الاثنين ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

سرقتها الريح

حدائق نارنج، تسقسق فيها سـواقي الحب كانت لنا الدنيا يا زينب، ولكن دون سابق إنذار، وفي يوم من أجمل أيام العمر، تغيّرت الدنيا، أخذت منا ولم تعطنا، هزتنا ولم تهدهدنا، ثم حكـت لنا حكاية حزينة، وحولتنا أنت وأنا إلى مظلومين فيها، فأي منطق ؟

وها أنذا الآن يا زينب، أدور مثل يعســوب في الأزقة والحواري، في الليل والنهار، وقد مزقت بذلتي السـوداء، وربطة عنقي التي كانت بالأمس زاهية الألوان، وها أنا حافي القدمين، أدور ولا أذكــر ولا أتذكـرغيرك، أمشي بخطوات مجنونة، وأحيانا أركض، أتحدث إليك والى نفســـي وخيالاتي، ولا أرد على الأفواه التي تتأسف عليك وعليَّ يا زينب.

"اتركوه وشأنه، مصيبته كبيرة"

"كان مهووساً بها"

"يا له من مسكين، إلى متى سيظل على هذه الحال؟"

"بل يا له من أبله، من أجل امرأة لا راحت ولا جاءت فعل بنفسـه ما فعل"

آاااااه آه يا زينب.. حلمت بك منذ سنوات طويلة، وببيت صـــغير يجمعنا ولا يتسع إلا للضحك وباقات العشق وتبادل الشــفتين، كبرت وكبر حلمي في قلبي، وكنت كلما ألتقي بك، أنظرإلى جسدك المليء بالثمار الحلوة، وأرسم تفاصيله بجملة لم أعــرف غيرها:" أحبك يا زينب".

من بعد طول انتظاروتعب وصبر مجلجل، ركبنا السيارة المزينة بالورود والشــــرائط الملونة، لتأخذنا إلى ليلة العمر، وكان العـــطر يفوح منا ويختلط بالشــهوة والشـــوق نحو غرفة نومنا التي انتقيناها معاً في صباح ربيعي بديع.

كل الأحــبة كانوا من حولنا، وكانت الزغاريد ترتفع في الفضاء كعصافير ملونة، وآن احتوانا المقعد الخلفي، صـنعنا كتائب من بهجة، وتبادلنا الهمـــسات وباقات القرنفل الأحمر والأبيض، ورغما عنك وعني، تعانقت أصــابعنا، لكنها لم تســـــتطع أن تخمد حممنا، وبقيت نظراتنا لا تفارق اللوحات الزاهية المرســـومة على وجـهينا، وتنتظــر انتهاء الســـاعات القليلة لتهرول نحو أعطـــاف بيتنا، ليتم التلاقي بين قلبينا وجسدينا يا زينب.

كم كانــت الدنيا جمـيلة ونحن في طــريقنا إلى النادي المليء بكل أصناف الفرح، كنا نمارس عشقنا، همساتنا، ابتسـاماتنا، وضحكاتنا الخافتة، ولا ندري أننا في طريقنا نحو الهاوية يا زينب.

على الطريق الســريعة، وقبل أن نصـــل إلى البلدة بعشــرة كيلو مترات أو أكثر بقليل، جفت جداول العسل على خديك.
قلت وراحة كفك ترتاح فوق صدرك:

 أشعر بوخزات حادة في صدري.

لا أدري ماذا أصابني، غير أنني قلت:
 يبدو أنها تشنجات فلا تخافي.

ظل الألم يعشقك كما عشقتك يا زينب، فاصـفـّر وجهي، خاف كل عضو في جسدي، طلبت من السائق أن يســرع، وأسندت رأسك إلى كتفي الأيمن:
 لا تخافي يا حبيبتي، ستكونين على ما يرام.

بعد لحظات، صار وجهك ممغنطاً بالشحوب، ســـقط رأسك على ركبتيَّ، تبعـــــثر جمالك، وتبعثرت معـــه رقتك الماسية، شــعرت بأحلامي كلها تتهاوى، خفق قلبي على نحو لم يسبق حدوثه من قبل، في لحظة مبهمة، لكنها مكثفة، رفعت رأســك، هززته برفق وحنان، ناديتك بحبي الكبير فلم أسمع غير شهقة خافتة كنداء غريق في بحر متلاطم الأمواج.

كان السائق يطير على الطريق ولا يسـتجيب لاشارات الآخرين, وكانت نداءاتي تتوزع في حقول الحنطة، وأنت يا زينب، ســافرت كغيمة مليئة بالمـطر وتركت حقـــول قلبي كلها عطـــشى، كيف استطعت أن تفعلي ذلك يا زينب؟ كيف..؟ كيف..؟

قطعنا كل المسافات برقم قياسي، ومن خلفنا الموكب بكل سياراته وشخوصه، وأمام المشـفى، ركض الكل باتجاهنا، وبدأت الأفواه تتساءل بدهشة لا توصف:
 ماذا حصل؟

لأكثر من ساعة وجسدي يمتهن الهذيان، بينما الآخرون يرسمون صور الفوضى ويتلون الأسـئلة، وحين خرج إلينا الطبيب، نبتت في الصدور أشواك من نار أحرقت القلوب، وحولت المشــفى إلى ناد للنحيب.

كيف تجـرأت الريح أن تسـرقك وأنت ترتدين ثوب الزفاف يا زينب؟ قولي لي أرجوك، هل أحلم وأنا نائم إلى جانبك في ســريرنا المذهب؟ أم أسير في صباح ميت مثلي مع كل أبناء البلدة في موكب عرس أردت أن يكون لك وحدك؟

أبدا لم أرفع نظراتي عنك وأنا أذرف الدموع، أكتم صـرخاتي والألم يفتت شــراييني، وفجأة رفعت رأســـــك من فوق الأكتاف، أرسلت نظراتك إلى الوجــوه الكثيرة، اصطدمت نظراتك بوجه أمك وهي ترفع غطاء رأسـها الأبيض، تلوح به، تولول حيناً، وحيناً ترشك بمواويل حزينة، فقلت وأنت تبتسمين:

"هل رأيت مثل هذا العرس من قبل يا أماه؟"

ثم أرسلت نظراتك اليَّ، ابتسمت مرة أخرى، وأشرت لي أن آتي إليك, فما كان مني إلا أن هتفت بطيبة اسمك وهرولت نحوك، اقتربت منك والكل شاهد على فرحتي، لمست الصــندوق الأخضر، وقلت بصوت مبحوح:
 توقفوا.. أنزلوها فهي تريدني.

أمسك بيدي أحدهم ولم يعطني مفتاحا أفتح به باب الهــــدوء، أراد آخر سحقي فوق صخور لا مبالاته، رجوت الجميع أن يستجيبوا لي لكنهم لم يفعلوا، فأعلنت احتجاجي، أطلـــقت دوي انفجاراتي، وحين أبعدوني عنهم وتابعوا سيرهم، جحافل الغضب ســـــــــيطرت عليَّ، فلكمت كل البرابرة الظالمين الذين نصـــــبوا بيني وبينك جدارا من صدور ورؤوس .

وانفتحت الأفواه من جديد:

 لقد جن المسكين
 لو كنت مكانه لأصابني ما أصابه وربما أكثر
 مصيبته كبيرة
 فعلا المصيبة كبيرة
 دعوه يفعل ما يريد، تابعوا سيركم
 مع الأيام سينساها ويتزوج غيرها

أأنساها؟! كيف سأنســــاك يا زينب؟ تابع المـــوكب طريقه بهدوء، وتركني الجميع على قارعة الطـــــــريق، فلم أر أمـــامي غير الجن والعفاريت وهي تضحك وتســــخر مني، ظل جســــــــدي يرتجف، وكلماتي الغريبة تطير في كل الاتجاهات، ولا أعــــرف متى وكيف عدت إلى الأزقة والحواري، وكنت كلما أرى شــــخصاَ اركض إليه واسأله:

 هل تعرف إلى أين ذهبت زينب؟
 زينب سرقتها الريح. كنت أجيب قبل أن يرد، ثم أركض وأركض وأركض حتى التعب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى