الأحد ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٢
بقلم أشرف شهاب

دوبليرات تحت الطلب

من أشهر المهن المعروفة فى عالم المجرمين فى مصر مهنة (الدوبلير). وهذه المهنة لم تعد تقتصر على عالم السينما والأضواء فقط. ففى السينما يقوم شخص مدرب بتلقى الضربات، أو القيام بالحركات الخطيرة نيابة عن الممثل الحقيقى. و الدوبلير فى عالم الإجرام يقوم بدور مشابه لدور الدوبلير السينمائى. وتتلخص مهمته فى تحمل التهمة نيابة عن الفاعل أو المتهم الحقيقى مقابل مبلغ من المال. مراسلنا فى القاهرة أشرف محمود حاول أن يكشف بعض الحقائق عن هذه المهنة الغريبة، فكان التحقيق التالى:

كانت المرة الأولى التى سمعت فيها فى حياتى بهذه المهنة تعود إلى ما قبل عشرين عاما مضت. كنت استمع إلى واحد من أبناء حينا، وهو يحكى لنا عن غرائب عالم السجون والإجرام فى مصر. وهو كان يتحدث عن عجائب هذا العالم دون أن يدرى أننى وأقرانى من الصغار كنا نفتح أفواهنا مشدوهين من وجود مثل هذه المهن.

ولأن مصر بلد العجائب، سكتنا، ولم نحاول أن نفهم أكثر عن هذا العالم. ومنذ أيام كنت فى نقاش مع مجموعة من الأصدقاء عن أحوال السجون المصرية وامتد النقاش إلى وصف عالم الجريمة. وامتدت الحكايات إلى الدوبلير.

يظهر دور المتهم الدوبلير الذى يتقدم طواعية للحلول محل المتهم الحقيقى، وتحمل العقاب بالسجن أو الأشغال الشاقة بدلا منه مقابل مبلغ مالى معين فى بعض الجرائم. وبالطبع لا تصلح ممارسة هذه المهنة مع كل الجرائم، ولكنها تنتشر فى أوساط جرائم المخدرات. حيث يتقدم أحد صبيان المعلم الكبير "علشان يشيل القضية بدل المعلم". ويختلف كم المبلغ الذى يتم الاتفاق عليه حسب مدة السجن، ونوع العقوبة. ومن ضمن الاتفاق أن يقوم المعلم بتخصيص مبلغ شهرى كمصروف لعائلة المتهم "الدوبلير"، ورعاية والديه أو زوجته وأولاده إذا كان متزوجا. وبالفعل يتقدم الصبى، ويقوم التاجر بتوكيل محام للدفاع عنه فى محاولة مستميتة للحصول على البراءة. وفى حال البراءة يتقاضى الصبى مكافأة ضخمة، وفى حال الإدانة يسرى الاتفاق.

كما تنتشر مهنة الدوبلير فى حالة حوادث الطرق حيث يقوم المتهم المزيف بالإدعاء أنه هو الذى كان يقود السيارة وقت الحادث الذى نتج عنه مقتل أحد الأشخاص. وتتنوع شخصيات "الدوبليرات" ما بين المجرمين معتادى السجون، ومحترفى الإجرام الذين اعتادوا حياة السجون، ويتخذون منها وسيلة لكسب القوت، وللإنفاق على أولادهم، وعائلاتهم فى ظل ظروف اقتصادية صعبة. وهم يعتبرون أن دخولهم السجن ارحم من وجودهم خارجه. فهم خارج السجن سيعانون البطالة والجوع، بينما هم فى داخل السجن يؤمنون لأولادهم مستقبلا، ومبالغ مالية ثابتة. وهناك "دوبليرات" غير محترفين، تقودهم الظروف إلى لعب هذا الدور، فمثلا، قام سائق سيارة أسرة أحد كبار رجال الأعمال بالتقدم للنيابة والاعتراف بأنه أخطأ فى حادث سير أدى لمقتل الطفلة (سمر – 12 عاما). ورغم إصرار الشهود على أن السائق لم يكن هو مرتكب الحادث، وأن الفاعل الحقيقى هو ابن رجل الأعمال إلا أن السائق أصر على أنه مرتكب الحادث.

وفى حادثة أخرى شهيرة، كان ابن أحد رجال الأعمال المشهورين يلهو بموتوسيكل البحر فى قرية مارينا بالساحل الشمالى، وقتل عن طريق الخطأ أحد المصطافين الذى كان طالبا بكلية الهندسة. وعلى الفور تقدم شخص بديل مدعيا أنه الجانى. ورغم الزوبعة التى حدثت وقتها بعد أن افتضح أمر الدوبلير. نجح رجل الأعمال فى إنهاء الموضوع عن طريق الصلح بينه وبين والد الشاب القتيل، حيث دفع له مليون جنيه مصرى تعويضا. وتم إغلاق ملف القضية على أنها مسألة قضاء وقدر.

وفى حالات اغتصاب الفتيات تظهر أدوار جديدة للدوبلير. ففى إحدى القضايا، تقدم أحد خدم الثرى الكبير إلى النيابة ببلاغ ضد ابن مخدومه، يتهمه فيه باغتصاب ابنته. وأمام النيابة تقدم ابن حارس فيللا الرجل الثرى، وقال إنه هو الذى اغتصب الفتاة. وعرض على أسرتها الزواج منها حتى تسقط القضية طبقا للقانون المصرى. وبسبب بعض الضغوط، وافقت الفتاة ووالدها على الزواج من الشاب الدوبلير. وهكذا، نجا ابن الثرى، وتجنبت الفتاة فضيحة إنجاب ابن غير شرعى عن طريق الزنا، وكسب الدوبلير بعض المال مقابل الزواج من الفتاة. وكانت الأحداث التالية تعتبر نتيجة طبيعية لما حدث. فبعد أسبوعين من الزواج طلق الدوبلير الفتاة. وطردها الثرى هى وأبوها من الخدمة.

ويحكى أحد الأصدقاء، وهو محام عن واحد من الدوبليرات الذين قابلهم، فيقول إنه قضى من عمره نحو 30 سنة فى السجون. فقد دخل السجن حوالى ست مرات، المرات الأربعة الأخيرة منها كانت كبديل لأشخاص آخرين. ويقول إن ذلك الدوبلير وجد أن المهنة مربحة. ولم يكن لديه أى مانع لتحمل أى عقوبة يتم الحكم بها ضده، إلا بشرط أن لا تصل العقوبة إلى الإعدام. وهو وجد أنه من الأفضل له أن يسجن لكى يضمن لأولاده حياة "كريمة"!.

لكن مهنة الدوبلير لها جوانب أخرى. فهى ترتبط فى بعض الأحيان بالتقاليد والروابط العائلية. ففى الصعيد على سبيل المثال، وحينما يرتكب الأب أو أحد كبار العائلة جريمة قتل، يكون من العيب على شباب العائلة تركه للسجن. وفى هذه الحالة يتقدم أحد الشباب متطوعا، أو حسب اختيار أفراد العائلة يتم تقديم أحد الشباب ليعترف على نفسه بارتكاب الجريمة. والاعتراف سيد الأدلة.

ويقول المحامى طاهر السقا إن الاعتراف سيد الأدلة. وفى بعض الأحيان يكون سبيلا لرفع العبء عن كاهل النيابة التى يجب أن تثبت ارتكاب الفاعل لجريمته. ولكن فى بعض القضايا كقضايا القتل، يلزم تقرير المعمل الجنائى، والطب الشرعى، وربما يأتى تقريرهما ليلغى اعتراف المتهم بالجريمة. وفى حال اكتشاف الحقيقة يتم تقديم الفاعل الحقيقى للعدالة، بينما يتم توجيه تهمة تضليل العدالة للدوبلير، وتهمة التستر على متهم. ومن الصعب حسب طاهر السقا التكهن بحجم هذه الظاهرة نظرا لعدم وجود إحصاءات. ولكنه يؤكد أنها ظاهرة منتشرة ومعروفة وهى تنمو نتيجة للفقر، وعدم قدرة الدوبلير على الكسب الحلال، ونتيجة تعود بعضهم حياة السجن، وإحساسهم أن الحياة داخل السجن مثل الحياة خارجه. بل إن الحياة داخل السجن تضمن لأولادهم أو لأسرهم مرتبا شهريا ربما يعجزون عن توفيره لهم فى ظل حياة الحرية خارج السجن مع الفقر، والبطالة والأزمات الاقتصادية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى