السبت ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

مدينتي العطر

تقرأ في رواية تضج بالأمكنة والأزمنة ، وتتذكر أمكنتها وأزمنتها هي ، تقرأ هذا المقطع من الرواية ويشرد خيالها في الأفق السابح في ذاكرتها : ( كانا يسيران في شارع العشاق في المدينة ، يده تلف خصرها كحزام من نجوم ، وكان النسيم الذي يتغلغل بينهما يسمع وشوشاتهما ، كان عطره يلفح أنفاسها فتود أن تبقى ملاصقة له طوال حياتها ، كانت تشعر أنها تذوب وتذوب في جزيئات ذاك العطر ... ترى ماذا يفعل العطر في أنفاس المحبين ؟؟ ظلا يمشيان في ذاك الشارع ، تارة تتأبط ذراعه يدها ، وتارة أخرى تلفها يده فتشعر بالحنان يسري في أجزاء جسدها ) .

 يا إلهي كأنني أنا الراوية .. كأنني أنا التي أصف المدينة والشوارع ، و أغوص أكثر في دقائق تلك الأمكنة ، كنت أظن أن تلك المدينة لي وحدي ، وأن شوارعها لي وحدي ، وأن زمنها هو لي وحدي .

لم أكن لأتخيل أن هناك كاتبة أخرى كانت تشاركني أحاسيسي .. هل أحبت فعلاً هناك في المدينة التي فتحت ذراعيها لي .. هل رأته ؟ لا إنه لي وحدي .. هي لم تذكر اسمه في روايتها ، لكن الأوصاف التي ألصقتها بشخصه هي أوصافه نفسها .. لماذا ترسمه وهو لي وحدي ... أنا لا أرسمه لأنه موشوم في ذاكرتي .. صحيح أنني لم أره منذ سنوات لكن خياله يرافقني دائماً .. أخال أنه يمشي معي ويتحدث معي ، ونجلس في الأمكنة التي نحبها ، ونزور المقاهي التي لم نزرها قبل .... نتحاور ، نشرب قهوتنا ، نضحك ... نتهامس ... كل الأوقات نعيشها معاً .

ماذا فعلت هذه الكاتبة بي ؟ لماذا تشق علي أزمنتي وتجترح أمكنتي ، ألم تعلم أنها لي وحدي؟ .

ثم ذلك العطر ، ورائحته هو ، لماذا تتحدث عن عطره وعن شذى جسده ؟ ألا تعلم أنهما يخصانني أنا وحدي ؟ أنا التي شممتهما حين التقيت به لأول مرة ، فلماذا تتحدث عنهما وكأنها هي التي ذابت فيهما ؟

* * *
تتصل به ، تحدثه عن تلك الروائية ، ثم تسأله :

 هل تعرف تلك الروائية صاحبة رواية ( مدينة العطر )؟

 لا .. ولماذا تسألين ؟

 هل قرأت روايتها ؟

 لا لم أقرأها ! أهي جميلة ؟

 من ؟

 الرواية !

 ظننتك تسأل عن الكاتبة ؟

 وما علاقتي بها ؟

 كأن لك علاقة بها ، كانت تتحدث عن أمكنتنا وأزمنتنا ، وتتحدث عن عطرك ورائحة جسدك !

 عن عطري أنا ورائحة جسدي ؟! كيف عرفتِ ؟

 هكذا شعرتُ ! ألم يجذبني عطرك ؟ ألم تنسرب رائحة جسدك إلى أنفاسي ، حتى وددت أن أتكور تحت قميصك ؟!

 أتذكرين تلك اللحظات ؟

 لم أنسها لحظة .. كنت أعيش زمناً آخر غير زمني ، متى يرجع هذا الزمن إلينا ؟

 سيرجع .. وشت لي الأيام بذلك .

 الأيام تطول ، والزمان يطول ... يعرض ... يكبر ... يشيخ ، لكنه هو نفسه .. الزمان .. نعم الزمان .. أشعر أني غريبة عن هذا الزمان .

 ولكن المكان وليفك !

 المكان الذي احتوانا هو وليفي ، بينما باقي الأمكنة التي لم ترنا ولم نرها لاتهمني بشيء .

 أما زلت تتذكرين المدينة حين رأيتك لأول مرة فيها ؟

 مازلت أتذكر كل الشوارع والأحياء التي مررنا بها ، لقد توقف زمني في تلك المدينة .

 ألن تكتبي رواية عنها ؟

 لقد سبقتني تلك الروائية صاحبة ( مدينة العطر ) لم يبق شيء في المدينة لم تتحدث عنه ، أخال أنها سرقت أفكاري .. كانت ترسم لحظاتنا بخيالها وكأنها كانت معنا ، تراقبنا ، ألا تعرف تلك الروائية ؟

 وهل تظنين أنني وشيت لها بأسرارنا ؟ أسرارنا لنا وحدنا ، والمدينة لنا وحدنا ، وكل شيء فيها لنا .. ولكننا لم نكن وحيدين فيها ياحبيبتي !

 لا .. كنا وحيدين فيها ، أنسيتَ أننا كنا نتصرف فيها كما يحلو لنا ؟!

 ولكننا لم نكن وحيدين فيها .

 ولكن أحداً لم يكن لينظر إلينا .. كنا نعيش الأحلام والأوهام معاً ، ونعيش الزمان والمكان معاً ، ونعيش كما لو كنا وحيدين فيها !

 كما لو كنا ..

 ولكننا ما زلنا وحيدين في هذا العالم ، وحيدين في الروح والجسد ، وحيدين على شاطئين ، وما بيننا البحار والوهاد والمحيطات .

 كلها تتلاشى حين أسمع صوتَكِ !

 ليتها تتلاشى لتكون معي .

 أنا معكِ دائماً ، أنسيتِ أنك سرقت القلب ومضيت .

 أود لو أشرب قهوة الصباح معك !!

 سنشربها ذات يوم ..

 ومتى يجيء هذا اليوم ، طال انتظاري له ، لم أعد أطيق لحالي صبراً .

 أوتظنين أن حالي أفضل ؟

 سأعيد قراءة الرواية مرة أخرى ، إني أعيش فيها أمكنتي وأزمنتي ..

 حين تنتهين من قراءتها أرسليها لي .

 أخشى أن تقع في حب كاتبتها .. لقد حكت مشاعري كلها ، وأحاسيسي كلها !

 أصبحت في شوق لقراءتها !

 أبدأ الشوق يتسرب إلى داخلك ؟!

 أقول الشوق لقراءة الرواية وليس إلى كاتبتها .

 سأودعك الآن ، أخشى أن تصل رائحة أمكنتها إليك ، فتقع فريسة حبها ...

* * *

حين انتهت من قراءة رواية ( مدينة العطر ) مرة أخرى ، أودعتها جانباً ثم أمسكت بقلمها وراحت تكتب :

حين قرأت ( مدينة العطر ) ظننتها مدينتي ، وحين غصت أكثر في تفاصيلها ، ظننت أنها تفاصيل حياتي ، ولكني أكن الفضل لكاتبتها لأنها أنعشت ذاكرتي ، فلفحني أسلوبها ، وتابعت السير في لغتها ...

( مدينة العطر ) ليست لي ، إنها لها ، لكن مدينتي سأدونها الآن وسأسمي روايتي ( مدينتي العطرُ ) لأن العطر هو المدينة التي أبحرت في مياهها ففاض علي بذاك الحب .

* * *

بينما كانت تسير على أحد الأرصفة في مدينتها استوقفتها عناوين كتب في إحدى المكتبات فوقفت أمام واجهة المكتبة، وراحت تتأمل ... وقعت عيناها على عنوان رواية من وراء الزجاج... إنها ( مدينة العطر ) ...

 ليتني أشتري نسخ الرواية كلها لأوزعها على العالم كله .

- هل أعيد قراءة الرواية مرة أخرى ؟ هل أعطيها لأمي وأختي وكل صديقاتي ليقرأنها جميعاً ؟ هل أكتب عنها في الصحيفة المحلية ؟

تصل إلى البيت، فتراها على طاولتها، تتذكر كلماته:" أصبحت في شوق لقراءتها !"، فتهجم على الرواية، وتبدأ بتمزيقها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى