الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

حب على الدروب والمفارق

إليك يا أعز الناس..الجميلة الأجمل.. حين أراك.. أقصد حين أراك بقلبي، أتصفح الدروب والمفارق، وأهيئ نفسي للمواعيد، وبعد تعب له بداية وليس له نهاية، أكتشف أن الدروب لن تؤدي إلى عطرك المميز الذي شممته ذات حلم، فأتكسر في واجهات الحيرة، وأرتجف ارتجاف أوتار العود حين تمر الريشة عليها.

تمر الأيام والليالي وأنا ضالع في حبك، أنحني فوق طاولتي، أكتب اسمك الذي أحببت على أوراق الخلود، أرسم صوراً زاهية لوجهك، وأنتظر منك شمساً صغيرة تبدد عتمتي، وما بين الألم وبين السكون، أحملك بين جوانحي بحب أولا، وبحنان ثانياً، وبشوق ثالثاً، وأظل ساهراً مع النجوم والكواكب، أحدثها عنك، وعن يمامك الذي يطير إليّ في كل الأوقات.

وما زلت إلى اليوم أتذكر حين جلسنا أنت وأنا فوق رابية من روابي الليل السعيد، وكان القمر ثالثنا، وأبداً لن أنسى حين قدمت لي الكرز بشفتيك، ثم قلت وأنت تنظرين إلى القمر الضاحك:

ـ أنت وطني الذي أتمنى.

أدخلتك تحت جفنيّ وهمست:

ـ أنا وظنك الحنون وأنت بلادي ولن يكون إلا ما نريد.

ـ لكني الآن هاربة منك فماذا أنت فاعل؟

ـ سأنتظرك ما دمت أحن إليك.. مادمت أصدقك، وأنا على يقين من أنك آتية لا ريب، وعندها سنتعانق طويلاً، نتضاحك كثيراً، نركض في الدروب كطفلين بريئين، ننام على الروابي، ونملأ الدنيا سعادة.

ويا الأجمل في العمر، وفي الزمن، اختفيت فجأة مثلما تختفي ومضة الفرح التي تأتي دون ميعاد، فدخل في رأسي ضجيج سبع مدن صناعية، واندلعت فيه عشرات الحروب، وانطفأت أ فراحي كلها، لكن وجهك لم ينطفئ.

منذ سنة.. سنتين.. عشرين.. أو مئة سنة وأنت وأنا نعيش تحت سقف واحد في بيت جدرانه من قرميد، وتحيط به الورود والرياحين، أجلس وتجلسين إلى جانبي، أنام وتنامين معي، أحلم وتحلمين بين ذراعي، وحين تندلع براكيني التي خمدت منذ انقطاع رسائلك، أتطاير حمماً بين يديك وعلى صدرك ولا أهمد إلا بعد أن يهزمني النوم، وحين أصحو، أجد أن العالم كله متآمر عليّ ولا هم له إلا أن يزعجني بكل الوسائل.

والآن أسألك: هل تقبلين بذلك؟

أنا الأرض العطشى وأنت المزن الجليل، أو أنت الأرض وأنا المزن، فلماذا كل هذا الفراق؟

أراك أمامي في كل وقت مثل مدينة مضيئة، مرات كثيرة في الجزائر الحبيبة، ومرة في مصر أم الدنيا، ومرة في تونس الخضراء، ومرة في العراق بلد الأحبة والغوالي، ومرة في الأرض المقدسة، ومرة في اليمن السعيد، وحين رأيتك في أغلى وأعز وطن على الأرض، وطني، على الضفة اليسرى لنهر الفرات في مدينة الرقة لا أدري ماذا أصابني، كل ما أعرفه أن جداول تموج بخضرة مياه رائقة ومليئة بجرار الهوى والعسل والعمر المديد صبت في نفسي، عندئذ ضحكت كثيراً ولم انتظر طويلاً، صنعت أجنحة من حديد، وطرت إليك وأنا ألهث مبهور الأنفاس.

وآه منك.. هناك، بحثت عنك في كل مكان، على الضفاف وفي الشوارع والأسواق والمراكز الثقافية، فلم أر وجهك النبيل، وإنما رأيت الفرات حزينا، والرقة باردة، كئيبة، لا دفء فيها ولا حنان.

سألت النهر عنك، فلم يجب وظل يجري يجري يجري، مثلما تجري جداول حبي نحو سهوبك.

أين أنتِ؟.. هل ضعت أم ذبت؟.. هل قلت لي سأكون في مدينة الرقة في سبتمبر فانتظرني هناك؟.. ها سبتمبر قد مضى ولم تأتي، ولا اعرف إن كنت قد قلت لي ذلك في اليقظة أم في المنام، فما أكثر أحلامي وما أكثر معاناتي.

في شوارع الرقة، بقيت تائها، حزينا، جائعا، فلم تكن لي رغبة بدخول المطاعم، كيف أشتهي الطعام وأنت غائبة في المجهول، وفي أصيل شبه ميت، يرعاه قمر شاحب، كنت أسير في أحد الشوارع، وفجأة لعلع الفرح في داخلي، رأيت فتاة ترتدي الأبهة، وتقف أمام أحد المحلات، تتأمل ما يعرض من ثياب قي الواجهة الزجاجية، فنظرت إليها بإعجاب شديد: " تبدو غريبة مثلي عن هذه المدينة.. لا بد أنها هي التي أبحث عنها". ولا أدري كيف هرولت نحوها، وقفت إلى جانبها، تأملتها، فرأيت فيها كل صفاتك التي رسمتها في خيالي المجنح:

ـ مرحباً يا أعز الناس.. مرحباً يا غالية.. منذ الصباح وأنا أبحث عنك حتى أنني لم أذهب إلى مهرجان الرواية الثالث. قلت بفرح طفولي وأنا أمد لها يدي.
تطلعت إليّ بدهشة ولم تجب، ثم استدارت مبتعدة عني، حينئذ عرفت أنها ليست النائمة في وجداني، وبعد لحظة قهر ولحظة حزن، تابعت طريقي نحو محطة الحافلات.

ركبت الحافلة لأعود إلى مدينتي، وعلى الطريق كتبت عنك قصيدة رثاء، ثم قرأتها بصوت عال وسط نظرات الركاب وابتساماتهم، ولم أبال بهم، تابعت قراءة القصيدة لكن قلبي هزته ريح البكاء، ثم نهرني وما لبث أن سألني بشيء من الغضب:

ـ كيف تكتب عنها قصيدة رثاء يا ظالم؟ ألا تعرف أنها موجودة في الحضور وفي الغياب، في الحقيقة وفي الأحلام ؟.. صحيح أنها هاربة الآن، ولكن يجب أن تنتظرها إلى آخر العمر وأن تكتب عنها قصائد الحب الخالد، إياك أن تكتب عنها قصيدة رثاء بعد الآن.. ثم أضاف وهو يبتسم : سأقول لك سراً.. إنها الآن غيمة سارحة وستمطر عليك ذات يوم فافرح أيها العاشق الصغير..

مثل مدينة ضربها الزلزال دخلت إلى البيت ومع تعبي وانكساري جلست أمام الكومبيوتر، فتحت بريدي الإلكتروني، فنزلت عليّ طلائع الفرح من كل الجهات، فاستعدت حيوتي ونشاطي في لحظة واحدة، غيّرت ثيابي على عجل، تناولت لقيمات قليلة، ثم خرجت وأنا أبدو مثل مدينة دمشق حين يُنظر إليها من فوق قاسيون في الليل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى