الأربعاء ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم محمد عبد العزيز السقا

أسود وفئران

هذا السؤال طرحه علي صديق لي كان يحدثني عبر الإنترنت .. ثم لم ينتظر إجابتي .. وراح يكتب بعض (وليس كل) ما استقر في وجدانه بل ووجداني...

ما رأيك في شعب فلسطين؟!

هل ظننت أن شعبا ًيكون حريصاً على المقاومة حتى الموت كهذا الشعب؟ .. الشعب كله يقضي ليله إضافة إلى جمع الأشلاء وإزالة آثار العدوان قراءة قرآن وتهجد ودعاء .. ذكرونا بمدينة رسول الله حين كان الداخل إليها ليلا يسمع أزيزا كأزيز المرجل من البكاء، شعب بلسان الصهاينة الإسرائيلين ـ أخزاهم الله ـ حريصون على الموت حرص الصهاينة على الحياة.

رغم الحصار والتجويع .. رغم أنه لا مستشفى ولا دواء .. رغم أنه لا فرش ولا غطاء .. رغم أنه لا بيت ولا كساء .. رغم أنه لا طعام ولا ماء .. رغم أنه لا وقود ولا كهرباء .. إلا أن هناك الله رب الأرض والسماء .. لذا لم يداهنوا أحدا ولم يطلبوا بمسكنة أو ذلة من أحد .. فعقيدتهم تقول: ماذا وجد من فقد الله وماذا فقد من وجد الله؟!.. فهل فقدوا شيئا ؟! وهل ملك أعداؤهم شيئا .. لا وربي .. ما فقدوا شيئاً وما ملك عدوهم شيئاً .. بل ملكوا كل شيء وعدوهم صفر اليدين.

إنهم رجال .. أحرجو وفضحو العملاء وأذنابهم .. وبين الله بهم للأمة عدوها من ابنها .. ومنافقها من صادقها ..

لهم استراتيجية عالية في الفعل ورد الفعل، فلا تراهم ينساقون وراء انفعال، ولايخضعون لخديعة، يعلنون أنهم قرروا الانتصار .. أمنيتهم الاستشهاد، لكنهم يريدون النصر للأمة وللإسلام وليس الشهادة فحسب، لذلك كان هذا التكتيك العالي منهم شعارهم (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ..وهم القلة الصابرة إن شاء الله.

أري أن الخاسر في هذه المعركة الجميع عدا هؤلاء .. الكل بلا استثناء خاسر حتى نحن !! لأن الجميع لم يكونوا على مستوى النصرة .. ورغم ذلك فالمجاهدون في أرض الرباط على مستوى تحمل الأمانة والمسئولية. ليس لديهم ما يخسرونه !! لذا لن تستطيع إسرائيل ومن خلفها أن تهزمهم .. لأنك ببساطة لا تستطيع هزيمة إنسان ليس لديه ما يخسره. الحل الوحيد لتهزمهم إسرائيل ومن خلفها العالم المتواطئ أن يعطوهم شيئاً يمتلك قلوبهم ويجعلهم يتعلقون بالحياة الدنيا ثم ينزعونه منهم ويساومونهم عليه.. وهذا ما قررت المقاومة أنه لم ولن يحدث.

التنسيق بين أذرع المقاومة يدل على أنها تطلب الآخرة وماعند الله خيرلٌ وأبقى .. فلم يتنازعوا أو يتقاتلوا بينهم رغم المحاولات الماكرة المستميتة للايقاع بين الفصائل المجاهدة في غزة .. فرغم تعددهم وتنوعم إلا أنهم جسد واحد .. نعم يتنافسون ولكن على أسر وقتل الصهاينة الاسرائيليين تقرباً إلى الله بذلك.

منبهرٌ أنا .. بل في حالة ذهول من الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة على حد سواء .. فالشعب تفوق على نفسه وعلى كل شعوب الأرض في صموده واستخفافه بالعدو المحيط به، والموت الذي ينتظره خلف كل باب ومع كل نفس وأمام كل ناصية وعلى مدخل كل حارة أو زقاق وفي أي لحظة من ليل أو نهار، شعارهم (لن نركع .. لن نعبد ماتعبدون .. الله مولانا ولا مولى لكم .. إحدى الحسنيين .. حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدا ..)

أتمنى أن تكون هذه الأيام نقطة تحول في مفهومي عن الحياة، لكني أعترف أني سرت أسير هذا الشعب وأسير عجائبه التي أعادت لنا ذاكرة الأمة المجيدة العزيزة.

لقد عشنا دهوراً طوال نعظم موقف الخنساء التي ضحت بأولادها الأربعة في سبيل الله، وفي الوقت الذي نطمح فيه أن تكون بين نساءنا ولو واحدة مثل الخنساء، ها هم نساء فلسطين " أقلهن خنساء".

اسمع حديث قادة الجهاد والصمود من كل الفصائل!! .. واسمع حديث زعماء العصابات الإسرائيلية!! وستعلم من الأقوى نفسياً، ومن صاحب النصر المؤكد والتخطيط الأعلى، لقد أرادت اسرائيل من المقاومة أن تطلق صواريخاً لا تحصى بانفعال بعد الضرب بالطيران .. ولكن فوجئوا أنهم لا يتقاتلون مع من اعتادوا اللعب بهم ..بل يتقاتلون مع رجال يعرفون متى وأين وكيف ؟! وذلك غريب على الساحة الاسلامية لم نره منذ زمن قديم .. أعادته الينا فصائل المقاومة بردودها المتدرجة، على طريقة (إذا أردت أن يخشاك عدوك وينهزم أمامك فأطلعه على جزءً مما عندك يعلم منه أنك غامض بالنسبة له ما لا يعرفه أكبر بكثير مما يعرفه) وهذا ما نجحت فيه المقاومة وصورته واقعا على مسرح الأحداث.

وهنا اسمحوا لي أن أقرر أن كل ما ذكرته لكم هو نصرٌ لا يدانيه نصرٌ في نظري - ولكلِ نظره- وأهل الآخرة لهم منظارهم الخاص فانظر منه مثلي ترى ما أراه (وكان حقا علينا نصر المؤمنين .. إننا لننصر رسلنا والذين آمنو في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، إلا أن النصف الآخر من الحقيقة هو أن المقاومة تنتصر الآن على الأرض سواء بمنظار أهل الدنيا أو أهل الآخرة .. وهل هناك مؤمنون على ظهر الأرض كهؤلاء؟ وهل هناك قلة تجمع عليها عدوها كهؤلاء؟ وهل هناك قلة صمدت كهؤلاء؟ وهل هناك كهؤلاء ؟! .. لا لا لا .. لا أظن كهؤلاء.

الجميع قال إن ظروفهم غير ظروف حزب الله .. وأرضهم غير أرض حزب الله.. وعتادهم أقل من حزب الله، وامدادهم أقل وأعداؤهم أكثر .. ولكن المقاومة الباسلة قلبت الموازين وحولت نقاط الضعف إلى عناصر قوة فإلتجئت إلى الله وراهنت على صمود شعبها البطل لذا فأنا أري أن نصرهم سيكون أشدُ من نصر حزب الله والبداية تشير لذلك وتؤيده، وغدا مفاجآت ومفاجآت.

يا ليتني كنت رصاصة من رصاصاتهم، ويا ليتني كنت أحدهم أو أي شيء من أحدهم .. بدلاً من أن أكتفي بالمشاهدة والمتابعة بشغف حتى أرى كيف تسير الأمور وإلام تؤول .. في حين أجد المجاهدون لا ينتظرون أن يشاهدوا النهاية فهم مستعدون للموت في أي لحظة، فهم لا ينتظرون أن يكونوا مثل صحابة رسول الله المتأخرين الذين فتحوا الدنيا وملكوا كنوزها، أجدهم كذلك - وفي الوقت نفسه- لا يريدون أن يكونوا مثل سيدنا مصعب الذي مات قبل رؤية النصر والتمكين للمؤمنين !! ولا يريدون أن يكونوا مثل سيدنا ياسر والسيدة سمية الذين اسشتهدا في فترة الاستضعاف في مكة.. إنما هم يريدون أن يكونوا جاهزين عندما تحين اللحظة

إن كانت كلحظة ياسر فهم مستعدون.. وكلهم يبادر ليكون ياسراً لأن اللحظة تحتاج ياسراً ..

وإن كانت كلحظة مصعب فهم مستعدون.. وكلهم يبادر ليكون مصعباً لأن اللحظة تحتاج مصعباً ..

وإن كانت كلحظة الفاتحين للأرض الذين ملكوها .. فهم مستعدون وسيفتحون الدنيا حين تحين اللحظة وهي قريبة أراها .. أو أكاد أراها.. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ..

نحن نتكلم ثم نتكلم ثم نتكلم .. أما هم فإنهم يجاهدون، فيتجاهلهم أعداؤهم، فيجاهدون فيسخر منهم أعداؤهم واصفين إياهم بالعبثية، فيجاهدون فيهزمون أعداءهم .. لقد قرروا أن يقدموا نموذجاً للأمة حتى النهاية.

حتى ولو كانت النهاية أن تكون غزة أخدوداً يدفنون فيه عن بكرة أبيهم فهم مصرون على الإكمال ليكون نموذجهم مشرفاً حتى النهاية .. إلى آخر رمق في آخر واحد منهم كما أعلن قادتهم أول أمس.

توقف صديقي لحظات عن الاسترسال ورفع عينيه عن لوحة المفاتيح إلى شاشة الكمبيوتر، فوجدني قد كتبت بخط عريض إجابة على سؤاله الذي كان موجهاً إلي عن رأيي في شعب فلسطين فوجدني قد كتبت:

"حاسس إني فار"

كنت قد كتبها وجلست أقرأ كلماته في صمت، حين قرأ إجابتي مستحضراً في ذهنه صورة جسدي العملاق ابتسم وكتب قائلا " كلنا يا صديقى أمام بطولتهم فأر" بل وبعضنا "أقل من الفأر" ..

القارئ العزيز: أتمنى أن نحاول الخروج من قصة صراعهم مع الباطل بقيمة تكون فلسفة لما بقى من حياتنا وحين نفعل سنتحول إلى أسود تزأر ..

وعدني صديقي أن يفعل .. ووعدته أن أفعل .. والأيام بيننا تحكم .. هل سنصير أسودا تزأر أم سنظل مجرد فئران تختبئ في الجحور .. تمشي في أحسن لحظات شجاعتها حذرة إلى جانب الجدران! أما معظم أيامها فانها تقضيها داخل الجحور أو تحت الجدران.

القارئ العزيز: هل لازلت تصر على أن تعيش فأراً بين الجحور أم أسداَ يمتطي ظهر الحوادث والجسور؟!

لك الإختيار وبيدك القرار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى