السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم موسى نجيب موسى

مرفأ للغياب

كلما سرت في هذا الشارع يحيرني كثيرا التاريخ الذي يحمله (26 يوليو) مثله مثل تواريخ كثيرة في حياتي لا أعرف مناسبتها!! ولكن يريحني المبني العتيق الرابض على فوهة الشارع والذي يمتلك ناصيتي شارع رمسيس وهذا الشارع المحير..
أفتش في ذاكرتي عن واقعة معينة أو حدث استطاع أن يخدش جدار الذاكرة ولو بخدش بسيط يترك بها علامة ما تميز هذا التاريخ.. لا أجد.. تسلمني هذه الحيرة إلي الميزان الكبير الذي ينام علي جبين المبني العتيق والذي أري كفته اليسري دائما تميل كثيرا عن اليمنى ودائما ارى عليها الشيطان يعانق فتاة حسناء يرقصان في هدوء مميت سألت بعض العالمين ببواطن الامور في بلدنا عن سر هذه الكفة وسبب هذا الميل.. أجاب بأن الفنان الذي قام بتصميمه يعتقد أن العدالة الحقيقية هي من حق السماء وحدها ونحن بشر، عدالتنا تحتمل الصواب والخطأ ومن أجل هذا ترك هذا الميل ليدلل على قناعته ولكن هذا الكلام لم يدخل قناعتي ولم يغير شيئا مما انتويت فعله، ذلك الذي حرض سلطان النوم علي عدم الاقتراب من منطقة جفوني التي حصنتها ضد قوة هذا الفعل وقوة الفكرة التي دارت بي حتى كدت أهوي.

ظللت ليالي كثيرة يفارق السرير جسدي أفكر في كيفية اختراق هذا المبني ومحاولة تعديل الكفة المائلة التي لم يلحظها أحد سواي.. بعد عناء لم أجد أمامي أي طريق سوي التسلل ليلا وتنفيذ ما أريد.

هناك في الهزيع الثالث من الليل وقبل أن ينطلق صوت المؤذن شارخا ليل القاهرة بوقت كاف وبعد أن هدأت الحركة تماما ولم يتبق سوى أنوار الشارع وبعض الساقطات اللائي يقبعن أمام بارات وسط البلد ليمارسن هوايتهن في اصطياد الزبائن المغيبين عن كل شيء إلا هن ويقمن بممارسة هذه الهواية في حراسة ذلك الميزان المائل.. وتبقى أيضا أضواء قليلة وأصوات نفير السيارات الشاردة التي لا تعرف لعجلاتها طريقا أو هوية.. أخذت أحوم حول المبني حتى أعرف عدد قوة الحراسة وطريقة التناوب ونوع الأسلحة التي يحملونها لم أجد سوي خفير واحد فقط يحمل بندقية قديمة ذات فوهتين ورقم قديم مكتوب باللون الأبيض علي كعبها ممسوح معظمه، بعد أن انتهي الخفير من إعداد راكية النار وضع عليها براد الشاي وسحب الجوزة المركونة بجواره وأخذ يعتني بها.. وبين حين وآخر ينكفيء علي راكية النار حتى يمد جسده النحيل ببعض الدفء من لسعات برد يناير القارصة.. وبعد أن فرغ الخفير من شرب الشاي بنغمات اعتدت سماعها من عمدة بلدنا عندما يستدعينا لأمر هام يتعلق بأحوال البلدة علي اعتبار أننا علي حد قوله ’متعلمين ومتنورين’ وكذلك بعد أن فرغ من حجر المعسل الذي صاحب أنفاسه المتوالية سعال متقطع عال كان يخرج من صدر الخفير مصحوبا ببلغم كان يقذفه تجاهي دون أن يراني، وجدته يستسلم لغفوات متقطعة يرخي فيها جفونه تماما وتمتد إلي حد سماع صوت شخيره الذي يقطعه’كلاكسات’ السيارات الشاردة أو صوت قوي لاحتكاك عجلات إحدى السيارات كادت تدهس كلبا ضالا حاول عبور الطريق مابين غفوة وصحوة تسللت إلي داخل المبني مباشرة..

روعني منظر الردهات الفسيحة والممرات الطويلة والسلالم الدائرية الفخمة.. لم أشأ أن أضيع وقتا فقفزت علي السلالم بسرعة حتى وصلت إلي الطابق الثاني وسرت في الردهة الطويلة فهاجمت أنفي رائحة عطنة استفزت مارد الفضول الكامن بداخلي فتتبعتها حتى وصلت إلي غرفة تقع في نهاية صف طويل من الغرف التي تملأ الردهة، فتحتها بصعوبة بعد أن قاومني قليلاً قفلها القديم.. وجدتني أمام كتب ضخمة للقانون والتشريعات والأحكام تلك الكتب العمياء التي حكمت علي ذات مرة وأنا البريء بقضاء عشر سنوات كاملة وسط الأحجار والرمال ومنتهكي أمن المجتمع وسلامته.. تلك الكتب التي أصبحت لا أحبها مطلقا ولا أطيقها وكثيرا ماحاول صديقي ’سميح’ طالب الحقوق أن يبسطها لي ويعطيني مبررا قانونيا للحكم الذي صدر ضدي لكني كرهته هو الآخر مثله مثل تلك الكتب المهترئة.. قفز إلي ذهني سؤال جعلني أهمس بيني وبين نفسي في ضجر:

 أين أنت الآن يا سميح؟
لم أدع السؤال يشغلني عن هدفي الأساسي الذي من أجله جئت إلي هذا المكان الموحش. أغلقت الحجرة وتوجهت إلي سطح المبني، لم أعبأ بالملفات الكثيرة المتناثرة هنا وهناك أو بالاوراق الممزقة التي يغرق بها السطح كله بل توجهت إلي حافة المبني التي يوجد اسفلها الميزان فقفزت إلي أعلي وأدرت جسدي إلي الناحية الأخري حتي أصبحت علي مسافة قريبة جدا من مرادي، وضعت قدمي علي إحدي النتوءات التي تزين واجهة المبني وأمسكت بيدي اليمني الحافة وأخذت أميل قليلا قليلا بجسدي البدين حتي لامست يدي الأخري كفة الميزان المائلة وعندما هممت بإعادتها لوضعها الطبيعي انزلقت قدماي وسقطت بجوار الخفير تماما.. الغريب أنه لم يفزع أو يهرول كمن اعتاد أن يرى مثل هذا المنظر كثيرا.. تأملني قليلا ثم ذهب بهدوء إلى أحد الخارجين على القانون والذي يجلس دائما في مقهي مجاور للمبنى العتيق وقايضة على رصاصة لبندقيته الصدئة مقابل تركه وشأنه وعاد إلى حيث جثتي غارقة في دمائها وفرغ الرصاصة في صدري، بعدها أخذ نفسا عميقا وجلس يعد كوبا جديدا من الشاي مع تجهيز تعميرة (تعدل دماغه) التي قلبتها له بفعلتي هذه .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى