الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم نمر سعدي

لمحة عن جمال الترَّفع

سهيل كيوان نموذجاً

من منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي، البسطاءُ في صياغة أحلامنا، المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم"، يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ، كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة، ولا يترَّصدُ الفُرَصَ المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء؟؟

من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة، المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ؟

من لا ينافقُ في أضغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ...حبَّذا.

"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ، هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ، كظلامٍ قاسٍ.

إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع، حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ، من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية، فمنهم من يطعنُ من الخلف، ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن، ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ، تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ.

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً، ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي، فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ، لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ، لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ، وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ، رواياتهُ، مقالاتهُ، حسُّهُ النقدي،سخريتهُ المرَّة،عصاميَّتهُ الفذة، وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية، وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ.

لا أكونُ مغالياً إذا قلتُ أن سهيل كيوان يعدُّ واحدا من القلائل ممَّن يتحلّون بصفات الفرسان النبلاءْ في أدبنا الفلسطيني، فهو من زمرة أدباءٍ قلةٍ عندنا لا يقلونَّ في المستوى الأدبي الرفيع عن مجايليهم في العالم العربي في شيء، ورثوا عن جدهم عنترة بن شدَّاد بعض خصالٍ حميدة، منها العفة، حتى أنهم لا يسألون جزاءَ إقدامهم ويعِّفون عند المغنم.

بدأ كاتبنا حياته الأدبية بكفاحٍ دؤوب وإيمان جميلٍ بقيمة الكلمة التي يعشقها، ولا زالَ يشقُّ طريقه الوعرة بعنفوانٍ ومثابرةٍ يليقان بهِ وهذا هو سرُّ نجاحهِ أدبيّاً وإعلامياً.

من خلالِ معرفتي بهِ إكتشفتُ أنهُ طيرٌ نادرُ الريشِ بينَ أقرانهِ فهو ليسَ كالعديدِ من "الأدباء" عندنا ممَّن يتخذون من التملّقِ، والرياءِ الأدبي، والتمسّح بأعتابِ ذوي النفوذ، والمزاحمة والمخاصمة على أتفه الأمور وسيلةً رخيصةً إلى كُلِّ غاية أرخصَ منها. فهو ينتمي الى نفسهِ قبل كلِّ شيء، الى أفراحهِ وأحزانهِ، آمالهِ وآلامهِ، إنطلاقاتهِ وإنكساراتهِ، ماضيهِ وحاضرهِ ومستقبلهِ. ولا ينتمي الى مدارس الأكاديميين الجافة والجوفاءْ ولا الى نظرياتهم العقيمة التي فشلت في أن تخلق أدباً حقيقياً يليقُ بنا نحنُ العرب،كما لم تفلح في إطلاق طائرٍ اللغة والفن والجمال من عقالِ الطين المتكدسِّ من عصور الإنحطاط إلى فضاءات تشعُّ سحراً. وسماوات مضيئاتٍ بالرؤى وقيم الحريَّة والإنسانية المُشبعة بالمُثل الرفيعة السامية.

سهيل كيوان أديب بكلِّ معنى الكلمة وأعمقِ مغزاها، أجملُ ما فيهِ ترفعُّهُ وجرأة أدبهِ وذكاؤهُ اللَّماحُ، همُّهُ فقط أن يبدعَ ويتطوَّر ويجيد فيما يكتب من رواياتٍ إلى أدب أطفال ٍ مرورا بمقالات إجتماعية نقديةٍ وأدبيةٍ ونصوصٍ مفتوحةٍ على الإحتمالات.

دونَ أن يوارب أو يتسلَّقَ على أكتافِ الآخرينْ كما يفعلُ الأدباء الصغار غيرهُ، لديهِ إستعدادٌ فطريٌّ لقولِ كلمة الحقِّ ولو في وجهِ سلطانٍ جائرْ، ولا يداهن في رأيٍ يقتنعُ بهِ أبداً. منفتحٌ وخالٍ من مفاهيم تتمسكُّ بها الشللية وتنادي بها بأسم الأدب.

سهيل بالإضافةِ الى كونهِ كاتباً ساخراً لاذعاً بإمتياز تعدُّ مقالاتهُ الساخرة فتحاً مبيناً في أدبنا المحّليْ هو أيضاً كاتبٌ إجتماعي واقعيٌّ بإمتيازٍ وتفوقٍّ ونجاحٍ أيضاً. تعتزُّ به فلسطينيتنا وعربيتنا، هذا ما نجده في رواياتهِ ومقالاتهِ الكثيرة وقصصهِ التي لم تنل في ظنيِّ الشخصي حقها من النقد والإهتمام الفلسطيني والعربي. وأرجو أن يأتي ذلك اليوم الذي يُنصَفُ فيهِ أدبُهُ، ولا أظنُّ ذلكَ اليومَ بعيدا أو أنهُ بطيء المجيء.

يملكُ سهيل كيوان طاقة فريدةً وإستثنائية على ليِّ أعناقِ الكلماتْ ونحتها بصورةٍ تبدو وكأنها لُمِّعتْ بأحجارِ الضوءْ، وأنها لم تُخلقْ أبداً إلاَّ لكيْ تُوضع في مكانها المنشودْ والمُحددِّ لها في النصْ، لا قبلْ ولا بعدْ ولا أقلَّ ولا أكثرْ. كلُّ هذا في إستعمال دقيق ورقيق، مُحكم وحكيم لأدواتهِ الفنية، التي يحتلُّ التشويق الأدبي أعلى درجاتها.

أتمنى لهذا الكاتب المتنوِّع الثرِّ، المثير للإهتمام والإعجاب، المسكون بالجمال والتمردِّ على اللغة، الحياة المديدة السعيدة ودوام الإبداعْ والعطاءْ.

سهيل كيوان نموذجاً

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى