الأحد ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٢
كتاب جديد لمحمد السامرائي

ابو حيان التوحيدي انسانا واديبا

ازدهر النشر العربي بصورته المتميزة في العصر العباسي الى حد كبير في موضوعاته. فأخذ يزاحم الشعر في إبراز أغراضه مدحاً وغزلاً وهجاءاً ورثاءاً وشكوى، كما صور النثر الحياة عامة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية أم عقلية. من خلال الرسائل بأنواعها الأدبية والاخوانية والرسمية (الديوانية) وآداب السمر والحكايات التي تمثل ضرباً من الاتجاه الشعبي في هذه الجوانب من النثر. ويعد أبو حيان التوحيدي (علي بن محمد بن العباسي التوحيدي 312-414 هـ) من أبرز كتاب النثر القديم، وهو تلميذ مدرسة الجاحظ ومن الذين نالوا حظوة ومكانة عند الباحثين رغم الاختلاف البيّن في سنة ولادته ووفاته، فقد عده ياقوت الحموي في معجم الأدباء "شيخ الصوفية" وفيلسوف الأدب، وأديب الفلاسفة ومحقق الكلام. ومتكلم المحققين وأمام البلغاء" "فرد الدنيا لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل حفظه، واسع الدرية والرواية". جعله السبكي في طبقات الشافعية الكبرى من فقهاء الشافعية ومن المؤرخين الكبار اللامعين. كذلك أعجب به من المحدثين، بفكره وأسلوبه "آدم متز، الذي اعتبره "أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق" في حين جعله زكي مبارك على رأس كتاب الآراء اوالمذاهب في القرن الرابع الهجري. وهذا الكتاب "أبو حيان التوحيدي انساناً واديباً" يبين بجلاء منزلة هذا الأديب الموسوعي الذي لم يذق من كده وعلمه سوى الصدود والحرمان على الرغم من شهرته التي طبقت آفاق الأدب والنثر العربي القديمين على حد تعبير مؤلف الكتاب. يتوزع الكتاب على ثلاثة فصول وخاتمة، تناول الفصل الأول منها، "أبو حيان التوحيدي الانسان" موضحاً الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية إبان القرن الرابع الهجري وأثرها على مسيرة التوحيدي في رحلته الشاقة مع ذوي السلطان والجاه الذين نال منهم الجفاء والصدود باعتباره إنساناً مبدعاً له حق العيش مثل بقية الناس. ويرى المؤلف أن الصورة القاتمة بجوها الملبد بالاضطرابات السياسية هي التي ميزت عصر التوحيدي، فقد برزت من الناحية السياسية سيطرة الدولة البويهية ابتداءاً من سنة 231 هـ. فما أن دخل البويهيون بغداد عاصمة الخلافة الاسلامية حتى قبضوا على الخليفة العباسي المستكفي (ت 334 هـ) والخليفة المعتضد الذي أودع السجن حتى وفاته سنة 338 هـ.

ظهر التوحيدي من سنة (347 – 400 هـ) أديباً فقيراً من رواد القصور مريضاً بجملة من الأمراض النفسية أبرزها شعوره بالخيبة. ولعل انتقاله من حياة أوساط الارستقراطيين الى التصوف يدلل لنا على أنه الأديب الذي وصل الى مرحلة من اليأس والشؤم حتى أقدم على حرق كتبه. إعلاناً (ونتيجة) لتمرده على الحياة التي يعيشها. انتهى التوحيدي بعد تلك الرحلة العلمية الشاقة الى الموت فقيراً بائساً في إحدى زوايا مدينة شيراز اعتقاد منه بقلة جدواها " وضنا بها على ما لا يعرف قدرها بعد موته" ولا يبالي أبو حيان في إظهار وضعه هذا بل هو يعترف بجرأة بذلك في كتابه الاشارات الالهية. ونحس في كتاباته بقدرته على استبطان الذات واستقساء جوانب النفس، وأن مناجاته ذات غور عميق، وضعها في سجعات غير مستقرة وجادة. ويرى الباحث أن كتاب "الامتاع والمؤانسة" للتوحيدي هو من أهم كتبه والكتاب تضمن مسائل عديدة ضمتها ليلاليه الاربعون وعرض فيه لمسائل الفلسفة والدين والمنطق ، واللغة والنحو والحكم والأمثال والعادات والتقاليد الاجتماعية، إضافة الى ما احتوى عليه من جوانب فلسفية وثقافية فكرية جعلت منه عملاً موسوعياً. أشار التوحيدي في كتابه هذا الى قضايا تدل على نزعته النقدية، فهو لم يكن مجرد مصور لعصره ذاك: بل شاهداً عليه، ناقداً ناقماً، رافضاً، مرفوضاً معاً، ومن آثاره في البيئة والعصر أنه كثيراً ما ألمح توحياً لغرض مقصود وهدف يرمي اليه، فنراه حين يتكلم عن الماضي يقصد الحاضر، والقارئ لسرده للحوادث وذكر الاشخاص، يؤرخ بعلمه وذاكرته الحافظة الواعية لحقبة ما يعيش أحداثها.

عاث البويهيون في العراق خراباً وفساداً، وفعلوا الأعاجيب من اقتسام الملك، وبث الفوضى والعبث بالخلفاء المسلمين طيلة 113 سنة فترة تسلطهم على العراق، وقد صور التوحيدي ذلك لأنهم أرادوا محو الوجود العربي، فكانوا على حد قوله "أعجوبة الأعاجيب في اقتسام الملك وانتشار الفوضى، وذيوع الفتنة والاضطراب والعبث بسلطان الخلفاء، والتحكم في مصايرهم على ما يحلو للمهيمن المتسلط من الولاة والحكام". فعصر غلبت على أيامه قسوة الحكام البويهين والمواجع التي قاسى منها عامة الناس، طالت سلبياته الكتاب والأدباء، الذين ذاقوا من تلكم الانعكاسات السلبية الأمرين، ومنهم التوحيدي الذي نجده وقد تأثر بظروف عصره السياسية، وقد انعكس ذلك كله في مسامراته للوزير ابن سعدان، إذ غالباً ما تراه ينفعل إزاء ما يسمع، ثم يتخذ مواقف سياسية جريئة في كتاباته، ويصدر أحكاماً في رجال سياسيين اشتهروا في عصره كالصاحب بن عباد وابن العميد وابن سعدان مسامره في الامتاع والمؤانسة. ونجد كل ذلك حين أشار للعامة في الامتاع والمؤانسة وروايته لحكايات الشطار والعيارين، وما فعلوه من اضطرابات في البلاد من حركات وتمرد على السلطة علاوة على النقد الذي وجهه التوحيدي في أمثاله ونوادره التاريخية والسياسية. ويعد الواقع السياسي آنف الذكر كما عكسته مؤلفات ابن حيان – للحالة الاجتماعية العامة، امتداداً حتمياً للحالة السياسية القائمة وقتذاك، وقد أورد أبو حيان أمثلة كثيرة عن حالة البؤس التي انحدر اليها مفكرو وأدباء عصره. فهذا استاذه (أبو سعيد السيرافي) وعنده عالم العالم وشيخ الدنيا ومقنع أهل الأرض، لكنه كان "ينسخ في اليوم عشر ورقات بعشرة دراهم ليعيش". وتناول الفصل الثاني من الكتاب، "أبو حيان التوحيدي أديباً، أفكار الكاتب التي ضمنها في مصنفاته الوافرة وانتقاءه الألفاظ والعبارات ذات الجرس والوقع الجميل على الأسماع، مع الاشارة لاتصالات التوحيدي بأبي عبدالله العارض المعروف بابن سعدان (ت374). وتوقف عند الكتاب الأشهر لأبي حيان التوحيدي "الامتاع والمؤانسة" الموسوعة الشاملة للفلسفة والثقافة العامة. الفصل الثالث حمل عنوان "من أدب التوحيدي" وفيه تناول الباحث المادة الشعبية التي شكلت جزءاً من أدب التوحيدي في هذا اللون "الأمثال: أحاديث الزهاد، أصحاب النسك والادعية والوصايا والحكم، ومن كلام العامة، ولغة المولدين وألفاظ السباب". أما "القصص والحكايات والنوادر" فكانت مادة المبحث الثاني في هذا الفصل، فعرض فيه القصص العربية والحكايات وقسمها الى أربع، حكايات الوعاظ والحكايات البطولية وحكايات الشطار والعيارين، وحكايات الحيوان.

كتاب بحثي مهم عن كاتب يشكل وجوده قامة استثنائية في الثقافة العربية.

الكتاب: أبو حيان التوحيدي إنساناً وأديباً
المؤلف: محمد رجب السامرائي


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى