الجمعة ٢٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم هند فايز أبوالعينين

تشجيع المبدعين وقتل الإبداع

ما الجدوى من نشر عمل ٍ إبداعيٍّ في ظل تقهقر القراءة كممارسةٍ منتظمة في المجتمع؟

وحتى لو تقلصت أمنياتُ المبدعين إلى بعض ِ القراءات الفردية وبعض ِ تداول الآراء في نطاقاتٍ ثقافيةٍ متخصصة ومحدودة جدا، فإن بلوغ ذروة الثقة بالمنتـَج الإبداعي بما يفضي إلى النشر لا يأتي إلا بعد أعوام ٍ من التأمل والمراجعة والتمحيص، بحيث أن الكاتبَ يمرُّ بدرجاتٍ من التصعيد تجعله في حالة ترقب شديدة لما سيأتي به نتاجُه من ردود فعل لدى القراء أو الناقدين. فينشر ... ليجد صمتا ولا شيء غيره. وما لم يدفع بالعمل إلى يدي كاتبٍ أوناقد ليبدي رأيه فيه على متن أحد الملحقات الثقافية فإن العمل يبقى في الظلام. وحتى لو تداوله النقاد وحاز على جائزة هنا أو هناك، فإن التقدير الحقيقي للعمل يبقى محصورا في فئة النقاد وقلة من القائمين على صناعة الأدب، وليس في من يستهدفهم العمل الأدبي فعلا، وهم الناس عامة. ويذهب جهدُ أعوام ٍ من التأمل والإتقان الأدبي سدى.

أذكر أن الروائية أحلام مستغانمي أبدت في إحدى مقالاتها غيرتها من مواطنها المغني الشاب خالد، لأن أغنية ً له جعلت منه علما تـُعرف الجزائر به. وهي، صاحبة "ذاكرة جسد"، قضت أربع سنواتٍ تحيكها الكلمة تلو الكلمة، ولا أحد يعرفها. غيرتها شعور في محله.

المبدع العربيّ واقعيّ ومطلعٌ على حال الثقافة في عصرنا، فلن تذهب به الأحلام إلى أن يجعل من إبداعه مهنة، أو أن تكون إبداعاته سببا للشهرة أو مصدرا للدخل. حاشى لله . بل أن جل ما يريده هو التقدير..فقط. أن يعترف العالم بموهبته، وبأنها تخلق فيه تفردا لا يظهر للعين. وتقدير الموهبة لن يتأتى للمبدعين الحقيقيين إن لم يكن في ساحة النشر والناشرين آلية لغربلة ما سيجلس على الرفوف بانتظار قارىء ما. أعرف أن هذا رأي سيثير نقمة الكثيرين. لأنه يخالف كل التوجهات السائدة لحث الجميع على النشر والكتابة، أملا في توسيع دائرة الثقافة أو تعميقها، لا بل أملا في جعل المجتمع والأجيال القادمة جديرين بلقب مجتمع مثقف، وكأن ثقل الرفوف يؤشر بطريقة ما إلى ثقل العقول. فازدادت المنح وفتحت الأبواب لاستقبال الكتابات بكل أشكالها، وبدأت منظمات من المجتمع الاقتصادي أيضا بتبني الكـِتاب والكـُتاب، ولم تعد التكاليف المادية عائقا يذكر أمام من يجد في نفسه الرغبة في النشر، فامتلأت الرفوف بالمطبوعات. لكن هذه الوسيلة لا علاقة لها بهدفها المزعوم، لا بل أنها تؤدي إلى عكسه تماما. فكما أن التشجيع الزائد يؤدي إلى الدلال المفرط في التربية، فإن التشجيع الزائد قد يكون أدى إلى انخفاض النوعية في مطبوعاتنا. وهذا يؤدي إلى أمرين فيهما إساءة لصناعة الأدب، أولهما اتساع مساحة المتاح للقراءة أمام مجتمع لا يقرأ أصلا، مما يعني أن ثقة المقبل على القراءة في أن ما سيقرأه هو عمل إبداعي فعلا ستضمحل شيئا فشيئا. وثانيهما هو انخفاض دلالة الإبداع الأدبي كما يجب أن تكون دلالته. فنشر كل ما يـُكتب تحت اسم القصة أو الرواية بغض النظر عن أي تقييم أدبي، بداعي أن الحَكمَ في مدى إبداعه هو القارىء ذاته سيعني أن الكل مبدعون وكلنا شاعرٌ وقاصٌ وروائي. وبانتشار هذا المفهوم ينتفي التميّز في الإبداع. بل تنتفي إحدى معاني كلمة إبداع ومبدع.

ما أريد الحديث عنه هنا هو مقارنة يضطر إليها من يحاول النشر في العالم الغربي. فقد وجدت أن قنوات النشر لديهم تحتم على الكاتب الارتقاء بمستوى نتاجه إلى حد لا يـُبقي شكا في أن يـُقرأ كتابُه. فدور النشر هناك تـَعتبرُ اسمَها هو ختم جودة على أي كتابٍ، لا تعطيه إلا بعد أن يمرّ نصُّه في غربالٍ ضيق الثغرات جدا. والحديث هنا لا يتضمن النشر الذاتي الباهظ التكاليف، بل هو عن النشر عبر دور ٍ تتبنى الكاتب وكتابه بما في ذلك توزيع الكتاب دون أن يتكفل صاحبه بأي شيء سوى الكتابة، بل يتقاضى ثمنا لجهده من ساعة قبول المسودة. ونص المسودة يمر على عدة محررين قبل قبولها، وهؤلاء ليسوا محرري لغة، ولا رقباء في دائرة نشر ومطبوعات ، بل هم نقاد في الأدب معنيون بألا تمتلىء الرفوف بما هب ودب باسم الإبداع، ومعنيون بأن ينافس الكتاب المنشور إلى ذائقة القارىء، وكذلك تتعامل المكتبات مع ما تعرضه على رفوفها للبيع.

قد يفترض البعض أن العالم الغربي قارىء، ويؤسس لأجيال تقرأ، وبالتالي فلا يستميتُ الكاتبُ لأن يرى اسمه على غلافٍ معروضٍ في مكتبة كاستماتتنا نحن، لكن الصحيح أن أزمة القراءة تطالُ الأدب الإبداعي عندهم كما هي عندنا بالضبط، فتوزيع ديوان شعر أو رواية يتطلب جهدا كبيرا من دار النشر، تعكسه بدورها على المطلوب من الكاتب حتى ينتشر الكتاب ويلقى رواجا لدى تلك الشريحة المتضائلة ممن يثمنون الأدب الإبداعي. لكن هذه الأزمة لم تدفع بالجهات المعنية بالثقافة عندهم إلى أساليب تخفض من شأن وجوهر الأدب في سبيل حلها. فالنار لا تـُطفئُ نارا. ولأن الرقابة الأدبية الصارمة على النصوص المطبوعة تعني مستوى أدبيا رفيعا فإن إقبال القراء على الكتاب المنشور من قبل دور النشر الذاتي، أي النشر المدفوع الثمن من قبل الكاتب نفسه، أضعف بكثير منه على المنشورات الأخرى. والمعنى المتضمن هنا أن الكاتب إن دفع مقابل نشر كتابه سيكتبُ كما يشاء، وبالتالي فإن القارىء يشك في قيمة الكتاب واستئهاله لما سيدفعه فيه ثمنا. في حين أن الكتاب الذي تدفعُ دارُ النشر أموالا لكاتبـِه سيحوي مضمونا أرفع مستوى وأكثر إرضاءً لذلك القارىء.

أنا لا أقلل من شأن الحملات الوطنية لتشجيع المبدعين، وليس هناك ما يمنع من قبول نشر كل ما يتقدم به الكـُتـّاب. لكن علينا ألا نلبس أهدافنا بوسائلنا. والتشجيع في اتجاه التقدم بالإبداع يجب أن توازيه قنوات للتوجيه والتقييم حتى لا تبور تجارة المبدعين الحقيقيين في محاولة لاثبات الوجود في ساحة تزخر بالأسماء بلا دلالات راسخة على إبداعها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى