السبت ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم محمد عبد العزيز السقا

هيهات .. هيهات

" إلى التي حال بيني وبينها المكان، وأبعدتني عنها المسافات، وما زادني البعدُ إلا حنيناً، وما غابت روحها عن روحي، ولا ضاعت لمستها من يدي. وهيهات أن تغيب...، وهيهات أن تضيع...،"

-1-

كم أحبك!

كلمة هتف بها قلبه رغم ثلاثة آلاف كيلو متراتٍ "بغيضة" تفصل عينيه عن عينيها، يبث إليها مشاعره عبر سطور الصفحات بعد أن كان يبثها إليها عبر الهمسات والكلمات، يرسم من الجُمل هواءً يحمله، ومن الكلمات أجنحةً ترفعه، ومن الحروف معابر للحدود، ومن النقاط قطراتٍ من دمع عينيه، وينسج من السطور رداءَ حبٍ ورديٍ يستر رعشة جسده عندما يتذكرها، يتلمس دفء يديها، الآن يجلس وحده، يقطع أحزانه، يتجاوز مكانه، يأخذه التفكير في عينيهاِ، ويملكُه الشوق إليها، يحدوه صوتها، وتلتقيه بسماتها، وتراقصه ضحكاتها، يلهو مع رسائلها التي لأجلها أحب هاتفه "الصيني" المتواضع، يحفظها عن ظهر قلب، يدون حروفها في صمت، يجلس الساعة والساعتين يقرأها في نهمٍ عجيبٍ كعطشان لا يروى وكشاربٍ من البحر، يُنهكه المسيرُ إليها.. يُغازلُ النومُ جفونَه.. فيغالبَه لتظل عيونه مفتوحة تطالع صورتها التي أهدتها له قبل رحيله الأخير، يُفلح النوم أخيراً في إيقاف رحلة اليقظة، فيبدأ في إبحارٍ من نوعٍ آخر، لا تبحر فيه العين، بل تسري فيه الروح.. فتعانق روحها الشفافة، وتداعب أنامله خصلات شعرها الليلي الداكن، وتهمس نفسه إلى نفسها بأسمى كلمات الشوق، وترسم من أحلامه نسجاً وردياً يلتقيان فيه وحدهما، في كل مرة يَتَلَوَنُ اللقاء، مابين دعابة إلى همسة إلى محادثة إلى تلاقٍ تتلاشى فيه الحواجز، تارة يخرجان معا في نزهةٍ، ومرةً يمرحان كالأطفال، وتارةً يتعانقان كالأغصان، يضع رأسه فوق فراش الدفء المبسوط على نحرها الزاهي، متناسياً همومه وأحزانه، تاركاً أناملها الرقيقة تعبث بشعره ورأسه، تلك الرأس التي فشلت أعظم نظريات الفلسفة والرياضيات أن تعبث بها، يُسلم رأسه طواعيةً، لتعبث بها أناملها، متمنياً ألا تطلع الشمس إلا صبيحة ذلك اليوم الذي حدده القدر لعودته إلى أرضه ووطنه حيث يكون اللقاء على أرض الواقع، و"ليست الحقيقة كالخيال".

-2-

ماقبل اللقاء

أكبر من الوصف... وأوسع من الفضاء... هو حجم الفراغ الذي كانت تحياه عاطفته قبل أن يلقاها.. وكان يقول يومها: أنى لهذا الفراغ أن يمتلأ!! هيهات هيهات... ليس في بنات حواء من تمتلك القدرة على شغل هذا الفراغ... حتى أنه كان يقول ساخراً - لا متكبراً-: (مامن إمرأة في الوجود تملأ عينايا)... كان مبالغاً حين قال ذلك، ولكن لو تعلمون ما أعلم عن حجم عاطفته وفيض مشاعره لالتمستم له العذر، فالحبُ في عرفه وفاءٌ وتضحية وعاطفة لا تتوقف ونبعٌ لا ينضب، لذا فقد كان يبحث عن تلك التي تستحق أن يمنحها قلبه بلا شروط، كانت عاطفته جياشةً كسيلٍ هادرٍ يبحث عن حضنٍ دافئ في أعماق الوادي، فلا يغادره بعد أن يرتمي بداخله فهو يعشق الوفاء ويحلم بديمومة الوصال. لذا كان اختيار الوادي يبدو كالمحال.

- 3 -

لحظة توقف فيها الزمن

دارت عقارب الساعة ومرت الأيام، لتتوقف فجأةً ومن دون سابق إنذار، ويتوقف معها الزمن بأكمله، ويأبى أن يتحرك خطوةً واحدةً من دون أن تكون معه، تصحبه في رحلة الحياة، لقد تحطمت القاعدة وتحققت المعادلة الصعبة عندما رأها، قد وجد قلبه من ظل يبحث عنها زهاء إحدى عشرة سنة كاملةً، هي عمر قلبه الذي ظل كسفينة تاهئة تتقاذفها الأمواج، ترتعد ألواحها من برد الشتاء، تكاد ضلعوها تتحطم من صعقات البرق، وبينما هي تصارع الأمواج إذ وجدت مرفأً دافئاً هادئاً فارتمت بين أحضانه في سكون في مشهد يتأبى على الوصف ويمتنع على التوضيح.

- 4 -

يوم أن لاقاها

سئلته عن يوم أن لاقاها، فقال: "لاقيت بدراً.. منيراً.. مبتسماً.. وضاءً.. رقراقاً، تحتل عينيها منه الجزء الأبهى والأحلى والأجمل... ترتسم بشكلٍ لم أصادفه في حياتي" جلس ينظر إليها، فاغر الفاه، تَسمر لسانه بين الفكين، سرحت أنا بخيالي أتذكرها.. نعم.. كان وجهها كالبدر المنير ليلة التمام، و..قطع خيالي بصوته حيث استطرد قائلاً: لو أنها خاصمت البدر لكان لصالحها الحكم. هو محق.. فهي تمتلك وجهاً صبوحاً ألبسه الله حياءً ومنحته البسمة الخجلة روعة لا تقاوم.

"لم أتصور يوماً أنك بهذا الجمال !!!" كانت هذه هي الكلمات التي نجحت في كسر حاجز الذهول الذي أصابه عند لقاءهما الأول، لتصل إلى مسامعها فتسدل هي ستار الحياءِ الرقيق، وتحمر وجنتيها لتنبئ - وبشكل واضح - أن صاحبة هذين الخدين الورديين الآن تتلقى - ولأول مرة - هذا النوع من الكلمات، ولم لا؟! فهي التي حفظت جمالها وصانت عفتها وأحاطت زينتها بنور العفاف الخالص، وأودعته حجاباً زادها هيبةً تردع العابثين. صبيحة أن لقيها أكلَ طعاماً متواضعاً لم يتجاوز ثمنه جنيهاً مصرياً واحداً، وفاجئته معدته- على غير عادتها- أنها قد شبعت وأنها سعيدة بهذا الطعام... وتعجب كيف حدث ذلك؟! ومالذي دهاكي أيتها الأمعاء أين إعتراضاتك القديمة على الأكلات المتواضعة... وأين اضراباتك التي تعودتي عليها من أجل أن تفوزي بأكل مالذ وطاب من الطعام!! متى تعلمتي الرضا؟! ومن أين جاءتك القناعة؟!... لم يكد يفيق من دهشته وعجبه من معدته حتى فاجئته جوارحه وروحه وخلايا جسده جميعها أنها في قمة الحيوية والنشاط، ومؤشر السعادة أعلن للتو عن وصوله للحد الأقصى، كاد جسده يخالف قوانين الجاذبية فيحلق في الفضاء، بدأ ينظر في ساعته، كأنما يدفع عقرب الثواني للأمام.. منتظراً حلول موعد اللقاء القادم.

- 5 -

لمسة سرمدية

كان يتوق لذلك اليوم الذي سيسمح له بلمس يدها، فهي وردة كان هو أول من اشتم رحيقها، وصافح أوراقها الناعمة الغضة، حدث هذا بعد أن فرغ "المأذون" من كتابة عقد زواجهما. ثلاثة أشهر مرت على اللقاء الأول الذي حدث يوم أن تقدم لخطبتها، لم تلمس يده يدها قبل عقد الزواج، رغم أنه كان في الإمكان، إلا أن قلوباً إعتادت أن تحيا في أجواءٍ صحية تأبى أن تستنشق يوماً نفساً غير مباح، وحانت لحظة اللقاء.. أولقاء اللحظة.. واقتربت الأيدي... تلامست.. اختلطت.. التحمت في عناق عميق، رغم أنه لم يدم أكثر من ثانيتين، إلا أنه كان كافياً لأن تسري روحها في جسده، ولأن ينطبع الإحساس بلمسة يدها على تفاصيل يده، سحبت يدها في حياء واحتفظ هو بروحها بداخله وبلمستها بين أصابعه، ظل بعدها قابضاً أصابعه على راحته، خوفاً من أن يضيع هذا الإحساس، سئلته بعد سنتين عن لمستها وعن روحها اللذين احتفظ بهما لحظة المصافحة الأولى، فأجاب: "هيهات أن تضيع لمستها من يدي، وهيهات أن تغيب روحها عن روحي، و..". ألجمته الدمعة وخنقت صوته العبرة، وتناول قلم الشوق وبراه بسكين جراحاتي، وبلله من دمعات عيني... وكتب يقول:

.....................

.....................................،...............................،.......................،..................،....................،.................................،.......................

اهتزت مشاعري وتزلزل وجداني، فأزحت المرآة من أمامي، وتناولت قلم الشوق وبريته بسكين جراحاته، وبللته من دمعات عينه، وكتبت أقول:

.....................

.....................................،...............................،.......................،..................،....................،.................................،.......................

إذا أردت أن تعرف ماذا كتب فإقرأ هذا المقال، وإذا أردت أن تعرف ماذا كتبتُ أنا، فقط أعد قراءة المقال. فأنا صاحب الإجابة وأنا صاحب السؤال. أصارع آلام البعد وكوابيس الفراق، وأرسم آمال العودة وأحلام اللقاء.. فيسكُب قلمي هذه الكلمات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى