ما بعد التلمود، كان حب صهيون، والحداد على تدميره، ونفي الشعب اليهودي، يعبر عنه، كأجمل وأشد ما يكون، على لسان الشاعر والفيلسوف يهودا هاليفي (أسبانيا 1085-1141) في قصيدته العبرية الرفيعة:

(قلبي في الشرق، لكني في أقصى الغرب، كيف لي أن أتذوق ما أطعم؟ كيف يسعدني ذلك؟ كيف أفي بنذري وعهودي، وصهيون في أرض الكنائس؟ وأنا في السلاسل العربية؟ ما أيسر التنازل عن كل الخيرات الأسبانية على نفسي، في سبيل، أن أرى غبار المعبد المخرب!).
يواصل روفائيل جوسب (محاضر الفلسفة اليهودية) حديثه فيقول:

(ربما يغرينا أن نقترح، أنه بعد قرون من العزلة عن صهيون، فإن القدس المشار إليها بالصلوات والأدبيات، هي أقرب، أن تكون القدس المثالية السماوية "القدس العليا" (يوروشاليم شيل معلاه)، من أن تكون القدس الحقيقية الأرضية "القدس السفلى" (يوروشاليم شيل ماتاه). لكن في الواقع، فإن العقيدة الباطنية، رأت أن الشكل المزدوج للاسم (يوروشاليم)، هو تلميح للقدسين العليا والسفلى). إنه حقيقي بالطبع، أن عزلتهم وبعدهم عن القدس الأرضية السفلى، هو ما جعلهم يتخيلون ويصورون بحرية أكثر، القدس السماوية المثالية، في أدبياتهم وأساطيرهم، تماما كما يفعل الفنانون المسيحيون، حين يصورونها بمثالية في لوحاتهم، وهم على بعد كبير منها.على أية حال، فإنه ثمة فارق أساسي:

بالنسبة لليهود، فإن المعنى المثالي أو المجازي، لا يمكن أبدًا أن يحل محل المعنى الحقيقي أو الحرفي، وإنما فقط، يقوم بتدعيمه وتحفيزه، فبدون الكوني، الرؤية الكلية للقدس العليا، فإن القدس الأرضية، لا يمكن أبدًا أن يعاد بعثها، كذلك، فإنه بدون القدس الأرضية، فإن القدس الكلية السماوية، لا يمكن تحقيقها.

حينما تخيل اليهود القدس السماوية، فإن ذلك، كان بغرض إعطاء اتجاه ومعنىً لآمالهم في بعث القدس الأرضية، ولذلك فإنه عندما تمنى اليهود إعادة القدس الأرضية، فإنهم رأوها، كمكون أولي وضروري، لتحقيق توقعاتهم المشيحانية الكلية.

القدس إذًا، تشير في اليهودية، إلى البعث القومي للشعب اليهودي في إسرائيل، كما تشير إلى العصر العالمي للعدل والسلام المصاحب لأيام المشيح، والآن لا أحد يعرف مثلما يعرف أهل القدس، خصوصًا في هذه الأيام الصعبة، كم هي هائلة هذه الهوّة بين ما نملك في الواقع وما نرجو من مثال، القدس هي أي شيء، إلا أن تكون "مدينة السلام"، إن مشكلاتها ونقائصها لا تعد ولا تحصى.

خلاصة ما تقدم، أنه من وجهة النظر اليهودية، فإن القدس، لها أهمية روحية عالمية مشتركة، لكل أولئك الذين يعتقدون أن الحقيقة النهائية، هي إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، كما أن لها أهمية قومية، خاصة لشعب إسرائيل، هذان البُعدان لأهمية القدس، متشابكان لا ينفصلان ولا ينعزلان.
لهذا السبب فإن النبي أشعياء (وكذلك النبي ميخا بكلمات متطابقة تقريبا) كانت له رؤيا عن القدس، الأرضية والسماوية، المثالية والواقعية: سماوية ومثالية، في توجهها وهدفها، لكن أرضية وواقعية في كونها هنا، والآن وعلينا إذًا تحقيقها.

"ويكون في آخر الأيام، أن جبل بيت الرب، يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة، ويقولون، هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون، تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" أشعياء: 2: 2 - 3، ميخا: 1- 3.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى