الخميس ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

أعلى ومنتصف القلب

العصافير وحدها اقتحمت خلوتي، رفرفت من حــولي، وظلت الشاهدة على انكساراتي، زقزقاتها منحتني شيئا من الراحة المفقودة وأنا جالس عند الأصـيل الربيعي فوق ضـفاف الأمـاني، أتأمل المرئيات من حولي، وأنتظر الفرج بحنين.

"الله الله يا دنيا، بل الله الله يا قامة!"

صحت باندهاش، وتحولت من السالب إلى الموجب عندما رأيتها تقتحم وحدتي، وتجلس فوق الكرسي الخشبي المقابل لي.

تغيّر سلوك الدم فيَّ، تملكني شعور لمعانقة صفاء وجهـها، ولم أكن في حاجــــة إلى بروتوكول لأصـف فرحي، بقيت أنظر إليها، فدغدغني قلبي، وطلب مني الذهاب إليها، فعدلت هندامي، مسـحت شعري براحة كفي، واقتربت منها بخطوات لا تعـرف الخجل أو الخوف، وقفت أمامها فرأيت الأبهة، ورأيت في مرافئ عينيها أشرعة لسفن سعيدة تتمايل في بحر هادئ ، حييتها بصوت واثق جريء وكأنني أعرف تاريخها وجغـرافيتها، فامتلأت خلاياي بالبهجة حينما أسقطت عليَّ نورا مصفـَّى، ودعتني للدخول في ظلالها الدافئة.

ولكن أي منطـق بربري هذا؟ فأنا لم أكن أعلم أنها تتقن فنون التعذيب أكثر من أعتى الجلادين، ولم يخطـر ببالي بتاتاً أن أكون محطة للامبالاتها.

وعدتني بلقاء جميل في كل أصـيل، لكنها غابت مثلما تغيب الشمس خلف الغيوم الداكنة وتركتني أحتسي قلقي وانتظرها كل يوم حتى أواخر المساء، وبعد تسعة أيام بلياليها جاءت كقوس قزح، جلست إلى جانبي، زنرتني بهسيس الكلام، ثم سكبت عليَّ ماء البعاد من جديد، فتلطخت روحي بالتجاعيد وأنا ارسمها على مدّ النظر إلى أن غابت، وغابت من واحة العمر صفصافة.

صورتها لم تغادر شرفات عينيَّ، وكلما تأخر اللقاء، يراودني البكاء، يغمرني الحزن، ويصادقني السأم، وقبل أن ينهار صبري، أهرب من فراغ إلى فراغ، انزوي تحت جدران أو أشجار، أتسلى بمناظر رسمها خيالي، مناظر مزينة بشهوة غير مكتملة، ثم أتابع سيري في طريق لا أراها إلا سـوداء، لعلني أرى القامة التي تعرش فيها الطفولة صدفة، فلا أجد غير وشوشات الحزن عند أفق الغياب، وحين يتمكن مني التعب، أذهب إلى الحديقة، أجلس على الكرسـي الذي جلست عليه أول مرة، أساله عنها، فيئن تحت ثقل جسدي ولا يجيب، عندئذ التفت إلى العصافير، أسالها بلهفة عنها، فتزقزق وترفرف من حولي، أفهم من زقزقاتها أنها تقول: عروس عمرك هاربة منك، ولكن لا تخف أيها العاشق، ستأتي إليك راكضة وحافية القدمين حين يأمرها القلب.

طال الغياب شهراً كاملاً، فعرشت الحسرة في حناياي، لأنني فقدت الوصل والوصال، لكنني بقيت أحلم به وأحلم، وأتمنى أن تقاسمني رغيفاً شهياً ووروداً ليلية.

أينع الانتظار على نوافذي وأبوابي كدالية، فصـممت على الذهاب إلى بيتها، وهناك، تجمد قلبي وهزه هواء البكاء، وحين عدت إلى البيت بقيت في الأسر أسبوعا ًكاملاً، ثم وضعت الملح على الجرح وسكت، فما حصل قد حصل وليس بمقدوري تغييره.

رحلت إلى عالم يبدو أنه لذيذ بالنسبة لها، لكنها لم تبتعد عني، ويبدو أنها اعتبرتني لعبة مسلية بالنسبة لها، فكلما سنحت لها الفرصة، وبعيداً عن عين الرقيب الجديد، كانت تزرع قامتها أمامي فسيل فل، تفرش لي بساطاً من ود بين العينين والشفتين حتى استطاعت إقناعي بأن ما حصل كان رغما عنها، أما أنا فبقيت مثل عصفور سيّجه الظلام وأنهكه العذاب.

اختفت من عالمي مرة أخرى ولأشهر عدة، فصار الحزن مهنتي الوحيدة، وفي صباح شبه بائس، كنت ممدداً في فراشي، أعاني من أرق وفوضى عارمة في الشعور، وحين رن جرس الباب، نهضت بتكاسل ووجهي ثابت القسمات، فتحت الباب بيد كسولة، فالتمعت عيناي في ذهول وأنا أراها واقفة أمامي بوجه يشبه القمر المكسـور، بينما الندم يتعلق به كاللبلاب، بقيت ساكنا كعمود للحظات وأنا أغرز نظراتي في رموش عينيها، أما هي فلم تنتظر، ألقت بجسدها في حضني واغرورقت عيناها بالدموع.

انتشلت نفسي من وسط كومة الذهول، ربت على كتفيها، مسحت دموعها، تحسست خديها ودعوتها للدخول.

قالت وهي تمسح دموعها بمنديل ورقي:

 ظلك لم يفارق ظلي لحظة واحـــدة، وحين أمرني قلبي بالمجيء إليك، أنهيت كل شيء وجئت لأكون لك وحدك فهل تسمح؟

 سمعت أنك لم تتزوج بعد. أضافت حين لم تسمع ردي.

رفعت رأسي، عانقت عينيها، فارتوت عيناي من صدق لا ينضب، ومن شوق لا نهاية له:

 نعم، وبقيت انتظرك.

نهضت فجأة، عانقتني كموجة دافئة، غسلت خدي بدموع تتلوى على خديها القطنيين، ثم جلست إلى جانبي، وأرسـلت ببطء إلى يدي عشرة أصابع من حنان وحنين، وآن تذوقت يدي حرارة عجيبة، وشعرت بخدر لذيذ، مددتها فوق أعلى ومنتصف القلب، لكنها نهضت وهي تبتسم، وأخذتني إلى نهر يتلألأ مائه ويسير نحو وديان مليئة بالظلال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى