الأربعاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

غزالة الغابة

في المدينة التي تسبح شمسها في الغبار، ومطرها آثر الانتحار. أواه.. من هــذه المدينة، كلها محن.. وتتبعها محن. أقصد المدينة المحاصرة بالتراب التي أعيش فيها، ثمة غابة لم أعد أذكر في أية جهة تقع، فقد غادرت المدينة منذ مدة طويلة، على الأرجح أنا فيها منذ مدة طويلة، في هذه الغابة التقيت صدفة بغزالة حبلى باشتعالات المحبة، غزالة مثل قطر الندى، تغفو تحت أهداب الطفولة، تهتز في وجهها المروج الندية، وجنتاها زهـر البرتقال، خصرها كالحور، نهودها أسوار عالية جدا، وشفاهها نبع ماء بارد.

 هل مازلت تحبني؟

ألقت كلامها وابتعدت بخفــة ورشاقة، فتابعت خطواتها حتى اختفت، في تلك اللحظة خفــق قلبي بإيقاع حنين لم أعـرف اللحظة حجمه، بينما أحاسيس مصابة بالخدر اللولبي تتلاطم في داخلي.

نهضت من مكاني وأنا أريد اللحاق بها، لكنني اصطدمت بحــافة شجرة فكاد الإنســان بداخلي يحتضر، خيمــت عليّ وحدة معتقة بتأملات تلتف على انكساراتها، وانفراد ليس ما ألهـو به غير أن استعيد ذاكرتي وأصدقائي، استعيد أحلاما أبحر فيها مع نسـاء عاريات، مصاغات من الزبدة والعســل، نساء ضفائرهن طويلة لا حدّ له، أين ذهبن يا ترى؟

وقفت الغزالة أمامي وكأنها تسللت من حدود السماء واستوطنت الأرض في غفلة مني، وبدا صوتها يخترقني من جديد:

 هل مازلت تحبني؟

كانت تتقمص الغــار، سـكنتني رعشة وبدأت أشعل في غابات الكلام أشجارا، أما هي فبدأت تبوح بطيور بيضاء وتسد أفق الجسد.

اختفت قبل أن المسها، فتفجر نبع الحسرة كاسحا كل كياني، بدت لي الغابة موحشة، حيث لا أنيس فيها ولا وليف، وبدا نبضي يتوزع في المدى ولا ادري كيف التفــت من حولي ورحت اثبت عيني ّ في الفضاء، فجأة صـعقني منظــر لم أر مثله في حياتي: "يا الهــي إنها طيور كثــيرة وملونة تلتف على الهـواء، تمارس هـواية الصعود والهبوط, ثم تشكل بأجسادها الرائعة اسم الغزالة في الفضاء، ثم اسمي, ثم اسمها واسمي معا، كانت تقوم بحــركات رائعة، من أين أتت كل هذه الطيور الجميلة؟

هل أنا في حلم يا ترى؟ أم نائم على حافة نهـر تمخر فيه سفن على شكل نسوة جميلات.

أصعد إلى قمة الريح، ثم أهبط.. أهبط إلى أسفل الضجر، أنظر إلى الأرض التي تهدي أشـواقها للغيوم، وأواصـل ثرثرة المواويل، أرى سيارات وكائنات تتدفق عن يميني ويساري، انظر إلى وامتص دخان سيجارتي بنهم، أرسل نفسا في المدة واسـتجمع العشق في باقة وأرسلها قبلة حارة للتي أشعلت في أعماقي كل المرايا.

"ماذا حصل لها؟"

حملتها الريح ونثرتها مثل البذور"

"إنها ليست إلا حلما جميلا تتوالى صوره"

بعد حين رأيتها في ربوة تمنح احدهم هديل جسدها، وبعد حين آخر رأيتها جالسة تحت شجرة جوز تفرد ضفائرها وتهمس أغنية حزينة، اقتربت منها، فرأيت قدميها من عشب، وثوبها ضباب مكثف، لحظتئذ افعمتني الدهشة، تجمد قلبي وهزته ريح البكاء.

أنظر ما يجاوز الغابــة، حيث ترتفــع من البعيد جبال زرقاء، اذهب بعيدا بعيدا، لكن توقظني من شرودي امرأة قبيحة تمر من أمامي.

أشرت لصديقي الذي رأيته جالسا إلى جانبي فجــأة، والذي لم اعرف من أين انبثق:

 ما أقبح تلك المرأة.

 لكن التـي مـرت قبل قلـيل كانت أقبح.. لم تنتبه إلـيها لأنك كنت شبه نائم وتعزف على وتر حزين.

رجل غامق يمتطي دراجة نارية، شكله أقـرب إلى القرد يقـطع حلمي، تناولت سيجارة من علبة صديقي رغم أن علبة تبغي كانت مليئة.

"أين غزالة الغابة؟"

ذهبت إلى البعيد، ربما تعود، وربما لا تعود.. ستعود.. لن تعود.. هل اختفت؟ أم ضاعت؟ أم ذابت؟"

على حين غـرة وأنا أوزع بوحشـة ابتهالاتي على مدار الوقت، وابحث عن الغزالة الجمـيلة في دهاليز الكلام , لطـخ رؤيتي رجل ملامحه جامدة:"آه يا ربي هل هذا وقته الآن؟ يبدو أنني أســير في طريق وعرة ولا أعرف أن اكتب الحــدث بواقعيته، في الواقع وقف أمامي رجل يرتدي ألبسة تقليدية وقال:

 ليس لي مال ولا بنون.

عندما لم أرد عليه نظر إلي بحقد كما لو كان يشتمني ثم مضى بعد أن قطع أفكاري.

أنظـر يمينا ويسارا، مرآة كبيرة تنبثق أمامي ويذهب الناس والسيارات فيها عميقا عميقا إلى جهات غير محددة, تأملتها مليا فإذا بها تستبد بالمكان وتسطو عليه.

داخل أقبية اللذة المستطابة، أوقدت شمعة الحلم الوليد بينما الغزالة تركن في المرآة وتناديني باسم جميل لعلني لم اسمع به أبدا ولم أفـهم معناه، ولم أعرف لماذا كانت تناديني أنا بالذات.

اتجهت صوب الســماء وأنا أتيه في لوحة الغزالـة التي ابتدعـــها خيالي المجنح، رايتها جالسة فوق غيمة صغيرة وترســل إلي نظرة عبر عينيها السوداوين اللتين خيل إلي أنهــما تشعان حرارة، أنشدت سبيلا من فرح وأردت الجلوس معــها، لكن صديقي الجالس إلى جانبي أعادني إلى مكاني:

 هات البشارة.

دسست الرســـالة في جيبي وبدأت أغـنــي أغنية جميلة، ثم رحت أحلق في أجواء المجلة التي تضيء فيها قصتي، ومضى زمن طويل، نكثت بوعدي دون أن أدعو صديقي إلى وليمة دسمة.

بعد زمن آخر، التقيت صديقي وقبل أن أعانقـــه ذكرني بالوليـمة، فوعدته خيرا.

حين اندســسنا في حانوت صغير سـموه (مطعما) كانــت ثمــة طاولات متسخة تركن إلى الحائط مع أوراق صفراء في الأقداح، وحين مدّ لنا النادل الصغير زجاجة الماء نهضت مذعورا، كانت غزالة الغابة جالسة في الزجاجة وتنظر إلي بنهدين مقطوعين ينزان بأغنية جريحة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى