الخميس ١٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

فستانها الأسود

كثيراً ما تمنتْ أن تلتقي بشاب يقترف الشوق إليها، يراها بعينيه شعاعاً يمتد إلى الأبد، مهنته الطيبة والحنان، يسكنها في بيت ينبت القرنفل بين جنباته، يغلب اللون الأحمر على كل ما فيه، الجدران والستائر والآثاث والأضواء والكؤوس والعرائش والأكاليل، فيه شرفة مسربلة بالسكون، وتتسع لشرب القهوة والبوح وتبادل باقات الغرام حتى الصمت الأخير.

كثيراً ما حلمتْ بشاب يكون أهزوجة عرس منتشية في عالمها، وتكون هي نجمة تضيء نفسه وروحه وفراشه ، في الليل تستأنس بروائحه وروائعه، تغفو بين ذراعيه حتى الصباح ، وفي النهار، يحملها في قارب من ورود ورياحين ويأخذها إلى بحر بنفسجي، يغسل أوجاع الروح وقروح الجسد.

كثيرا ما تمنت وحلمت..

غير أن أمنياتها اغتالوها، أحلامها سرقوه، وقيدوا جسدها بالظلام السرمد ، ولكن ما أروعها حين بدت مثل شجرة سنديان تكسّر الفؤوس ولا تسقط.

انهالت عليها القسوة جماعات وفرادى، فلم تبالي بالأشواك الجارحة، ولا بالسكاكين الحادة، ولا بفتاوى اللحى الطويلة، وحين وقفت بشموخ ورفضت العرض المغري الذي قدموه لها، خرجت من عيني الأب جحافل غاضبة، ثم انقض عليها وصدره يغلي كبركان نشيط، ولولا تدخل الأم لكان للقصة موضوع آخر.

أدخلتها الأم إلى غرفتها، مسدت شعرها بحنان، قبلتها، وأخبرتها أن العريس يحبها، صحيح أنه كبير السن، لكنه سيزنرها بالذهب، وسيأخذها إلى عالم جديد ستـُحسد عليه من قبل كل فتاة في القرية، عالم ليس فيه غير العسل والفرح والراحة الدائمة، ثم أخبرتها وهي تبتسم أن العريس سيحول والدها من فلاح فقير إلى مالك للأرض، وربما صار مختاراً للقرية بفضل زواجها.

خرجت الأم من عندها دون حزن أو فرح، أخبرت الأب بما سمعت ، فجاءتها على عجل سياط الرعب ، وقوانين العشيرة، وأدخلتها قسراً إلى زنازين العذاب.

صار النزيف دفاقاً في قلبها، امتهنت القهر أياماً وأيام ، وانتظرت أن تتفتت العواصف إلى نسائم صيف، وسياط الرعب إلى راحات عطف وحنان، ولكن كيف والأب هيأ نفسه منذ أيام ليكون من أصحاب الجاه، وقد ذهب بالفعل إلى الخياط ليخيّط له ثياباً تليق به، والى بائع العباءات ليؤمن له عباءة لم يرتد مثلها أحد، والى مكاتب السيارات يبحث عن سيارة يشتريها ريثما يقبض.

في الصباح قبض، وقبل الظهر اشترى، وبعد الظهر تباهى ، وزمّر، و"تمختر" وفي السادسة بتوقيت ضياع عمرها، حدد موعد سفرها، فهل يعرف أن لا أحد يستطيع ومهما بلغ من قوة أن يبعد الشاطئ عن البحر والمطر عن الغيم والنغمة عن الأوتار والحالمة عن أحلامها؟

مع لعلعة الزغاريد عقدوا قرانها وهي ترسم صمتها على ألواح الصمت، ثم ضحكت في أعماقها بمرارة، ضحكت على نكتة قالوها، وحياة رسموها، ولما حان وقت الضياع، دخلت إلى غرفتها كأي عروس تريد أن تتهيأ لعريسها، وانتظرها الجميع على قارعة الوقت، الأب ليتفرغ إلى نفسه ويرتاح، والأم لتطمئن عليها وعلى الأب، والأخ ليتباهى بين أقرانه بثيابه الجديدة وعطره وسلساله الذهبي، والعريس ليضمها إلى ممتلكاته ، ووحدها الأخت ساورها الخوف على مصيبة آتية.

طال انتظارهم فطرقوا الباب ، لكنهم لم يسمعوا جواباً، صاحوا، طرقوا مرات ومرات، هددوا، توعدوا، ثم كسروا الباب، فتجمدت القامات، طلعت الألسنة ، وانفتحت الأفواه، الأخ جفل، خاف، ولا أحد يعرف على أي شيء خاف، والأم نثرت الويل والويلات، والأب صمت وفكر بشيء آخر، والأخت شهقت ، لطمت ، بكت، وارتمت على الأرض، والعريس لم يشعر بالحزن، نظر إلى الابنة الباكية، رأى فيها أشياء لم ينتبه إليها من قبل، فضحك في أعماقه، فهو قد دفع وما عليه إلا أن يقبض ثمن ما دفع، أما العروس ، فكانت تتدلى في فضاء الغرفة، ترتدي فستاناً أسود، تنظر بسكون وترسم على شفتيها ابتسامة صغيرة هادئة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى