الثلاثاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم سعد الدين

وَداعاً رَجَاء النَّقَّاشْ.. وَدَاعاً أيها النَّبيلْ..!!

كان رجاء النَّقَّاش فارساً من فرسان الكلمة بكُلّ ما في الفروسيّة من معانٍ ودلالاتٍ وقِيَم نبيلة. تَعرَّفتُ عليه مع أبناء جيلي ـ في أواخر السِّتينيَّاتْ ـ من خلال كتابه "أدباء مُعاصرون" فتَرسَّخ لدينا يقينٌ أكثر منه نبوءة بأنه ناقد السَّنوات القادمة. وقد كانْ. بَزَغَ نجم رجاء النَّقَّاش وصارَ مِلْءَ السَّمع والبَصََرِ وتبوَّأ مكانةً في حياتنا الثقافية تليقُ بِقَدْره وعِلْمه وملَكاته النَّقْديّة وثقافته المُتَعَدّدة المناهل والمشاربْ. كَان التلميذ النَّابِه لاثنين من أعمدة الأدب والنقد في الثقافة العربية هما الدكتور طه حسين والدكتور محمد مندور، أخذ عنهما نُصوعََ البيان وعُمق الفِكْر ووضوحَ الرُّؤية وإشراقَ العِبَارة وتماسُكَ المَنْهجِ والإيمانَ العميق بدور الأدبِ ورسالته في المجتمع الإنسانيّ وفي النَّفس البَشَريَّة، دون إغفالٍ لقيمه الجمالية، أو هبوطٍ إلى مستوى الخطابة الفَجّة والشِّعارات البَرَّاقة التي تُفقد الأدب والفَنَّ مصداقيتهما وأثرهما العميق في العَقل والروح والوجدان. كما أخذ عنهما إيمانهما الرَّاسخ بارتباطِ الأدب والفَنِّ بواقع الحياة ومُتَغيِّراتها باعتبارها الينبوع الذي لا ينضب لكُلِّ إبداعْ، وتأسيساً على ذلك فإن الأديبَ أو الفَنَّان هو نبضُ الواقع الرَّاصدُ لحركاته وسَكناتِه، وضَميرُه الحَيُّ الناطق بلسانه والمُعَبِّرُ عن خلجاته وآماله وآلامه وأوجاعه. والأديبُ أو الفَنَّانُ الحَقّ هو ذاك الذي لا انفصامَ بين فِكْرِه وسُلوكه، ولا تناقُضَ بين آرائه ومواقفه.

في كتابه "أدباء مُعاصِرون" ـ وأنا أكتب عنه الآن من الذاكرة بعد ما يقرب من أربعين عاماً من قراءته ـ تناول رجاء النَّقاش بالتحليل والنقد أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد مندور والطَّيِّب صالح وآخرين، فضلاً عن قضايا معاصرة في الأدب والنقد كانت تشغل الساحة الثقافية وتُلِحُّ على الضمير العام آنذاك. دراسته المُوَسَّعة عن أعمال نجيب محفوظ هي ـ حتى يومنا هذا ـ أحد المراجع الأساسية والمنافذ الرَّحْبَة للولوج إلى هذا العالم القصصي والروائي شديد الغنى والخصب والتشابك والتعقيدْ. وقد رصَدَ النَّقَّاش في رؤيةٍ مُدهشةٍ حَقّاً وبفِكْرٍ لامعٍ وحِسٍّ نقديٍّ نافذ ـ ملامحَ التَّحوُّل في مراحله التاريخية ـ شكلاً ومضموناً ـ وتقنيات الكتابة واللغة وأسلوب القَصِّ والتعبير في كُلِّ مرحلة، بدءاً برواياته التاريخية الثلاث ثُمَّ ثلاثيته الشهيرة وانتهاءً بمرحلة ما بعد الثلاثية والتي أطلقَ عليها النَّقَّاش مرحلة "الواقعية الوجوديَّة" وكان أبرز ثمراتها روايات "السِّمَّان والخريف" و "الشَّحَّاذ" و"السَّراب" و"اللِّصّ والكلابْ".

وفي دراسته عن فنّ توفيق الحكيم الروائي تناول النَّقَّاش روايته الشهيرة "عودة الرُّوح" في قراءة جديدة لرموزها ومُعطياتها وأحداثها التي هي إرهاصات بانبثاق ثورة 1919 في مصر.

وفي دراسته عن د. محمد مندور تناول سيرة حياة هذا المفكر والناقد الكبير ومنهجه النقدي ومؤلفاته التي كانت وما تزال معالم مضيئة على طريق التقدم والتنوير والارتقاء. كما عرض لقصة خلافه الشهيرة مع أستاذه د. طه حسين وهو الخلاف الذي حَرمَ مندور من المُضيّ قُدُماً في وظيفته الأكاديمية بالجامعة بدعوى ضعف بصره.

أمَّا دراسته عن رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال" فقد كانت بعنوان: "الطَّيِّب صالح.. عَبقَريَّةٌ روائيَّة جديدة". لم تكن الرواية قد صَدرت ـ بَعْد ـ وإنما اطَّلعَ عليها القُرَّاء في مجلة (حِوَار) التي كانت تصدرُ في بيروت وأُثير حولها جدلٌ كثير أصابَ بعض رذاذه الطَّيِّب صالح وروايته. وقد تَصَدَّى رجاء النقَّاش ـ بثقة ويقين وجسارة المُثَقف والمفكّر والناقد ـ لهذه الدعاوى بالتفنيد نافضاً عن الرواية ومؤلفها أيةَ شوائب أو شبهات أراد البعض إلحاقها بهما في سياق الحملة على المجلة. وقام رجاء النقاش بعد ذلك بنشر هذه الرواية ضمن إصدارات دار الهلال أثناء تولّيه رئاسة تحرير مجلة "الهلالْ". وكانت دراسته النقديّة التي تضمنها كتابه "أدباء معاصرون" عن هذه الرواية بمثابة مصباحٍ مُنير كشف ملامح الإبداعِ والتميز في هذا العمل الرّوائي الفَذّ والذي أصبح جوهرةً من جواهر الأدب العربيّ، مثلما كانَ إيذاناً بميلادِ أحد أعلام الفَنّ القصصي والروائي في الوطن العربي رغم قِلّة إنتاجه.

ما بين "أدباء معاصرون" وهو أوّلُ ما قرأتُ لرجاء النَّقَّاش، وكتاب "ملكة تبحث عن عريس" وهو آخر ما قرأته له، تَعَدَّدت مطالعاتي لكتبه ومقالاته التي تنوَّعَتْ تنوُّعاً رَحْباً وعميقاً بين قضايا الفكر والنقد الأدبي والمسرحي والسينمائي والمقالات الصَّحفية، وكان في كُلِّ ميدانٍ من هذه الميادين صَوْتاً واثق النَّبرةِ آسِراً ومتناغماً وعميقَ الوَقْعِ والتأثير، وصَانعاً من صُنّاعِ الرأيِ مُتَميِّزاً وفريداً في أسلوبه ومنهجه واتساع أفقه وصفاءِ فِكْره وشفافية رؤاه.

قد يكون من المُتَعَذِّر ـ في سياق هذه المقالة ـ أن نعرض لفكر هذا الكاتب والناقد اللاَّمع والأثر الذي أحدثته كتاباته في حياتنا الأدبية والثقافية، لكنني سأتوقف فقط عند مَعْلَمَيْن من معالمِ نتاجه الأدبي والفكري يكشفان عن بعض سماتِه الشخصية والأدبية معاً. أوّلهما: هو كتابه "العقَّاد بين اليمين واليسار" الذي يُعَدُّ إحدى فرائد عقده بل فرائد الثقافة العربية عموماً، ليسَ فقط لقيمته الأدبية والنقديّة ولا لمنهجه العلميّ الرَّصين، وإنما أيضاً لتَجَرُّده ونزاهته وأمانته التاريخية والموضوعية في تقويمه لفكر العَقّاد وأدبه وشعره ومواقفه السياسية والفكرية، وفي هذا السياق نرى كيف تَرَفَّعَ رجاء النَّقَّاش فوقَ كُلّ الحساسيات الشَّخصية والخلاف الفكري والمنهجي بينه وبين العَقَّاد الذي اشتبكَ معَه في سِجَالاتٍ ومعارك أدبية ذاعَ صيتها على صفحات الجرائد والمَجَلاّتْ. في كتابه هذا يعطي رجاء النقاش المثال والقدوة في التقويم الأمين والنقد الموضوعيّ لهذا العلَمِ البارز من أعلام الأدب العربيّ دون انتقاصٍ من قَدْره ومكانته أو افتئاتٍ على عطائه الأدبي أو تحريفٍ لحقائق التاريخ ووقائعه.

والمَعْلَمُ الثاني ـ في فكر وعطاء النَّقَّاش ـ الذي أودُّ التوقف عنده هو مجموعة مقالاته الأسبوعية التي نشرها في صحيفة الأهرام مع منتصف التسعينيّات وكانت أشبه باستراحة فارسٍ تَمَرَّسَ بخبرات الحياة ومُعتَرَكاتها وبلغ أوْجَ نضوجِه وحكمته، فراح يتأمَّلُ ـ بهدوءٍ وصفاء نفس ونقاءِ سَريرة ـ مسيرةَ الحياة ودروسها المُستفادة. في هذه المجموعة من المقالات كان ثَمَّة مراجعةٌ أمينة وشجاعة للنفس، ونَقْدٌ جسورٌ للذََّاتْ، وتقويمٌ جديد للمواقف والآراءِ في ضوءِ ما تزوَّدَ به من وَعْيٍ وعِلْمٍ عَبْرَ مسيرة عُمره. إحدى هذه المقالات كانت بعنوان (الغَضَبْ) وفيها ينتقدُ الكاتب مساوئ الانسياقِ وراءَ انفعالات الغضبِ وكيف أنه هو نفسه كان يُعاني من هذا العَيْب الأخلاقي فخسرَ الكثير وطاشَتْ سِهَامُه في مواقف عديدةٍ فأصابت أبرياء، حتى استطاعَ أن يُدَرِّبَ ذاته على كبْح جماحِ النَّفس والتَّحَلِّي بالحِلْمِ ورباطةِ الجأشِ واستحضار العقلِ والحِكْمة في مثل تلك المواقف.
وفي مقالةٍ عن الشيخ المَراغي ـ وهو أحدُ أئمَّة الأزهر الشريف اتُّهمَ من قبلِ بعضِ الكتابِ والمؤرِّخين بموالاةِ القصر الملكي ـ تصَدَّى رجاء النَّقَّاش لهذه الكتابات مُفَنِّداً إيّاها بسلامةِ المنطقِ وقوَّة البيانِ ورُجْحانِ الحُجَّة، داعياً إلى إنصافِ هذا العالم الإسلاميِّ الكبيرْ.

من خلال كتابات رجاء النَّقَّاش كانت إطلالتنا الأولى على شعر المقاومة في فلسطين المُحتَلَّة. فصارَت أشعار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد نجماً بازغاً من ليل النكبةِ وظلامِ الهزيمة، وزاداً يوميّاً نقتاتُ به ونتغنَّى في الجامعات والمقاهي والمنتديات الأدبية.
ومن خلالِ كتاباته أعَدْنا النَّظر في الكثير من مُسَلَّماتِ الأدب والنقد التي تعلَّمْنَاها وصارتْ بديهيَّاتٍ نُرَدِّدها دون مراجعةٍ أو تحقيقْ، ليتَفَتَّحَ وعيُنا على حقائق جديدة أكثرَ إدهاشاً وسِحْراً وتناغماً مع طبيعة الإبداعِ وروحِ العصْر.

المرَّة الوحيدة التي التقيتُ فيها رجاء النَّقَّاش كانت عام 1983 في مهرجان الأمّة ببغداد ـ أيّام كانَ العراق وطناً للإبداعِ ومُلتقى لكُلّ المُبدعين العرب ـ وقد وجدته كما تَخيَّلته تماماً من وَحْي كتاباته ـ جَمَّ الأدب رَقيقَ الحَاشيةِ جَلِيَّ الفِكرِ عميقَ الثقافةِ شديد الاعتدادِ بمواقفه وقناعاته الوطنية وحِسِّه القوميّ.

وها هو ذا يرحلُ عَنَّا بعد ثلاث سنواتٍ من المُكابدةٍ مع المرضِ تحملها في صَبْرٍ وثباتٍ وتفاؤلٍ وإيمانٍ عميقٍ ويقينٍ لا يَتَزَعزعْ.
رَحَلَ عَنَّا رجاء النَّقاش.. لكنه تركَ لنا زاداً ثقافيّاً وسيرةَ حياةٍ سوف تبقى في ضمائرنا وضمائرِ أجيالٍ مُقبلة بقَاءَ البِذْرَةِ في أصْلِ النَّباتِ المُزْهِرْ.
يَبْقَى من رجاء النَّقَّاش أنه كان امتداداً لجيلٍ عظيم من رُوَّاد النهضة والتجديد في الثقافة العربيَّة، وعَلَماً من أعلامِ الفكر والنقدِ والأدب، ورمزاً للمثقف الوطنيِّ صادقَ الوطنية، أصيلَ الانتماءِ إلى عروبته وتراثه القوميِّ وقضايا شعبه ووطنه وأمَّته، وكانَ مثالاً للتَّجَرُّد والنزاهةِ والالتزام بالموضوعيةِ والابتعادِ عن الشَّطَط والمُغالاة في كُلِّ كتاباته ومواقفه، وكانَ قيمةً عُلْيا للمثقف الواعي برسالته ودوره والمُلتَزِمِ بمبادئه وقناعاته مهما تَعقَّدت المسيرة وتفاقمت الصِّعَابْ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى