الاثنين ٣١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم بيانكا ماضية

رجل الضباب

هاهي شجرة الفردوس التي أحب تفرعاتها، إنها في أبعد نقطة ضمن المشهد المؤطر الذي يرتمي أمامي الآن . أحب هذه السكينة التي تعطيها وقاراً كأنها ارتفعت ليكون إلى جانبها رجل قادم إليها من المجهول ، يسير إليها كمن يمشي إلى حتفه ! إلى أي مصير تأخذك قدماك أيها الرجل ؟

الطريق طويلة ومازلتَ تحبو كطفل نحو تلك الشجرة ولن تصل إليها، سأدعك تتوقف في هذا المكان ... بينك وبينها أميال من الاشتياق، وجبال من الهدى، هيهات أن تصل إليها، ولن تصل، سأجعلك ترى المكان ضبابياً، أنت تنظر الآن إلى البعيد، يأخذك الشوق إليها، ويدب الحنين في أوصالك لتمسك بفرع من فروعها، لكنك لاتستطيع بلوغ مأربك، لأنك لم تدرك بعد أسرار حقيقتها ... كم همست لك بإيقاعات جسدها، بإيماءات أصابعها كي تدخل نسغها، فتعرف من أي جذور تتشرب، من أية تربة تسري الحياة إلى جذعها؟؟!!

أنت سائر وجسدك مفعم بالتيه، تبحث عن أقصر طريق لتصل إليها، ولكن هاهي الطريق ... سأجعلها طويلة وطويلة جداً، وذات منعرجات والتواءات كثيرة، ستشعر بالتعب وأنت سائر في حدودها الضيقة، فوق حصاها التي ستتعثر بها، ولكنك لن تمل فهي هدفك وأنت من ترنو إليه بعينيها، بخضرتها، بتفتح أزرار صباها، هي كشجرة الزيتون، لايعريها شتاء، ولايصيبها قحط أو جدب، ستبقى تومئ إليك من ذاك الأفق البعيد، ولن تألو جهداً لتدلك إليها، لترمي إليك بثمار ناضجة يهفو قلبك إليها لتلتقطها مكللة بالندى ... تميل إليك بقدِّها فتخال أن الضباب انقشع من طريقك، وأنك تراها الآن مثلما لم يرها أحدٌ من قبلك، ولكنك لم تدرك بعدُ أي الطرق أقصرها إليها ...

سأجعلك متعثر الخطا، هائماً على وجهك بحثاً عن رفيف خيالها ... تظن أنها هناك في البعيد جسداً مزروعاً في أديم بستانك، وأن طريقك إليها محفوفة بالريحان، سأجعل سبيلك مملوءاً بالأشواق، مترعاً بوهج الانطفاء، ينزع إلى أن تستظل في واحتها ملقياً عنك تعب الحياة، ولكن أنى لقدميك أن تصل إلى ضفافها ... مازلت أيها الرجل الذي بعثر ذاكرته للوصول إليها بعيداً عن ظلالها المرمية أمامك ... قدماك لاتزالان في خطواتهما الأولى، في حبوك الطفولي نحوها، تود أن تفترش أعشابها، أن تتوسد حضنها لتأتيك الأحلام في غفلة منك، وهي تود أن تصنع لك أساطير من عشق ووله واخضرار ...

انظر إليها؟ هل تدري أنها خبأت لك عناقيد السكر في رضابها، كي ترتشف رحيق روحها؟

تصنعك في خيالها إلهاً لمملكتها، وتود أنت أن تستعبدها، تجعلك نبعاً يفيض زلالاً يسقي وجدَها، وتود أنت أن تختصرها بلمسة واحدة ....

هي مرآتك ... هل ترى في نور صفحتها بهاءك؟ غُص في أعماقها لتدرك ذاتك، أطلق لها تباريح الهوى وانظر كيف ستغفو على ساعديك هديلاً عز عليه اليمام ...

مصلوب أنت على جلجلة جسدها، وتودّك أن تكون حلماً صاعداً إلى السماء بجناحيها، مابالك لاتنسج من صباحاتها حكايات لأزمنة لم تأت بعد؟

ستبقى في هذه الرقعة من المكان، ثمار لوزها وجلنارها والعقيق المخبأ في لحائها تنضح الآن ضياءً، وأنت بقامتك البعيدة ترسل أشواقك للحنايا، للزوايا، للندى على الأوراق، وتتزاحم الكواكب في مداراتك، وتبقى هي القمر المغتسل بماء روحك ...

الطريق طويلة يارجل الضباب، يا أيها المستحم بنور وجهها، تخالها واقعاً، مسافةً من مد الذراع، ولكنها حلم يأتيك ليوقظ الحنين في ذاكرتك ...

تجترح لك المعجزات وتلوِّن حنينها إليك فتصنع لوحات من جسدها لم تخطر على بالك قط، وتخال أنك تدري جوهرها، لكنك لم تبلغ مداها لتدرك سطوح ماسها، ألم تأتك في أحلامك لتصنع عوالمك؟!.

لن تمل المسير إليها، هاهي أمامك في المدى البعيد، والطريق طويلة إليها، سأفرشها لك الآن ورداً وأقحواناً كي تقطف لها ألواناً من ربيعك، فتخال الطريق قصيرة، وأنت تلهو على ضفافها!!!

سأجعل تلك الشجرة تفتح ذراعيها لك أكثر، كي تلمس مدى عشقها لك، ومدى اشتياقها لإطلالة وجهك، وسأجعل هنا وميض قمر ينير دربك!!

كم جميل هذا المشهد الذي أمامي الآن، لم يبق شيء لم أضعه نصب عيني، كل ملمح فيه كائن كما هو في مخيلتي !!

الآن بإمكاني أن أزين الحواف بالألوان التي تناسب رجلاً وامرأة وقمراً يرنو إليهما من البعيد، يلقي بهمساته في درب ذاك الرجل كي يلتقط هسيس حروف يهديها نغمة قصيدة لعينيها...

* * *

رجعت خطوات قليلة إلى الوراء لترى اكتمال اللوحة التي بدأتها بتلك الشجرة، وكانت النشوة قد بلغت مداها في روحها، ثم جلست على كرسي لايبعد كثيراً عن مرسمها، بعد أن تركت ريشتها وألوانها جانباً، وراحت تتأمل اللوحة وفي ذاكرتها رجل خطواته تومئ إلى أنه مثقل بالحكمة !!!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى